في الزخم الذي أحدثته انتخابات نقابة الصحفيين التي بدأت إجراءاتها قبل عشرة أيام، مؤشر واضح على قيمة وتأثير النقابات المهنية في المشهد العام في مصر.
حراك وجدال كبيران داخل النقابة العريقة، لا يبدآن عند الحديث عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للصحفي، ولا ينتهيان عند الحصار الكبير المفروض على الصحافة وحريتها منذ سنوات عدّة وعلى نحو غير مسبوق.
وبين هذا وذاك، هناك جمعية عمومية متنوعة في أفكارها وانحيازها تطالب وتسائل وتحاسب مجلسها الذي انتخبته قبل أربع سنوات، وتستفسر عن نسبة ما تحقق من برامج أعضائه الانتخابية.
في هذا الحراك المهم ما يدل على أن النقابات المهنية لا تزال تقدم روحًا وحياة للمشهد العام، وقادرة على التعبير عن المجتمع بفئاته وقضاياه المهنية والمعيشية، ثم أن انتخاباتها الداخلية لا تزال تحظى بنسبة جيدة من الشفافية والنزاهة تفتقدها للأسف كل الانتخابات العامة في مصر.
في القلب من انتخابات الصحفيين ما يؤكد أن النقابة المهمة تؤثر في المجتمع وتتأثر به، وليست هناك مبالغة إذا قلنا إن انتخابات الصحفيين بالذات هي المؤشر الأبرز عن نسبة الرضا أو الغضب في المجتمع، وما تخرج به هذه الانتخابات من نتائج يشير بوضوح إلى انحيازات الناخبين في المجتمع كله، فالنقابة لها تأثير ودور مهم في الضمير الجمعي للناس، والصحفيون هم الأقرب للمجتمع وأزماته بحكم مهنتهم، لذلك فإنهم- كفئة- يؤثرون في المجتمع بما ينشرون، ويتأثرون به كلما شعروا بأزماته وعبروا عنها.
بحسب الهيئة العامة للاستعلامات، فإن مصر بها 25 نقابة مهنية، وهي مؤسسات تعبر عن المشتغلين بالمهن الحرة وتدافع عن مصالحهم وتسعى لتحسين شروط العمل لكل أعضائها، هذه النقابات ينتسب إليها نحو خمسة ملايين عضو، وهو رقم ليس بالقليل، لذلك فإن انتخابات النقابات المهنية الكبرى كالصحفيين والمحامين والأطباء والمهندسين وغيرها يتابعها المجتمع عن كثب، وهي كانت ولا تزال مؤسسات يخرج منها من يؤمنون بالديمقراطية ويمارسونها بشكل جيد في الانتخابات الداخلية.
في انتخابات النقابات المهنية ما يوحي بأنها مدارس مهنية تشارك في بناء مسار ديمقراطي عبر اختيار مجالس إداراتها بالانتخاب المباشر؛ فضلًا عن مساءلتهم بعد انتهاء فتراتهم القانونية عما قدموه من إنجازات، وما حققوه من وعود.
في سبتمبر/أيلول الماضي، شغلت انتخابات المحامين الرأي العام، فالنقابة العريقة بما تمثله من قيمة الدفاع عن دولة القانون والحقوق والحريات لها مساحة لا يستهان بها في الضمير العام، وانتخاباتها كانت دائمًا تتمتع بسخونة لا تقل عن نظيرتها في النقابات المهنية الكبرى، وهي بحكم دورها في الحياة العامة كانت أقرب لكونها انتخابات لها طابع نقابي وسياسي معًا، فالنقابة التي تدافع عن دولة الحريات والقانون، وتسعى لتحسين ظروف عمل القضاء الواقف، لابد أن تحظى انتخاباتها الداخلية بمتابعة وتأثير كبيرين.
قبل انتخابات المحامين بعدة أشهر وبالتحديد في فبراير/شباط عام 2022 شهدت انتخابات نقابة المهندسين منافسة حامية فاز فيها المهندس طارق النبراوي المحسوب على تيار استقلال النقابة وغير القريب من السلطة، كما شهدت انتخابات المحامين منافسات ساخنة كانت المهندسين لا تقل سخونة عنها، ولا تقل في "الحراك" الذي خلقته عن انتخابات الصحفيين الحالية.
فليس دور النقابات المهنية مجرد العمل الخدمي، إنما وثيق الصلة بالتشريعات التي ترتبط بالحريات العامة
في غضون عام واحد تقريبًا تجري ثلاث نقابات مهنية كبرى انتخاباتها الداخلية؛ المهندسين والمحامين والصحفيين، وخلفت حالة من الجدل والنقاش الديمقراطي الصحي والذي افتقده المجتمع المصري منذ سنوات.
المؤكد أن النقابات المهنية لا تزال هي الأمل الأقرب لدفع مسار التحول الديمقراطي في مصر، فليس دورها مجرد العمل الخدمي، إنما هي وثيقة الصلة بالتشريعات التي ترتبط بالحريات العامة كما في حالة الصحفيين، وسيادة القانون كما في حالة المحامين، والخدمة الصحية اللائقة كما في حالة الأطباء.
كذا تغدو النقابات المهنية جزءًا مهمًا من التوازن الذي يصنعه المجتمع المدني في الحد من انفراد السلطة بالسلطة، وفي كبح جماح النظام السياسي عبر التدخل في شؤون التشريعات والقرارات الحكومية المهمة التي تؤثر في حياة ملايين الناس في المجتمع.
بنفس قيمة وتأثير النقابات المهنية يمسي اختيار مجالس إدارات منتخبة ومتحررة من كل الضغوط والقيود والمصالح ليس فقط انتصارًا للمهنة وأصحابها، بل مساعدة من الناخبين لتوسيع دور هذه النقابات ليصب في النهاية في خانة المهن التي تمثلها أولًا، ثم في خدمة المجتمع ككل، وبالطبع في دفع التطور الديمقراطي خطوات مهمة إلى الأمام.
في الدفاع عن استقلال النقابات المهنية انتصار مؤكد للمجتمع، وازدهار أكيد لمهن عريقة ومهمة، والأمر الواضح أن الحفاظ على دور النقابات كمؤسسات في خدمة أعضائها، وفي خدمة المجتمع أيضًا أمر في يد أعضائها يمارسونه عبر أصواتهم في الانتخابات، ومحاسبة مجالسهم المنتخبة، ولعل كل القيود التي تضعها السلطة -أي سلطة- على حركة وتأثير النقابات لا يمكن أن يصمد إذا امتلك أعضاء الجمعيات العمومية إرادتهم وأدركوا أن استقلال قرار نقاباتهم هو المدخل الأول والأهم لحياة كريمة يستحقها كل أصحاب المهن الحرة.