في مايو/ أيار الماضي طُلب من صالح بركات، العامل في أحد المقاهي المتناثرة على كورنيش المقطم، إزاحة كراسيه من على حافة الكورنيش، تمهيدًا لمخطط يستهدف "تطوير" المنطقة بالكامل. التزم صالح الذي يعمل في نفس المقهى منذ سبع سنوات وتراجع بكراسيه إلى ما بعد الرصيف، لكنه فوجئ السبت الماضي بشاحنات تحمل كتلًا خرسانية ضخمة وأوناشًا، وعندما سأل عرف أنها لإقامة سور على حافة الكورنيش.
يعني هذا السور لمئات البسطاء وعشرات العاملين في أنشطة شعبية بسيطة على طول الكورنيش، نهاية متنفس أخير للهواء والرزق، لذا حاولوا منع إقامة السور بالقوة، إلا أنهم تراجعوا بعد استدعاء الشرطة، التي رافقت عمال الشركة أثناء عملهم، بينما جلس العمال يتابعون ما يحدث بأسى.
"مين هيجي يتفرج عن سور خرسانة"، يقول صالح للمنصة وهو يصف كآبة المشهد الحالي من على المقهى، بعدما كان براحًا يمكن من خلاله رؤية القاهرة الفاطمية وقلعة صلاح الدين ومتحف الحضارات، وأهرام الجيزة.
ويصل ارتفاع السور لنحو ثلاثة أمتار وبطول كامل الكورنيش، ومن المفترض أن يتم تسليمه إلى شركة سكوب العالمية الهندسية (السعودية) تنفيذًا لاتفاق تم توقيعه بين شركتي سكوب والنصر للإسكان والتعمير في يونيو/ حزيران الماضي، لتطوير وتنمية كورنيش المقطم.
وتمتلك شركة النصر للإسكان والتعمير، وهي إحدى الشركات التابعة للشركة القابضة للتشييد والتعمير التابعة بدورها لوزارة قطاع الأعمال العام، كورنيش المقطم بالكامل، ضمن ما تمتلكه من أراضٍ ومساحات في الهضبة المُطلة على القاهرة، حيث تعمل هناك منذ عام 1984.
وبحسب الشركة، ينقسم مشروع تطوير كورنيش المقطم إلى قطعتين، الأولى كورنيش الهضبة العليا والمصاطب أسفلها بمساحة 1.3 مليون متر، والثانية في الهضبة الوسطى بمساحة 750 ألف متر، يتم فيها إنشاء كمباوند سكني متكامل الخدمات.
وأعلنت وزارة قطاع الأعمال في أبريل/نيسان الماضي الاتفاق مع شركة سكوب العالمية على تطوير المشروع، وفي يونيو الماضي أعلنت شركة النصر أن شركة سكوب العالمية ستضخ نحو 32 مليار جنيه في المشروع، متوقعة أن تصل الإيرادات المقدرة من التطوير إلى نحو 61 مليار جنيه.
هذه المليارات تهدد رزق 500 عامل في عدد من المقاهي على طول الكورنيش، كما يقدر عددهم صالح وهو يعبر بسخط عن أحوالهم بعد إتمام المشروع "هو دا أكل عيشنا، ملناش غيره نروح نسرق بقى ولَّا نعمل إيه!".
ومن وراء هؤلاء العاملين عشرات الآلاف من المواطنين ممن كانوا يقبلون على هذه المقاهي للتمتع بمشاهدة مجانية لموقع متميز تستطيع أن ترى فيه القاهرة من أعلى.
ويشرح هاني عباس، عامل بمقهى آخر، كيف كان النشاط الترفيهي يتطور على الكورنيش على مدار سنوات عمله الطويلة هناك منذ 23 سنة "أنا شغال هنا من أيام ما كان هنا عربيات الشاي والحلبسة.. دلوقتي العربيات دي بقت محلات وقهاوي وكافيتريات"، مضيفًا للمنصة "المحلات دي فاتحه بيوت كتير، واللي بيحصل دا خراب بيوت".
في المقابل يرى موظف بحي المقطم رافق الشركة أثناء إنشاء السور أن "العيال دي (أصحاب المقاهي والعاملين فيها) شغالين بلطجة"، لافتًا في حديثه مع المنصة إلى أن أرض الكورنيش هي ملك شركة النصر للإسكان والتعمير، ومن حقها استغلال الأصول التي لديها كما قال الرئيس السيسي.
وفي تصريحات إعلامية سابقة لرئيس شركة النصر فمن المقدر أن يساهم التطوير في توفير نحو 5000 فرصة عمل جديدة.
وأضاف الموظف الذي طلب عدم ذكر اسمه "الكورنيش منظر جميل لكن كان مهمل ودلوقتي هيتعمل عليه شغل محترم.. بس فيه ناس مش بتحب كده".
وبحسب المعلن من جانب شركة النصر من المتوقع أن يجري العمل في المشروع لمدة 5 سنوات، حيث سيتم إنشاء ممشى، ومسار دراجات، وحديقة، وسلسلة مطاعم وكافيهات، ومنطقة بازارات تجارية، ومنطقة ملاهٍ ترفيهية، وجسر زجاجي، ومنطقة تليسكوب لهواة الفلك ورصد النجوم، ومولات.
ولم توضح الشركة هل سيتم تحديد تذاكر للدخول إلى الكورنيش، أم ستكون بالمجان، وهو التساؤل الذي طرحه العديد من سكان المقطم على فيسبوك، خاصة وأن المنتفعين من الكورنيش لا يقتصرون فقط على رواد المقاهي في المساء، ولكن طوال النهار يكون الكورنيش مساحة مجانية مفتوحة للجري والتمشية.
"أنا باجي هنا كل فترة أشم هوا وأقعد شوية مع نفسي. مش عارف بعد كده هيسمحولنا نقعد على الكورنيش ولا مش هنقدر"، كما يقول وائل حسن، الذي تصادف جلوسه وحيدًا على الكورنيش أثناء جولة المنصة هناك.
مخاوف وائل تبدو طبيعية بالنظر إلى سابقة المشروعات التي أعادت استغلال الفراغات العامة، وسلمتها لمطاعم وكافتريات تبالغ في أسعار الخدمات التي تقدمها، كما حدث على كورنيش النيل الذي تم تحديد سعر تذكرة للوقوف بجواره.
قبل بناء السور كانت هناك مطاعم وكافيتيريات بحد أدنى (minimum charge) مرتفع، يصل إلى 700 جنيه للفرد الواحد، لكن بجوارها كانت العديد من المقاهي الشعبية، ربما بعد إتمام المشروع يختفي كل ما هو شعبي ويصبح الصوت الأعلى للتطوير، الذي سيبعد صالح وزملاءه عن المنطقة ليبدأوا رحلة البحث عن عمل آخر، في ظل أوضاع الاقتصادية لا يبدو أنها في طريق التحسن.