تصوير:رافي شاكر
صورة أرشيفية لمحل جزارة

معارك الجيوب الفارغة على أعتاب السوق

منشور الخميس 23 فبراير 2023

أمام أقفاص مليئة بدجاج أبيض صغير الحجم، وقف أبو وليد ممسكًا بكوب شاي، يتابع بترقب حركة المارة داخل السوق الشعبية التي تقع في آخر فيصل، أحد أكثر أحياء الجيزة ازدحامًا، مهيئًا نفسه لسؤال بات اعتياديًا في الآونة الأخيرة "بكام الكيلو النهاردة؟".

على عتبة محل الدواجن داخل سوق فيصل، كان المشهد كالتالي: سيدات يسألن عن أسعار الكيلو الواحد من الدجاج والأوراك، وبائع متململ يجيب بأرقام مخيبة لآمالهن، معلقًا بحسرة بالغة "أهو إحنا على الحال ده كل يوم، الأسعار نار والناس معهاش فلوس".

ارتفعت أسعار الدواجن بشكل غير مسبوق خلال الفترة الأخيرة، ليقارب سعر الكيلو الواحد من دواجن التسمين "البيضاء" الـ95 جنيهًا، وكذلك تجاوز سعر كيلو البانيه الـ200 جنيه، إثر زيادة تكلفة العلف المستورد.

والأعلاف، مثل باقي السلع التي نعتمد على استيرادها من الخارج، كانت أسعارها في ارتفاع مستمر خلال السنة الماضية متأثرة بتضخم الأسعار العالمية منذ الحرب الروسية الأوكرانية، والتعويمات المتكررة للجنيه، ونقص العملة الصعبة الذي يؤخر البضائع في المواني.

ومع الزيادات المستمرة في أسعار السلع الغذائية والبروتين بشكل خاص، والخفض المتكرر لقيمة الجنيه أمام الدولار، باتت جولة السوق التي كانت متنفسًا للكثيرين، أمرًا ثقيل الظل خاصة بالنسبة للسيدات اللاتي تضعن على عاتقهن مهمة تدبير ميزانية الأسرة.

في هذه الأثناء، دلفت إلى محل أبو وليد سيدة ترتدي جلبابًا بنيًا تطلب منه شراء أصغر دجاجة بيضاء غير مذبوحة، كادت أن تتراجع عن شرائها بعد أن أبلغها الفرارجي بأن سعرها لن يقل عن 90 جنيهًا، بواقع 79 جنيهًا للكيلو الواحد، وهو ما أربك حسابات السيدة التي لم تكن تنوي دفع أكثر من 80 جنيهًا.

الفرارجي أبو وليد أمام محله في فيصل- تصوير: أحمد البرديني

ما علمته من السيدة الأربعينية، وهي ربة منزل تدعى عائشة، أنها المرة الأولى التي تحضر إلى الفرارجي منذ أسبوع، عزفت خلاله عن تناول الدواجن واللحوم البلدية بعد تخطي الأولى سقف الـ80 جنيهًا للكيلو، وملامسة الأخيرة حاجز الـ250 جنيهًا، بينما اقتصر استهلاك أسرتها، المكونة من 4 أفراد، على اللحوم المجمدة كالكبدة والسجق، التي يقل سعرها عن المئة جنيه للكيلو، إلى جانب أكلات شعبية أخرى تخلو من البروتين الحيواني.

وهناك الآلاف من الأسر المصرية اتبعت نفس المسار خلال الشهور الأخيرة، بحسب ما خلصت إليه دراسة  صادرة عن المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية،في ديسمبر/كانون الأول الماضي، والتي قالت إن الأسر منخفضة الدخل واجهت زيادات أسعار الطعام الأخيرة بتعديل نظامها الغذائي، إذ ارتفع الاستهلاك المنزلي من البطاطس وأنواع المكرونة بنسب تتراوح بين 14% و21% لدى الأسر التي تابعتها الدراسة، بينما انخفض استهلاك 85% من الأسر للحوم، و75% للدجاج والبيض.

بالعودة إلى فيصل، أتم الفرارجي هذه البيعة بنجاح، لكنه فشل في إنجاز أخرى خلال فترة تواجدنا بمحله، لسيدة نحيفة ملأت التجاعيد وجهها، كانت تعتزم شراء وركين فقط لتزيين مائدتها بالبروتين، لكنها تراجعت بعد أن عملت أن سعر الوركين لن يقل عن 60 جنيهًا "الكيلو غالي بـ85 والوركين برضه غاليين ومش هيكفوا" قالتها بيأس ثم رحلت.

"في الأول كنت بجيب 10 أقفاص فراخ لما كان السعر لا يزيد عن 50 جنيهًا للكيلو، دلوقتي قفصين يعني 20 فرخة بالكتير، أعتمد على بيع الهياكل والأوراك للزبائن أما البانيه طبعًا محدش بيقرب منه ف أورَّده للمطاعم" يتحدث معنا أبو وليد ثم يشير  إلى أن هناك سيدات يطلبن منه شراء كميات من أرجل الدجاج التي بلغ سعر الكيلو منها 10 جنيهات، والتي كان يتخلص منها قبل هذه الأزمة أو يمنحها للزبائن بدون مقابل.

البساتين.. "رمضان خارج الحسابات"

كانت عقارب الساعة تشير  إلى الحادية عشر صباحًا، حين دخلت سوق السد العالي الواقع بمنطقة البساتين، جنوبي القاهرة، وهي عبارة عن شارع طويل أرضيته غير ممهدة، يتزاحم فيها سائقو التوك توك لنقل السيدات المحملات بحقائب التسوق إلى منازلهن، وفي الخلفية تسمع بوضوح مكبرات الصوت التي يستخدمها باعة الخضراوات لإثارة انتباه الوافدين لبورصة الأسعار في هذا اليوم. 

لم نعد ندخر مليمًا الآن ولا نملك أي خطط مستقبلية

في هذا التوقيت، كانت ربة المنزل الخمسينية منال محمود، تستعد لجولتها المعتادة لشراء خضار يكفي إعداد وجبات 4 أيام على الأقل، بعد أن اتفقت مع الجزار على فرم نصف كيلوجرام من اللحم الجاموسي، وصل سعره 110 جنيهات، وهو الحد الأقصى الذي حددته للإنفاق على البروتين في هذا الأسبوع، وفق أسلوب تتبعه لتنويع استهلاك أسرتها من البروتين.   

"الأسعار تتغير بشكل غريب والفلوس لا تكفي، كنت بشتري كيلو على الأقل من اللحم أو البانيه كل 10 أيام لكن المصروف لم يعد يتحمل" تقول منال.

وبسبب إحساسها بضغط الأسعار، غيرت منال هذا العام من عادتها الأثيرة بشراء كميات كبيرة من الطعام  تكفي احتياجاتها على مدار شهر رمضان، فهي ستظل ملتزمة بميزانية "الأسبوع الواحد"، على حسب قولها.

"لا أعلم كيف أدبر أسبوعي الحال والمقبل، ازاي أخزن أكل لرمضان، حتى لو الأسعار دلوقتي هتكون أرخص من بعد شهر لكن الميزانية تتآكل ولا تستوعب التحضير".

لا تملك السيدة دخلًا سوى معاش زوجها الذي لا يتجاوز الـ2500 جنيه، وكافحت في سنوات سابقة لتدبير شؤون الأسرة بمبلغ أقل، لكن التدابير القديمة لم تعد كافية لمواجهة موجة الغلاء الحالية التي طالت جميع السلع الضرورية.

تضع ربة المنزل تصورًا لشكل مائدتها اليومية في شهر يشتهر بزيادة استهلاك المصريين للكثير من اللحوم والطيور على مدار أيامه "بالشكل ده شهر رمضان هيعدي علينا كشهر عادي".

"الزيادة مش في مستوى حد المرة دي"

رغم التفاوت الاجتماعي بين حيين متقاربين جغرافيًا كالدقي وفيصل، لا يكاد ركود سوق سليمان جوهر، أحد أشهر أسواق الدقي، يختلف كثيرًا عن جاره الأكثر فقرًا: ففي الاثنين كثير من الباعة، قليل من الزبائن.

تعج سوق الدقي بمحال الجزارة والدواجن والأسماك، وتفترشها الكثير من السيدات الريفيات بأسبتة الخضراوات والجبن. لذا تعتبر الوجهة الرئيسية لسكان هذا الحي، بجانب الزبائن من المغتربين سكان هذا الحي من السودانيين واليمنيين، لكن نار الأسعار لم تعد تميز فقيرًا أو غنيًا، فلا أحد ينادي لجذب الزبائن كالعادة، تكفي لائحة الأسعار لقطع أي لغة تواصل معتادة بين البائع والمشتري.

قائمة أسعار اللحوم المستوردة بأحد محال الجزارة في سوق سليمان جوهر بالدقي - تصوير أحمد البورديني

"حركة البيع ضعيفة جدًا مع كل ارتفاع جديد في السعر بخسر زبون جديد، صحيح إحنا في منطقة مش شعبية وسكانها طبقة وسطى قديمة ولاجئين لكن الزيادة مش في مستوى حد المرة دي، من كان يشتري بانتظام قلل من استهلاكه" يتحدث جزار بسوق سليمان جوهر، لم يشأ ذكر اسمه، عن تأثر تجارته بارتفاع أسعار اللحوم.

خلال الأسابيع الماضية ارتفعت أسعار اللحوم البلدية بشكل لافت، حيث تجاوزت الـ250 جنيهًا في مناطق كثيرة، وصاحبها كذلك زيادات أخرى في أسعار اللحوم المجمدة المستوردة، الأمر الذي دفع عددًا من الجزارين لإغلاق محالهم، لعدم قدرتهم على تحقيق الأرباح اليومية الاعتيادية مقارنة بتكاليف التشغيل، حسبما أوضح محمود العسقلاني، مؤسس جمعية "مواطنون ضد الغلاء" للمنصة.

تراقب الطبقة الوسطى هذه الزيادات، وتتمنى أن لا تتفاقم أكثر حتى لا تنهار قدرتها وتغير عاداتها الغذائية مثل الطبقات الأدنى، كما روت لنا واحدة من زبائن السوق من أبناء هذه الطبقة، سامية حسين.

"حتى الآن قادرون على شراء احتياجاتنا من الطعام لكن ميزانية بيتنا لن تتحمل أية مضاعفات أو طوارئ لأننا لم نعد ندخر مليمًا الآن ولا نملك أي خطط مستقبلية" كما تقول السيدة.