استقبل محمود عوض، وهو حارس برج سكني بحي الزيتون بالقاهرة، تصريحات وزير التربية والتعليم، رضا حجازي، عن سَن عقوبة ضد الأهالي الذين يتسرب أبناؤهم من التعليم، بابتسامة ساخرة، قبل أن يتساءل باستنكار "مش لما اللي جوه المدارس يتعلموا، يبقى يدوروا على اللي هربوا".
لا يضع عوض الذي يعول خمسة أبناء، أملًا كبيرًا على التعليم، ولا يبدو مقتنعًا بضرورته، بعد أن أنجز ثلاثة من أبناءه شهادة الدبلوم المتوسط، ثم جلسوا إلى جواره عاطلين عن العمل، لذلك لم يزد حظ ابنيه الأصغر من التعليم عن الصف الرابع الابتدائي، قبل أن يلحقهما بحرفة، يستطيعان من خلالها مساعدة الأسرة في تدبير احتياجاتها، أمام ارتفاع معدلات الغلاء وضعف الراتب الشهري الذي يتحصل عليه من حراسة البرج السكني.
يقول للمنصة "لا فيه تعليم كويس، ولا فيه فرص عمل، ولا فيه فلوس أقدر أصرف عليهم، وما فيش غير رايحين المدرسة، جايين من المدرسة، واللي عايز يتعلم كويس يروح الدروس بفلوس، وأنا مش معايا أصرف، فالأفضل أقعدهم جمبي وأخليهم يتعلموا مهنة تنفعهم لما يكبروا.. واحد في ورشة عربيات، والتاني في مغلق خشب، وأهم بيساعدوا معايا في المصروف".
قبل أيام، أعلن رضا حجازي أمام مجلس النواب، أن وزارته بصدد التقدم بمشروع قانون يعاقب الأسرة التي يتسرب أولادها من التعليم، دون أن يحدد طبيعة العقوبة المنتظر تطبيقها، لكنه أشار إلى إمكانية وصولها إلى الحبس لمن انقطع أبناؤهم عن التعليم لعامين وأكثر، وهي العقوبة التي ما أن سمع عنها الأب حتى ضحك "ما كده كده العيشة بالنسبة للبسيط اللي زي حالاتي عبارة عن سجن، يا دوب بيقدر يعدي يومه بالقليل، فمش فارقة كتير".
إعادة تدوير لما هو مرفوض
وفقًا للأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في أبريل/ نيسان من العام الماضي، فإن إجمالي المتسربين من المرحلتين الابتدائية والإعدادية عن عام واحد (2020)، بلغ 150 ألف طالب، بينهم 28 ألفًا في المرحلة الابتدائية، و121 ألفًا في المرحلة الإعدادية، دون أن يحدِّد الجهاز الأسباب التي دفعت كل هؤلاء لترك الدراسة.
وربما تبلور أفكار محمود عوض موقفًا لشريحة ليست قليلة من الأسر الذين يضطرون أو يدفعون أبناءهم للتسرب من التعليم، بسبب صعوبات المعيشة وارتفاع مستوى الفقر، مع تراجع دور المدرسة الاجتماعي، وغياب الثقة في جدوى التعليم في ظل ارتفاع معدلات البطالة.
وبعيدًا عن اعتبار الحكومة بذلك الموقف من عدمه، ومبرراتها التي صاغت من خلالها مشروع القانون، فإن وضع عقوبات على الأسر التي يتسرب أولادها من التعليم ليس جديدًا، وسبق أن رفضه مجلس النواب في فبراير/ شباط 2020.
وقتها، حاول وزير التربية والتعليم السابق طارق شوقي أن يقنع البرلمان بحتمية "الجزاء"، لكن النواب رفضوا تمرير مقترحه، لتحميله المواطن أعباء مالية جديدة، خاصة الفقراء، في ظل ضعف المنظومة التعليمية وتنامي الاعتماد على الدروس الخصوصية.
في ذلك الحين، كان المقترح الذي قدمه شوقي لمجلس الوزراء قبل أن يرفضه البرلمان، يتضمن رفع غرامة الغياب عن المدارس من 10 جنيهات إلى 1000 جنيه، وكذلك تعليق استفادة المحكوم عليه (الأب أو صاحب الولاية التعليمية للطالب) من الخدمات المطلوب الحصول عليها من الجهات الحكومية، والهيئات العامة، ووحدات القطاع العام وقطاع الأعمال العام، والجهات التي تؤدى خدمات مرافق عامة، كلها أو بعضها، حتى عودة التلميذ للمدرسة.
وينص الدستور صراحة على مجانية التعليم، لكن الوزارة لا تطبق ذلك النص في مختلف تعاملاتها بالمدارس
لم يبدُ أن رضا حجازي، الذي عايش وقائع تلك الفترة عندما كان نائبًا للوزير، تأثر بموقف النواب أو استفاد من أسبابهم في رفض القرار الذي اضطرت الحكومة لسحبه، فأعاده من جديد وبنفس الفكرة تقريبًا، رغم أن رفض لجنة التعليم والبحث العلمي في البرلمان، ارتبط بمخاوف من الطعن بعدم دستوريته.
التعليم لمن يستطيع إليه سبيلًا
من وجهة نظر الأكاديمي بجامعة حلوان والخبير التربوي وائل كامل، فإنه مهما كانت العقوبة المنتظر توقيعها على الأسرة بسبب التسرب من التعليم، فإن ذلك يعكس انفصال الوزارة عن الواقع، حيث يفترض بها أولًا أن تبحث في الأسباب التي دفعت هؤلاء الطلاب للهروب من المدارس من دون رجعة.
وينص الدستور صراحة على مجانية التعليم، لكن الوزارة لا تطبق ذلك النص في مختلف تعاملاتها بالمدارس، فتارة تشترط تقديم ملفات الطلاب إلى المدرسة بدفع المصروفات كاملة، وأخرى تشترط دفع المصروفات لاستلام الكتب الدراسية.
حجة للهروب
مصدر رفيع بالوزارة تحدث للمنصة، شريطة عدم الكشف عن هويته، وهو مسؤول بقطاع التعليم العام، قال للمنصة إن "التعليم" ستترك تحديد العقوبة لوزارة أخرى "المرة دي هنسيبها لوزارة العدل تحطها بشكل قانوني ودستوري، علشان ميكونش فيه شبهة عدم دستورية، احنا هننسق معاها ونقولها الفكرة والهدف وهي تحدد العقوبة، لكن مش معقول هيكون فيه حبس زي الوزير ما قال، علشان مش هحبس حد لمجرد إنه معلمش ابنه، ده مش هيحصل".
وسواء كانت دستورية أم غير ذلك، فإن أي عقوبة سيتم تطبيقها من وجهة نظر الأب عوض، لن تكون ذات جدوى مع أغلب الأسر التي قررت أن يقاطع أولادها المدارس، "لما يمنعوا عننا التموين، ما كده كده مبقاش بيأثر كتير مع الغلابة، وكله محصل بعضه، ولو وقفوا تكافل وكرامة، الناس هتقولك ولادي لما بيشتغلوا بيعوضوني عن أي فلوس الحكومة بتديهالي".
إدارة من دون إدارة
صحيح أن وزارة التعليم لديها قائمة طويلة من الفئات المعفاة من المصروفات الدراسية، لكن ذلك لا يكفي وفق الباحث التربوي وائل كامل، لتشجيع بعض الأسر البسيطة على تعليم أولادها، مبررًا كلامه، بأن "المدرسة مبقتش بيئة للتعليم، بقت بيئة طاردة للطلاب، شوف نسبة الغياب قد إيه، والأب بيحتاج كام علشان يعلم ابنه في مدرسة حكومية عادية.. يا ياخد درس خصوصي، يا يبقى جاهل، طب الناس هتجيب منين؟".
إلغاء الإدارة المركزية للتسرب التعليمي، وتهميشها بحيث تكون إدارة عامة، يوحي بعدم جدواها من وجهة نظر القيادات التي ترسم السياسات التعليمية
ما يلفت الانتباه، أن وزارة التربية والتعليم، وهي تبحث عن إقرار عقوبة لمحاربة ظاهرة التسرب من التعليم، ألغت الإدارة المركزية للتسرب من التعليم، ضمن هيكلها الإداري الجديد، الذي أُقر قبل أسابيع قليلة، وجعلتها مجرد إدارة عامة، ما يعكس من وجهة نظر قياداتها، عدم جدوى أن تظل إدارة مركزية يتولى مسؤوليتها قيادي كبير بمنصب وكيل وزارة.
وقال مسؤول سبق له العمل بالإدارة، طالبًا عدم الكشف عن هويته، لأنه لا يزال يعمل بأحد قطاعات الوزارة، إن إلغاء الإدارة المركزية للتسرب التعليمي، وتهميشها بحيث تكون إدارة عامة، يوحي بعدم جدواها من وجهة نظر القيادات التي ترسم السياسات التعليمية، معلقًا "كنا زمان بنعمل شغل كويس جدًا، وبنفكر خارج الصندوق، لما كان عندما ناس في كل مكان بكل إدارة تعليمية بينزلوا يشوفوا الطالب ده انقطع ليه عن المدرسة، وإيه سبب التسرب، وبنتحاور مع أهله ونعالج مشكلته".
أضاف "كان عندنا قاعدة بيانات بكل طالب في مصر بيتسرب من التعليم، وبننزل نقابل أهله ونعرف فيه إيه.. لو عنده مشكلة اقتصادية بنوفر لأخوه الكبير أو والده وظيفة في شركة أو مصنع أو نديله إعانة شهرية بالاتفاق مع وزارة التضامن، مقابل إن ابنه يرجع المدرسة.. لو مش معاه فلوس يتعلم نجيب له شنطة وأدوات مدرسية ونعفيه من المصاريف بالتعاون مع المجتمع المدني.. لو عنده مشكلة في القراءة والكتابة نوديه مدرسة مجتمعية علشان نحسن مستواه من خلال مشروع القرائية حتى لو كان بقاله سنتين في الشارع.. الحل يبقى كده".
أشار المسؤول ذاته، إلى أن "العقوبة المزمع تطبيقها، ستكون بلا جدوى"، مبررًا "الناس معهاش فلوس تعلم، يعني الموضوع اقتصادي بحت، ولو الوزارة عايزة تحل يبقى تنزل وتشوف وتعمل دراسات ميدانية وتقدم للحكومة أبحاث تحدد فيها أسباب التسرب الأول، علشان يكون فيه حلول مناسبة، لكن العقوبة، ولا حد هيفرق معاه".
الحل من وجهة نظر التربوي وائل كامل، أن تكون المدرسة جاذبة "الناس بقت شايفة إن اللي جوة المدرسة زي اللي برة"، وبالتالي، حسب قوله، مطلوب من الحكومة أن تلتزم بتطبيق مجانية التعليم وتعيد المدرسة إلى سابق عهدها، لأن استمرار الضغوطات الاقتصادية، سيجعل بعض الأسر تتعامل مع التعليم بشكل هامشي، وحينها لن تستطيع أي عقوبة أن تمنع ذلك.
هكذا الأب عوض، الذي صار يتعامل مع المدرسة كعبء مادي ونفسي ومضيعة للوقت والجهد والمال، لم يجد سبيلًا للخلاص منه وضغوطاته إلا بحرمان ابنيه الصغيرين من استكمال الدراسة، معقبًا في ختام حديثه "طالما أن عايز أوفر لقمة العيش وأستر ولادي، يبقى الأولوية إني أوفر للحاجة اللي هتخليني مستور، وهقولها تاني، لما أحس إن التعليم بيفرق في المستقبل، أبقى أعاتب نفسي إني حرمت ولادي إنهم يكملوا دراستهم".