لو كان لدينا في مصر نظام سياسي تعددي يقوم على تداول السلطة عبر انتخابات حرة بالفعل كما ينص الدستور والقانون، لبدأت الاستعدادات على قدم وساق منذ شهور للنظر في المرشحين المحتملين لمنافسة الرئيس عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الرئاسية المقرر لها ربيع العام المقبل، 2024. فنحن من الناحية العملية نتحدث عن تسعة شهور فقط قبل أن يتم فتح باب الترشح لذلك المنصب المهم في يناير/كانون الثاني المقبل.
ولكن لأننا في مصر أيضًا، حيث لم تجرِ أي انتخابات رئاسية تعددية حقيقية منذ 1952 سوى انتخابات 2012 التي انتهت بفوز الرئيس الراحل محمد مرسي، وأصبح العرف هو أن يبقى الرئيس في منصبه حتى يأذن الله، مع إجراء التعديلات الدستورية اللازمة لتحقيق المشيئة، وكذلك في ضوء تجربة انتخابات 2018 المحزنة، التي حولت العملية إلى استفتاء على استمرار الرئيس في منصبه في ضوء غياب أي منافس حقيقي، واضطرار السلطة إلى اللجوء لمرشح "صديق" من أجل استكمال الشكل فقط. بسبب كل ذلك لم تبدأ القوى السياسية المعنية في تداول تلك القضية بشكل جاد والتفكير في مرشح رئيسي منافس يواجه الرئيس السيسي مطلع العام المقبل.
على استحياء، ظهرت مبادرات خجولة لعقد استطلاعات للرأي على السوشيال ميديا من أجل طرح أسماء محتملة، وذلك بطريقة استجداء المرشحين للتقدم لتلك المغامرة التي قد تبدو انتحارية، بدلًا من أن يتقدموا هم بالسعي للترشح كما جرت العادة في النظم الديمقراطية الراسخة، نيابة عن حزب أو تحالف لقوى سياسية.
فالتقاليد المصرية تقتضي ألا يعلن المرشح عن الرغبة في التنافس على أي منصب من باب التعفف والترفع، ولتجنب لقب "عبده مشتاق" الساعي وراء المناصب، وأنه في حالة الاضطرار لتحمل تلك المسؤولية العامة فيجب أن يكون ذلك "بناء على رغبة الجماهير" وتلبية لمطالبهم وليس تحقيقًا لرغبة أو طموح شخصي والعياذ بالله.
جرى تداول عدة أسماء تجمعها المعارضة الصريحة لسياسات الرئيس الحالي وطريقته في إدارة شؤون الحكم بطريقة تضعه فوق كل مؤسسات الدولة الأخرى، بما في ذلك المؤسسة التشريعية المتمثلة في مجلس النواب.
النائب الشاب السابق أحمد طنطاوي كان من بين الأسماء المتقدمة في تلك الاستطلاعات، بجانب أسماء تقليدية متداولة مثل الدكتور محمد البرادعي، الذي اختار المنفى منذ استقالته من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية في أعقاب فض اعتصام رابعة بالقوة في أغسطس/آب 2013، والمستشار هشام جنينة الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات الذي خرج لتوه من سجن قضى فيه خمس سنوات، بعد إدانته من محكمة عسكرية بنشر أخبار وبيانات كاذبة بشأن المرشح الرئاسي ورئيس الأركان السابق سامي عنان.
وهناك بالطبع اسم حمدين صباحي المرشح السابق، الذي سبق له خوض الانتخابات الرئاسية مرتين في 2012 و2014، ويتصدر بشكل غير معلن زعامة الحركة المدنية الديمقراطية بما تضمه من أحزاب متنوعة يمينية وقومية ويسارية، وكذلك المحامي خالد علي، وأكمل قرطام رئيس حزب المحافظين، ومحمد أنور السادات رئيس حزب الإصلاح والتنمية، وجميلة إسماعيل رئيسة حزب الدستور، إلى جانب أسماء أخرى مثل نائب رئيس الوزراء السابق زياد بهاء الدين، ووزير الخارجية السابق نبيل فهمي.
ولكن المعضلة الرئيسية في الحالة المصرية تبقى متمثلة في جدوى خوض الانتخابات الرئاسية من الأساس، في ضوء اليقين شبه الكامل أن الرئيس الحالي مستمر في منصبه، ليست بصفته الشخصية وحسب، ولكن بصفته ممثلًا للدولة والقوات المسلحة، وقطاع واسع من المواطنين يرى فيه المنقذ والمخلص والقادر الوحيد على إدارة شؤون البلاد وسط ظروف إقليمية ودولية شديدة الاضطراب. هكذا كان يقال عن مبارك طوال سنوات حكمه الثلاثين، ومن قبله السادات وناصر.
وإذا أخذنا هذا الأمر كحقيقة مسلم بها، فإن المتاح أمام القوى السياسية المعنية سيكون على أقصى تقدير تقديم مرشح لديه قدرة على المنافسة من خلال برنامج سياسات بديلة لسياسات الرئيس الحالي في الجوانب السياسية أو الاقتصادية او الاجتماعية، من أجل ترسيخ فكرة أن النظام السياسي المصري يقوم على مبدأ التعددية والحق في التنافس على منصب الرئاسة في انتخابات حرة ونزيهة.
ربما تكون الانتخابات الرئاسية المقبلة أكبر فرصة لاختبار صدق نوايا النظام في التقدم نحو إصلاح سياسي حقيقي
وإذا كانت الدولة ستتصرف على أساس أن إعادة انتخاب الرئيس السيسي أمر مسلم به من خلال كل أذرعها الإعلامية والسياسية والأمنية الضخمة والمتشعبة، فإن أقل ما يمكن أن يطالب به أي مرشح منافس هو توفير فرصة عادلة للمنافسة دون تخويف أو ترهيب أو تشويه للسمعة، وربما الحبس ومصادرة الأموال.
إثر قرار الرئيس السيسي خوض الانتخابات منفردًا تقريبًا في انتخابات 2018، بعد حبس المرشح السابق سامي عنان، وترحيل رئيس الوزراء السابق أحمد شفيق من الإمارات، وانسحاب المحامي الحقوقي اليساري خالد علي من السباق تجنبًا لصفة الكومبارس أو المحلل، حمَّل الرئيس المعارضة مسؤولية هذا الوضع، قائلًا إنها غير مستعدة بعد لطرح مرشح منافس بسبب ضعفها وانعدام شعبيتها في الشارع.
نفت المعارضة ذلك الاتهام بالطبع، ونحت باللائمة على الأوضاع السياسية القائمة التي منعت عمليًا أي مرشح جاد من خوض المنافسة، وذلك بعد سنوات من القمع الكامل لكل أشكال المعارضة سواء من الأحزاب السياسية أو وسائل الإعلام.
وبعد الانتخابات/الاستفتاء الذي جرى في 2018، ولاحقًا تعديل الدستور لمد فترة الرئيس الحالي لتصل إلى إجمالي ستة عشر سنة على الأقل بدلًا من ثمانية أعوام كما نصت المواد الأصلية في دستور 2014، قررت الأجهزة الأمنية المعنية منع كل أشكال معارضة للنظام، حتى لو أتت من حلفاء الأمس في 30 يونيو و3 يوليو الذين طالبوا بعقد انتخابات رئاسية مبكرة وعزل الرئيس الراحل مرسي. وتم اعتقال المئات من المعارضين وحبسهم احتياطيًا أو إحالتهم للمحاكم، حيث صدرت بحقهم أحكام قاسية بالسجن.
الآن، وبعد عام تقريبًا من إطلاق الرئيس السيسي لدعوته للحوار الوطني، ربما تكون الانتخابات الرئاسية المقبلة مطلع العام 2024 أكبر فرصة متاحة لاختبار صدق نوايا النظام الحالي في التقدم نحو إصلاح سياسي حقيقي تأخر كثيرًا وطال انتظاره.
منذ إطلاق الدعوة للحوار، الذي لا يزال الجميع في انتظار انطلاقه الرسمي، حاولت عدة أحزاب من الحركة المدنية دون جدوى الخروج من أسر المقرات المركزية في القاهرة لعقد مؤتمرات في الأحياء والمحافظات المختلفة لتقديم سياساتهم البديلة التي سيسعون لطرحها في جلسات الحوار.
ولكن رفضت الأجهزة المعنية عقد تلك المؤتمرات، وأصرت أن تعقد الأحزاب اجتماعاتها في مقراتها فقط، بزعم أن الأوضاع الأمنية لا تسمح، في ضوء تأزم الوضع الاقتصادي وزيادة سخط المواطنين من غلاء الأسعار.
وإذا افترضنا أنه سيكون هناك مرشح رئاسي سيقبل تلك المهمة الانتحارية في منافسة الرئيس السيسي بعد أقل من عام، فهل ستواصل الأجهزة المعنية سياسة التضييق تلك نفسها ومنع المرشحين المحتملين من عقد لقاءات وجولات في القاهرة والمحافظات؟ هل سيتمكن أنصار المرشحين المعارضين والقائمين على حملاتهم التحرك بحرية من دون الخوف من حبسهم؟
هل ستتقبل الأجهزة المعنية تخصيص أوقات متساوية للمرشحين لعرض برامجهم عبر وسائل الإعلام الرسمية وتلك التابعة للنظام والتي ستتضمن نقدًا حادًا لسياسات الرئيس الحالي، خاصة السياسة الاقتصادية التي انتهت إلى أعلى معدل للديون الخارجية وانهيار العملة المحلية وتزايد معدلات الغلاء والفقر بمستويات غير مسبوقة؟
هل ستساعد الأجهزة المعنية في خلق أجواء ثقة أننا مقبلين على انتخابات رئاسية تنافسية حقيقية، بالتوقف عن القبض على المعارضين، وبإطلاق سراح كل السجناء السياسين المحبوسين على ذمة قضايا رأي، سواء من المحبوسين احتياطيًا أو الصادر بحقهم أحكام من محاكم طوارئ غير قابلة للطعن؟
البعض في دوائر المعارضة قد يرى أن إطلاق حوار جدي قد يكون مؤشرًا مهمًا لتحديد إذا ما كان مرشحون معارضون سيخوضون انتخابات الرئاسة. ولكن الجميع يعرف أن الحوار الوطني عند انطلاقه سيكون غرضه طرح الأفكار والبدائل في شكل توصيات سيتم رفعها لرئيس الجمهورية، وهو مسار منفصل عن مسار الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها قريبًا جدًا بكافة المعايير السياسية والزمنية.
ولذلك فإن الاختبار الحقيقي لمسار الحوار وجديته سيتمثل في إمكانية عقد انتخابات رئاسية تنافسية حقيقية ومنح النظام للتطمينات الضرورية أننا لسنا بصدد تكرار تجربة 2018، التي أساءت لمصر ورسخت القناعة لدى كل الأطراف الخارجية أننا لا نملك الحد الأدنى من معايير الديمقراطية أو احترام الدستور والقانون.