بين الاعتراف بنايجال فاراج وبوريس جونسون كقادة مظفرين لمعسكر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، وبين صعود دونالد ترامب في الولايات المتحدة مرشحا رسميًا للجمهوريين؛ تجتاحُ قطاعات واسعة من مثقفي العالم المتقدم وغيرهم مشاعر تختلط فيها الصدمة بالخوف بالاشمئزاز.
بالطبع، ليس للأمر علاقة مباشرة بالصعود الانتخابى للمزاج اليمينى داخل الديمقراطيات الغربية، ذلك أنه أمر معتاد من حين لآخر وسمة طبيعية لدورات السياسة، لكن ما استجد في الأمر هو التغيرات التى لايمكن إنكارها في بنية خطاب وقوام جمهور ذلك المزاج اليمينى، وما استتبعه من إدراك لإشكالِ كون ذلك الصعود مُعضَدًا بشغف شعبى متزايد، وأنه ليس مجرد ضجر تصويتى يعبر عن نفسه بأشكال عقابية، وما يزيد الأمر سوءً أن القطاعات التى يتصاعد تأييدها لليمين الصاعد؛ لم تكن بالضرورة من القطاعات الداعمة له تاريخيا ويصاحب تشكل مزاجها متلازمات الغضب والتهور وتعبئة الكراهية والمخاطرة بخيارات حافة الهاوية.
نحن الآن، وللأسف، في لحظة أصبح في استطاعة دجالى اليمين الحديث بثقة وصدق باسم إرادة البسطاء وبصوت رجل الشارع العادي والمواطن الحقيقي، فأى محافظية تلك التى يتحدث باسمها ترامب حين يقول إن "الشركات الكبرى والإعلام النخبوي والمانحون الكبار يصطفون خلف حملة هيلارى كلينتون لأنهم يعلمون أنها ستحافظ على هذا النظام الفاسد"، هذه شعبوية يمينية على أقل تقدير ودجل في كل الأحوال؛ لكنّ كونه دجلًا لا يمنع حقيقة أن الأمور تسير وكأن موقع ما يسمى بيسار الوسط أصبح هو المعبر عن"النظام" بمعناه الرمزى والمؤسسى، في حين أصبح اليمين هو من يتصدى بالحديث نيابة عن "الشعب الغاضب"، فنحن الآن في لحظة يعد فيها دونالد ترامب بعودة أمريكا قوية مرة أخرى؛ ليرد عليه باراك أوباما بأن امريكا قوية بالفعل.
لقد وقّع خمسون من القادة الجمهوريين، منهم عدد من كبار المسؤولين الأمنيين السابقين، على بيانٍ مفتوحٍ للأمة الأمريكية، يُحذّر من مغبة انتخاب ترامب رئيسا للجمهورية لأنه "شخص يحمل أفكارًا وخصائص لا تؤهله لامتلاك الزر النووى" فكان رد ترامب عليهم أنهم حفنة من نخبة واشنطون التافهة التى تريد الحفاظ على مواقعها غير المستحقة وأنه حان وقت حسابهم.
في خطابه أمام مؤتمر الحزب الديمقراطى؛ راح باراك أوباما يسأل، كما لو كان جلال أمين في مصر، عن ماذا حدث للمحافظية وللجمهوريين المحافظين، حسنًا، أغامر بالقول إن المحافظية بمعناها التاريخى تبدو وكأنها في سبيلها للاختفاء لصالح يمين أكثر رعونة وجهالة وخطورة، لقد كانت دومًا التجليات السياسية للمحافظية في الديمقراطيات الغربية تستند على أسس مادية ونظرية تنتج وتعيد إنتاج محافظيتها والنظام معًا، ذلك لأنها تمثل فعليًا مصالح الفئات الاجتماعية المهيمنة والمتحققة والتي تريد باستمرار إعادة إنتاج أمانها وتحققها في صيرورة أبدية، لذا فعلى المستوى الخطابي، كانت تتحدث دائمًا باسم القيم التقليدية سواءً سياسيًا أو أخلاقيًا، وتوجه حديثها إلى من يستفيد ماديًا من استمرارهما، أو إلى قطاعات لها قناعات عقائدية تجعلها لا تتخيل استمرار العالم دون تلك القيم التقليدية، وتشعر بالخطر والتهديد حيال محاولات المس بها أو تجاوزها، المحافظية تَعِدُ قلب النظام الاجتماعى الصلب باستمرار مصالحه ومكتسباته، وتهدد حوافه وبسطاءه بالأسوأ حال تداعى هذا النظام السياسى/ الاجتماعى وترعبه من مغبة اهتزاز قيمه.
المحافظية كانت بالفعل سيدة كل لحظة ونظام معاصرين ترى قواه المهيمنة في نفسها النجاح والسيطرة، أو تروم إلى العودة الحازمة المنضبطة لعالم مهيمن ربما فقد بعضًا من سيطرته بعد أن هددته بعض نزعات التغيير، لذا فالتقليد المحافظ كان دائمًا يرتكن في خطاباته إلى التبجيل الشديد لمفهومه التاريخى عن دولته وعن قيمها ومبادئها المؤسسة، ويتصف بالانضباط اللغوى لحد التخشب من البرجوازية المدينية المنتمية إليه، أو بالبساطة الريفية الجلفة لعلية البرجوازية الريفية خاصتها، ودائما، وبالطبع، كانت النزعات الدينية الإيمانية بتفاوت درجاتها من بلد لبلد هى صنو التقليد المحافظ وأحيانا عموده الفقرى، ويقينًا دونالد ترامب أو بوريس جونسون كشخوص وخطابات صادرة عنها لا يمثلون كل ما سبق ذكره.
لقد كان باراك أوباما مُحقًا في خطبته العصماء أمام مؤتمر الحزب الديمقراطى الداعم لترشيح هيلارى كلينتون لإنتخابات الرئاسة، حين وصف بامتعاض وتأفف دونالد ترامب وخطابه ومؤتمر الحزب الجمهورى بالمجمل بإنه ليس جمهوريًا ولا محافظًا؛ فالمحافظين ليسوا غاضبين ولا سوقيين ولا يعدون بحلول راديكالية الآن الآن وليس غدًا، ولا يصرخون قائلين لقد حان وقت التغيير؛ بينما الغيظ ينفجر من وجناتهم، ولكن ما فات على أوباما هو أن المحافظية التى يبحث عنها أصبحت ماضيًا يحتاج معجزة لبعثه من جديد.
لقد توجه دونالد ترامب في خطابه أولا لقطاعات تشعر بالتهديد والتهميش وهذا ليس أمرًا محافظيًا بالمرة، فقد أكد في اكثر من مرة أنه سيولي اهتماما خاصا بصناعة الصلب المتدهورة في الولايات المتحدة، وحين يقوم بتوجيه رماحه نحو الصينيين أولًا ثم المكسيكيين ثانيا، فهو هنا لا يتحدث بلسان قطاعات من رأسمالية مهيمنة تجنى الأرباح من وراء ديناميكيات أوضاع التبادل الدولى السلعى الراهن؛ أكثر مما يتحدث باسم مزاج طبقة عاملة بيضاء أصبحت تشعر بتهديد زائف من يد عاملة مهاجرة تزحف على أراضيها، وبتهديد حقيقى من يد عاملة على الجانب الآخر من المحيط الهادى تهاجر إليها فرص العمل ومعامل الإنتاج، لقد لخص ترامب هذا القلق بمداعبته قائلاً إن خطته هى الأمركة وليست العولمة، دونالد ترامب وحالته هنا بالتأكيد لا تخاطب جماهير محافظة قضيتها هى منع الإجهاض أو إعلاء كلمة الإيمان البروتستانتى في الأرض، وحتى لو حَشَرَ بعضًا من تلك المقولات حشرًا بين حشرجاته الصوتية فيقينًا هذا ليس مصدر جاذبيته لجمهوره المتزايد، وهو النيويوركى صاحب برامج تلفزيون الواقع والمتزوج من مهاجرة وعارضة أزياء سابقة تستعرض جمالها، في كل الأحوال وبصرف النظر عن نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة فالأمر يبدو خطيرًا.
ولكن أين اليسار، أو بمعنى أدق، أين موقع اليسار في السياسة الرسمية من ذلك؟
الحديث عن الأزمات البنيوية لأطياف اليسار الماركسي وأنساله الشرعيين وغير الشرعيين؛ ربما يحتاج لمؤلفات ضخمة، ما يهمنى هنا هو الحديث عن مواقع اليسار في الأبنية السياسية بصرف النظر عن جواهرها الأيديولوجية، وكذا موقفها من صعود أنماط اليمين الشعبوى غير المحافظ المشار إليه عاليه، هذا "اليسار" الآن مرتعب من ذلك الصعود بدءً من بيرنى ساندرز وحالته الديمقراطية الراديكالية، ذات المذاق الأمريكى الليبرالى الملتبس التى حاول خلقها خلال منافسته الشرسة لهيلارى كلينتون على تذكرة ترشيح الحزب الديمقراطى للرئاسة؛ والذى يقول الآن إن إسقاط ترامب مقدم على أى تناقضات بينه وبين منافسته، وصولاً إلى يانيس فيروفاكيس وزير المالية اليونانى السابق في حكومة سيزيرا، وهو الماركسى الرديكالى بحزم الذى يجد نفسه في التحليل الأخير مضطرًا لتكرار إعلان دعمه لتطوير منظومة أوربية يكرهها "حتى لا يسقط العالم مرة اخرى في هاوية ثلاثينيات القرن العشرين الفاشية" على حد وصفه الحرفي.
مصدر هلع المواقع اليسارية حتى الراديكالية منها يأتى، في تقديرى، بسبب إدراكها المضمر أن صعود اليمين الشعبوى مرتبط بعدم قدرة موقع الوسط السياسى على إدارة واستمرار النظام كعمل معتاد؛ مع عدم قدرته هو كيسار لأسباب مختلفة على الوفاء بوعوده الجذابة وفي طليعتها وعدى التغيير والتقدم، والأمثلة الأكثر دراماتيكية وراديكالية في التاريخ أتت دوما في اعقاب الثورات المتعثرة؛ والتى مع تعثرها صعدت طبعات مختلفة من الفاشية، والتى لم تكن إلا لحظة سطو أقصى اليمين على موقع اليسار وخطابه داخل صيرورة التغيير اللازم، وقيام ذلك اليمين المحتال بتشكيل تصوراته هو عن الأمل والحماسة والتغيير والنظام والتقدم، وهذا هو الكابوس الحقيقى.
اليسار -أو بمعنى أصح مرة اخرى موقع يسار الوسط الصالح لتسلم السلطة فى ظل النظام الرأسمالى المعاصر، وفى الحالة الأمريكية تحديدًا والتى تختلف بشدة عن غيرها– أضاع الكثير من الوقت، وأصبح لا يجيد إلا استحلاب سياسات الهوية المنحازة للخير بمعناه المثالي والخيري عبر شعارات تمكين الجماعات المستضعفة، في هذا الصدد يكون باراك أوباما هو النموذج الأعمق، وجاستين تراودل رئيس وزراء كندا هو التجسيد السينمائي للحالة، وعلى هذا الأساس يتم تقديم هيلارى كلينتون لموقع الرئاسة لأنه حان الآن موعد اعتلاء امرأة لسدة الحكم، وهذا المنحى أرى أنه يستند على فرضية خاطئة ومتوهمة قد تفضي إلى مفاجآت غير سارة، إذ أنه يعتبر بداهة أن النظام بالمجمل يعمل بشكل ناجع ومرضٍ وفعال، وأن الكتلة الأكبر من المجتمع مؤمنه به وبفعاليته، وأن اكتمال تحققه المثالي سيأتي بمزيدٍ من تمكين الجماعات المستضعفة أو الهامشية، هذه فرضية خاطئة تمامًا، وتنكر واقع أن الجماهير الأوسع من الكتلة الصلبة في المجتمع صارت ضاجرة من المجال السياسى كما يعرفونه؛ وبالتالى فإن مستوى عدم رضائهم العام مرتفع جدًا، خاصة وأن توقعاتهم بالتغيير وقلقهم من تأزمات البنية الحالية؛ أعلى بكثيرٍ من حدود ما قدم بالشكل الذى يجعل سياسات الهوية ذات النكهة اليسارية مستفزة للواقع المتأزم اكثر مما هى مُلطِفة له؛ وربما تؤدى إلى ردات عكسية رجعية ذات طابع متشفٍ وانتقامىّ.
لا أعتقد أن الدوافع الشعبية الرئيسية التى أتت بباراك أوباما إلى السلطة فى 2008 كانت تقنين زواج المثليين، بل، وباختصارٍ مخلٍ، البحث عن إجابة لأسئلة كبيرة انفجرت مع الأزمة المالية نهاية 2008؛ حيث لم يعد اليقين النيوليبرالى في صحة ثوابته العقيدية راسخًا كالماضى، واهتزت معه التصورات حول نموذجية النظام الرسمى ونمط الحياة وديمومته ومخاوف الإفقار المحتمل. فى منتصف التسعينيات مع صعود بيل كلينتون كان كثير من الاقتصاديين يتحدثون عن عالم أعمال ناجح لن يتوقف نجاحه، وعن نمو أبدى ورخاء رأسمالي نموذجيّ ليس هناك أفضل منه، وكان يتحدث بعض محتالى التفلسف عن نهاية التاريخ، لكن اللحظة التي صعد فيها أوباما كانت في الشهر التالي لقرار جورج بوش بـ"تأميم " شركة AIG –كبرى شركات التأمين في العالم– لمنعها من الانهيار وإنقاذ عالم الأعمال بأكمله خلال تداعيات أزمة خريف 2008.
ربما كان جزء من قصة العقود الثلاثة الماضية سياسيًا هو تماهى الفواصل الجوهرية بين يمين الوسط ويساره؛ حتى صاروا عمليًا مجرد وسط تكنوقراطي حاكم، وفى وضع كهذا تنطلق فرصًا جديدة لأقصى اليمين وأقصى اليسار على حدٍ سواء مع عجز هذا الوسط على الإجابة عن أسئلة وتحديات الواقع؛ لكنّ الإشكال هنا أن اليمين الصاعد حتى وإن تبلور، لاحقًا مع الوقت، نوع جديد من يمين الوسط؛ فسيقوم خلال هذه العملية بمحاولة استعادة عالمه القديم بعدوانية وغضب ربما لانستطيع أن نتوقع خسائره، بينما لا يزال اليسار يتحسس خطواته المرتبكة أسيرة تصورات الهوية وإنصاف المظاليم أخلاقيا، ولا يتجاسر على نقد جوهر أزمات النظام البنيوية ومواجهتها، أو يقوم بذلك على استحياء ولكنه ولدواعي العقلانية والخوف من صعود اليمين بشكل أسرع يجد نفسه يلهث صوب شَغل موقع يسار الوسط التقليدى، ويفقد بالتبعية معنى حضوره بشكل دراماتيكى وسريع كما يحدث الآن مع تجرية سيزيرا فى اليونان.
لقد قال كارل ماركس بيقين فى مقدمة البيان الشيوعى عام 1848 إن الشيوعية صارت الشبح الذى يجول فى أوروبا، الآن هناك شبح ما يجول ولكننا لا نعرف له اسم.