شريف الروبي واحد من مئات السجناء الذين قضوا سنوات في الحبس الاحتياطي بسبب مواقفهم السياسية، ومعروف بانتمائه لحركة 6 أبريل ونشاطه في الفترة التي تلت ثورة 25 يناير 2011.
خرج الروبي من السجن قبل ثلاثة أشهر ونصف فقط في إطار عملية الانفتاح النسبي التي تلت إفطار الأسرة المصرية وانطلاق الاستعدادات لبدء الحوار الوطني، الذي دعا له الرئيس عبد الفتاح السيسي قبل خمسة أشهر.
لكن مطلع الأسبوع، ألقي القبض مجددًا على الروبي، وجرى تحويله سريعًا للنيابة العامة التي أمرت السبت بحبسه 15 يومًا على ذمة التحقيق والدخول في الدائرة التي يعرفها واختبرها جيدًا على مدى السنوات الماضية، والمتمثلة في الحبس الاحتياطي.
منذ انتشار خبر القبض على الروبي، سرت حالة من الارتباك والقلق البالغين بين كل من أطلق سراحهم في الفترة الأخيرة، والتساؤل ما إذا ما كانت موجة الإفراجات هي مجرد إجراء مؤقت، وأنهم سيعودون بدورهم إلى السجن لو عبّروا عن رأيهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
بعد خروج السجين السياسي من فترة حبس احتياطي طويلة، يواجه بالتأكيد أسئلة حول المسار الذي سيتخذه، وإذا ما كان سيعتزل العمل العام تماما اتقاءً لتكرار التجربة الصعبة، أم سيواصل التمسك بمواقفه والتعبير عنها.
ولو اختار الخيار الثاني، فهل سيكون التعبير عن مواقفه بالحدة نفسها، أم سيمارسها ببعض الحرص والتروي، خشية تكرار تجربة السجن. المشكلة في التعامل مع الأجهزة المعنية بملف المعارضين السياسيين هو عدم وضوح الخطوط الحمراء، وما هو تحديدًا الإجراء الذي يدفعهم لاتخاذ القرار بحرمان معارضٍ ما من حريته.
الروبي اختار الاستمرار في التعبير عن مواقفه، وعبر تعليقات قد لا يتفق معها كاتب المقال أو يراها ضرورية ومناسبة.
لا يوجد بيان رسمي بتفصيلات الاتهامات، لكن شريف كتب تعليقات عدة عن الصعوبات التي يواجهها في أعقاب الخروج من السجن، وصعوبة عثوره على عمل بسبب سمعته كسجين سياسي سابق، وكتب تعليقًا لافتًا على تويتر، استدعى أن تجري قناة الجزيرة مقابلة هاتفية معه لمدة سبع دقائق تحدث فيها عن معاناته بعد نيل حريته.
لكنها في النهاية مواقف وآراء على شبكة إنترنت تضم المئات من الملايين من المتفاعلين، ولا تحض على إرهاب أو عنف، ومن المؤكد أنها لا تستحق أن يعود الروبي لمواجهة الاتهامات التي تسببت في حبسه بالفعل لسنوات عدة، والأسوأ أنها تمنح فرصة قوية للمشككين في جدية الحوار الوطني وجدواه للتدليل على صحة مواقفهم وانتقاداتهم.
كما أن إلقاء القبض على المعارضين داخل مصر لن يوقف تعليقات المعارضين المصريين في الخارج، أو انتشار المعلومات التي قد تراها الأجهزة المعنية مضرة بالاستقرار الداخلي.
منذ الدعوة لمشروع الحوار الوطني، كان المطلب الأساسي لممثلي أحزاب المعارضة المدنية التي دعمت 30 يونيو/ حزيران 2013 هو خلق أجواء تسمح بالثقة في جدية عملية الإصلاح السياسي التي تعهد بها النظام بعد سنوات من التضييق المنظم على نشاطها، وخنقها عمليًا من خلال إلقاء القبض على المئات من أعضائها، ومنعها من التعبير بأي شكل عن مواقفها.
وفي اللقاءات التي حضرتها للإعداد للحوار قلت بوضوح إن لدينا مطلبًا مزدوجًا، الأول إغلاق ملف ما نسميه بسجناء الرأي عن طريق سراح المئات من أعضاء الأحزاب والنشطاء السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، والثاني، اتخاذ قرار سياسي بالتوقف عن إلقاء القبض على المعارضين والمواطنات والمواطنين لمجرد تعبيرهم عن الرأي سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو في مقابلات صحفية وتلفزيونية.
فإطلاق سراح سجناء الرأي من التيار المدني، الذين تزايدت أعدادهم على نحو كبير منذ العام 2019 في أعقاب التعديلات الدستورية المثيرة للجدل، لا يمكن أن يكون مجديًا مع استمرار إلقاء الأجهزة الأمنية القبض على المعارضين وحبسهم احتياطيًا لفترات طويلة، وتدويرهم وفقًا لاتهامات متشابهة تتمثل في مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها، ونشر أخبار كاذبة وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
العقلاء في السلطة الداعمين للحوار كانوا يقولون إن الأجهزة المعنية في مصر لديها العديد من المشاغل والأولويات التي منعت التعامل مع ملف الإصلاح السياسي وتوسيع هامش الديمقراطية والمشاركة في مصر.
وقالوا إن المواجهة مع الإرهاب والظروف الإقليمية والرغبة في أحداث تنمية اقتصادية على نحو متسارع، كلها أسباب أخرت الحوار الذي كانت ترغب مؤسسة الرئاسة القيام به مع مختلف أصحاب التوجهات السياسية في مصر.
رحبتُ كما الآخرين بهذا التوجه، لكن مع التمسك بأن ما حدث على مدى السنوات الماضية من تضييق على المعارضين لم يكن مجرد "تلاهي" عن ملف الإصلاح السياسي، لكنه قرار سياسي بمنع الأصوات المعارضة من التعبير عن مواقفها، بحجة أن الوقت غير مناسب، وأن مثل هذه المعارضة تمثل مساعدة لجماعة الإخوان وحلفائها في المنطقة اللذين يبذلون كل جهد ممكن لإسقاط النظام.
ورأيت أن النظام يرتكب خطأ كبيرًا بتضخيم حجم الإخوان، وتصوير أي معارضة للقرارات السياسية والاقتصادية للنظام الحالي على أنّها خدمة للإخوان، ومن دون الوضع في الاعتبار أن المعارضة المدنية بكل توجهاتها الليبرالية واليسارية والقومية موجودة في مصر منذ عشرات السنين.
عمليًا، ومنذ العام 2014، لم يكن لأحزاب المعارضة التي نشأت بعد ثورة 25 يناير 2011 أي نشاط سياسي حقيقي، واقتصر كل جهدها على تنظيم حملات للمطالبة إطلاق سراح أعضائها المحبوسين احتياطيًا.
وقرب نهاية العام 2019، شنت حملة واسعة شملت المئات من أعضاء الأحزاب المدنية من مختلف التوجهات، من أحزاب الدستور والكرامة والتحالف الشعبي الاشتراكي والعيش والحرية والمصري الديمقراطي الاجتماعي، إلى جانب أعضاء الحركات السياسية الشبابية التي اكتسبت شهرة في 25 يناير 2011 والمواطنين العاديين، كلهم بسبب تعليقات على فيسبوك ووسائل التواصل وفي مقابلات صحفية أو لإصدار بيانات سياسية.
ورغم البطء الواضح في عملية إخلاء سبيل السجناء السياسين الذين تطالب الأحزاب المعارضة الأعضاء في تحالف الحركة المدنية الديمقراطية بحريتهم؛ بعد أن قضوا جميعًا ما يزيد عن عامين في السجن، ومن بقي منهم الآن تجاوز الثلاثة أعوام، فلقد تعاملت الحركة المدنية بمسؤولية، وتمسكت بالأمل أن أجواء الحوار ستسمح باستمرار عمليات إطلاق سراح المعارضين حتى إغلاق الملف تمامًا.
وقبل إعادة إلقاء القبض على الروبي، كانت الاستعدادات تجري لإطلاق الحوار الوطني خلال أسابيع قليلة بعد الانتهاء من الإجراءات الضرورية، وذلك عن طريق الاتفاق على موضوعات النقاش عبر اللجان المختلفة، واختيار المقررين والمقررين المساعدين.
الاستمرار في القبض على مواطنين بسبب التعبير عن أرائهم، أو العودة لإلقاء القبض على معارضين خرجوا للتو من السجن مثل الروبي، يضعف كثيرًا الثقة في أننا مقبلين على حوار جاد وتغيير حقيقي
كما أطلق سراح 45 محبوسًا احتياطيًا بقرارات من النائب العام، وتوقعنا استمرار هذا التوجه الإيجابي بمراجعة ملفات سجناء آخرين مثل حسن مصطفى وعمرو نوهان ومحمد عادل ومروة عرفة ونرمين حسين وآخرين.
وطالبنا رئيس الجمهورية بالاستمرار في إصدار قرارات العفو الرئاسي لكي تشمل المحامي زياد العليمي وأحمد دومة ومحمد الباقر ومحمد أكسجين وعلاء عبد الفتاح.
للأسف، وبدلًا من أن نمضي في هذا المسار، ونغلق تمامًا ملف سجناء الرأي ونبدأ الحوار الوطني، ويشعر الجميع بالثقة في وجود رغبة جدية في التخلي عن ممارسات السنوات السابقة، والقائمة على إلقاء القبض على المعارضين وتشديد القيود المفروضة على وسائل الإعلام، وحجب المئات من المواقع الإخبارية، فوجئنا بالقبض على الروبي.
لم نكن نريد أبدًا العودة لمرحلة كتابة هاشتاجات "الحرية لفلان أو علان"، وكان الأمل كبيرًا أن نشهد ولو انفراجة نسبية في الأجواء السياسية والسماح للأحزاب والمنظمات غير الحكومية والنقابات المستقلة ووسائل الإعلام بالعمل في حرية أكبر.
الاستمرار في القبض على مواطنين بسبب التعبير عن آرائهم، أو العودة لإلقاء القبض على معارضين خرجوا للتو من السجن مثل الروبي، يضعف كثيرًا الثقة في أننا مقبلين على حوار جاد وتغيير حقيقي في التجربة المريرة والصعبة التي شهدناها على مدى السنوات الماضية.