عقدت مصر ثالث اتفاق مع صندوق النقد الدولي في 1976، الذي اقتضى رفع أسعار الكثير من السلع المدعومة ما فجَّر ما يعرف بأحداث يناير/كانون الثاني 1977. كان لجوء السادات لصندوق النقد الدولي ناتجًا عن تأزم الوضع المالي والنقدي.
نتجت الأزمة المالية في النصف الثاني من السبعينيات عن الوفرة وليس ندرة الموارد الدولارية، على الأقل في البداية، فقد تدفقت إيرادات استثنائية من الخليج بشكل أساسي، جعلت الأشقاء العرب يلعبون دورًا مناقضًا لدور الصندوق في الصراع على تشكيل الاقتصاد المصري، وهو الدور الذي استمر حتى أصبح الاثنان شيئًا واحدًا بدءًا من 2016.
بالعودة إلى اتفاق 1976، فقد سبقته تدفق موارد دولارية على مصر في أعقاب حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، مع استعادة حقوق البترول في سيناء المحررة وإعادة فتح قناة السويس في 1975، بالإضافة لحصول مصر على الكثير من الدعم من بلدان الخليج النفطية، وانتعاش تحويلات العاملين المصريين هناك.
كانت تلك بمثابة قنوات لإعادة توزيع الريع النفطي، الذي نشأ بدوره عن ارتفاع أسعار النفط العالمية على هامش حرب أكتوبر، وبفضل الحظر النفطي الذي فرضته دول الخليج على الدول الغربية الداعمة لإسرائيل.
أسهمت هذه التدفقات في إنعاش الاقتصاد في بادئ الأمر، لكنها شجعت مصر على التوسع في الإنفاق على الواردات في إطار تعافي الاقتصاد بعد سنوات طويلة من اقتصاد الحرب منذ 1967، ما خلق مشكلات للتمويل اقتضت اللجوء لصندوق النقد.
وكما هو معروف، أجبرت أحداث يناير 1977 السادات على التراجع عن قرارات رفع الأسعار، وبالتالي لم تفِ مصر بشروط الاتفاق مع الصندوق، وفي المقابل لم تحصل على التسهيلات الائتمانية المتفق عليها.
تحسنت الأحوال بعدها مع ارتفاع أسعار البترول مرة أخرى على خلفية الثورة الإيرانية في 1979، وبفضل الإيرادات الجديدة دخل الاقتصاد المصري في دورة أخرى من الإنفاق على الواردات اعتمادًا على المصادر الريعية المعتادة من دخل قناة السويس وتحويلات العاملين ومبيعات البترول الخام والدعم الخارجي،هذه المرة الغربي مع مقاطعة دول الخليج لمصر بعد إبرام اتفاق السلام مع إسرائيل في 1979.
ومرة أخرى، كان نمو الإنفاق على الواردات أكبر من الزيادات المتحققة من الريع، فلجأت حكومة مبارك إلى الاقتراض، وكان المقرضون من البنوك التجارية الغربية واثقين من قدرة مصر على الوفاء بالتزاماتها مقابل الإيرادات الريعية المستقبلية، في مشهد يذكرنا بموقف بنوك الاستثمار وبيوت المال الأوروبية التي أقرضت الخديوي إسماعيل بافتراض بقاء أسعار القطن العالمية على ارتفاعها، وهو ما لم يتحقق.
وعلى غرار ما حدث مع إسماعيل، فقد انخفضت أسعار البترول العالمية في 1986 بشكل حاد، واضطربت ماليات مصر الداخلية والخارجية، ولجأت الحكومة إلى صندوق النقد الدولي فعقدت معه اتفاقًا اقتضى تخفيض الإنفاق العام.
لكن مبارك لم يطبق هذا الاتفاق، إذ تزامن مع وقوع أحداث الأمن المركزي الغامضة، وخشي الرئيس آنذاك من توسيع دائرة الاضطرابات الاجتماعية إذا رفع الأسعار على عامة المصريين، خاصة ولم تكن مرت بعد عشر سنوات على أحداث يناير، وأقل من خمس سنوات على اغتيال الرئيس السادات.
لذا استمر توسع مصر في الاقتراض من البنوك التجارية الأوروبية والأمريكية حتى كانت حرب الخليج، وما تلاها من اتفاق نادي باريس الذي ضمن لمصر تخفيضًا بمقدار 50% لديونها الخارجية مقابل اشتراكها في حرب تحرير الكويت مع إعادة جدولة النصف الآخر. وعلى هذا الهامش ألغت مصر ديونها العسكرية البالغة وقتها نحو 7 مليارات دولار، وحصلت على وديعة "حرب الخليج" لدى المركزي بقيمة 9 مليارات دولار، التي لم تُرَد أبدًا ما يجعلها أقرب للمنحة منها للوديعة، ولم نعرف عنها إلا بعد خلع مبارك في 2011.
في هذا السياق، أتى صندوق النقد مجددًا، وعقد اتفاقًا مع الحكومة المصرية في 1991، ومنحها تسهيلات بقيمة ثلاثة مليارات دولار، لكن الحكومة لم تحتج إلى سحبها قط لأنها اعتمدت بالفعل على إلغاء الديون وأشكال الدعم العربية والغربية لتحسين موقفها المالي الخارجي. ولم تدخل مصر في اتفاق مع الصندوق من حينها إلى 2016.
وخلافًا لما هو شائع، فإن تاريخ الحكومة المصرية الطويل مع صندوق النقد منذ 1976 إلى 2016 أي طيلة أربعين سنة كان حافلًا بالاتفاقات التي لم تتم تلبيتها من جانب الحكومة المصرية، لأن مصادر الدعم الريعية من دول الخليج أو من الحلفاء الغربيين كانت تستخدم كبدائل لصندوق النقد وقروضه المشروطة، التي كانت الحكومة دائمًا ما تراها خطرًا سياسيًا واجتماعيًا منذ يناير 1977.
كان اتفاق 2016 هو الأكثر التزامًا من جانب الحكومة المصرية مقابل الحصول على تمويل بالغ الضخامة وقتها كان قوامه 12 مليار دولار من الصندوق وتسهيلات تحصل عليها مصر بناءً على اتفاقها مع الصندوق من أسواق المال العالمية بنحو 9 مليارات دولار أخرى. قبلها، وما بين 2012 و2015 حصلت مصر على مساعدات عينية ونقدية من الأشقاء الخليجيين في قطر (12.5 مليار دولار) أولًا ثم من الإمارات والسعودية والكويت بلغ مجموعها في بعض التقديرات نحو 23 مليار دولار.
شهدت علاقة البلاد مع هذه المؤسسة تغيرًا كبيرًا في الوقت الراهن، حيث تلاشت المساحة الفاصلة بين مشروطية الصندوق والتمويل الريعي المدفوع سياسيًا.
ولكن فور أن استقرت الأحوال داخليًا اضطرت الحكومة للجوء إلى الصندوق بشروطه القاسية من حيث إلغاء الدعم العيني والحد من الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب المباشرة وغير المباشرة وبالطبع تخفيض سعر صرف العملة ورفع أسعار الفائدة.
كانت دول الخليج داعمة في 2015 للجوء مصر للصندوق، كان الأمر متعلقًا بالأساس فحسب بإيجاد الظرف الداخلي المستقر بما يكفي لتنفيذ بنود الاتفاق، وقد كان. ولكن منذ ذلك الحين، تقلصت مساحة استخدام الموارد الريعية ذات الدوافع السياسية كبدائل لموارد الصندوق، وغدا الاثنان مرتبطين ببعضهما البعض شيئًا فشيئًا.
استمر هذا الوضع حتى دخلنا في أزمة تدفق الأموال الأجنبية الساخنة خارج الاقتصاد المصري في الربع الأول من 2022 بنحو 20 مليار دولار، عندها تدخل الأشقاء في الخليج لدرء الخطر الداهم عن طريق تقديم الودائع في المركزي المصري، وتقديم الوعود بحزم استثمارية ضخمة لتشجيع المستثمرين الآخرين في إبقاء أموالهم داخل الاقتصاد المصري.
لم يحل هذا دون استدعاء صندوق النقد الدولي للمشهد، وعقده مفاوضات طالت لثمانية أشهر من الحكومة المصرية انتهت باتفاق، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، خصص للحكومة المصرية ما لا يزيد عن ثلاثة مليارات دولار، وهو مبلغ صغير مقارنة بحجم الالتزامات الخارجية التي تواجهها الحكومة المصرية.
وتعلقت شروط الصندوق هذه المرة بمرونة سعر الصرف وزيادة مساهمة القطاع الخاص عبر موجة جديدة من خصخصة الأصول المملوكة للدولة، وشدد الصندوق على أن الالتزام بشروطه أمر لازم لكي يستجيب الخليج لطلبات مصر بالحصول على تمويلات منها.
كما يتضح من بيان الصندوق عن اتفاقه الأخير مع مصر، فقد شهدت علاقة البلاد مع هذه المؤسسة تغيرًا كبيرًا في الوقت الراهن، حيث تلاشت المساحة الفاصلة بين مشروطية الصندوق والتمويل الريعي المدفوع سياسيًا. وربما يكون هذا التغير ناتجًا في الأساس عن إدراك دول الخليج، وهي المرتبطة بمصر ارتباطات عميقة سياسيًا واقتصاديًا وديمغرافيًا وثقافيًا، أنها ستضطر للعب دور دائم وعميق في إدارة اختلالات الاقتصاد المصري الخارجية، وهو ما يتطلب إعادة تعريف خطوط هذا الارتباط طويل الأجل. ومن هنا سيكون للصندوق دور في تحديد الإطار الاقتصادي للعلاقة بين مصر ودول مجلس التعاون الخليجي.