بينما كنت عاكفًا على كتابة هذا المقال، اتصلت بي صديقة عزيزة لتحكي عن مشاعرها لحظة معايشة الزلزال الأخير الذي ضرب تركيا حيث تعيش حاليًا. وللمصادفة، ولا شيء صدفة، كانت مكالمتها في عمق ما أكتب.
تعاني صديقتي من قلق مزمن، تثبطه بالأدوية ومحاولات وتجارب لا تنتهي مع اليوجا والتأمل وجلسات الطاقة والركض والرقص. قالت "تخيل واحدة مثلي، تشعر وهي في الطابق السادس عشر، في بلد غريب، بالمبنى يتمايل ويكاد يتداعى وسط صراخ هيستيري. أصبت بالشلل التام، وتجمدت في مكاني، وانقطع نفسي. لم ينقذني مما خلته الموت، إلا صوت عربي يسألني: هل أنتِ بخير يا أختي؟ واكتشفتُ أنني وصلت إلى باب شقتي وفتحته وتوقفت على السلم.. لا أعرف كيف مشيت تلك الخطوات، ولا متى، وكم مر علي من وقت. الصوت الذي ألفته لحظتها واللغة المشتركة، ربما أنقذاني من الانهيار التام وفقدان الوعي. أنقذني غريب، غريب بالتعريف، لكنه ليس غريبًا أبدًا".
هكذا، نواجه جميعًا، أو للدقة واجهنًا قبلًا أجيالًا بعد أجيال، خوفنا من انقلابات الطبيعة وغدرها ومفاجآتها، طوال 300 ألف عام من وجودنا الإنساني على الأرض، كما يحكي جمال أبو الحسن في كتابه 300,000 عام من الخوف، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية. يكتب أننا واجهناه بالتضامن الإنساني، ليس في شكله البسيط المباشر كما حدث لصديقتي، ولكن بالانتماء للجماعة، وبالجماعة البشرية الكبيرة، حتى حينما وصل عددها في محطة من المحطات الكارثية إلى خمسة آلاف بشري فقط موزعين على كوكب الأرض.
الخوف في رسائل
الخوف، هو الجذع الكبير الذي تتفرع منه أغصان وأوراق شجرة المشاعر الإنسانية كلها تقريبًا.
الخوف، القوة التي دفعت الإنسان إلى الأمام منذ كارثته الأولى؛ حينما حدث انفجار هائل لبركان "توبا" قرب سومطرة هو الأقوى في تاريخه على الأرض، وخلف وراءه أخدودًا ضخمًا، وأطلق في الجو ملياري طن من حمض الكبريتيك، كوّن سحب حملتها الرياح مع الرماد البركاني إلى أصقاع بعيدة، وحجبت ضوء وأشعة الشمس، وعطلت التمثيل الضوئي الذي تعيش عليه نباتات يأكلها الحيوان والإنسان لاحقًا.
الخوف، أيضًا، القيد الثقيل القادر على شل حركة الإنسان وتقييد عقله، حينما تعمل شفرته الدماغية على توقع الأسوأ في المستقبل، القريب والبعيد، فيصاب بالعجز المؤقت، والحل أو ما يبدو حلًا هو "أن تواجهي أسبابه. جربي هذه المرة أنتِ قبل أن يهاجمك" كما يوصي المؤلف ابنته ليلى التي أقام كتابه على شكل رسائل منه إلى الابنة المنعزلة قسرًا شأنه أيضًا، في فترة الإغلاق العام العالمي إبان تفشي فيروس كورونا.
وتقنية الرسائل، هي تقنية سهلة كإطار للكتابة في كل أنواعها بشكل عام. لكن المؤلف صعبّها حينما حولها من منولوج يرسل عبره وحده ما يريد أن يقول، إلى ديالوج حيث بإمكان المرسل إليه أن يستفسر ويسأل ويبدي ملاحظاته ونقده أيضًا، فيتحول الأمر من خطبة إلى خطاب، ومن حكمة نهائية ملقاة على أسماع المتلقي إلى "كلام رايح جاي" يوقف الراسل ويستوقفه ليتأمل ويجتهد، ويستدعيه لتبرير حكايته.
أو كما استنكرت ليلى في موضع متقدم قليلًا في قصة الإنسانية كما كان يحكيها أبيها "البشر تركوا حياة الترحال، لأن تغير المناخ دفعهم للزراعة. ثم زادت أعدادهم، فظهرت السلطة، ثم بزغت الدولة التي جلبت معها العنف والإجبار والتراتبية الهرمية والمباني الشاهقة. كل شيء يبدو حتميًا تمامًا. أين اختيارات البشر في القصة"؟
ويجيب الأب وقد ارتبك قليلًا، ارتباك الفلاسفة ومدارسهم وتلاميذهم في تفسير حركة التاريخ، وفي سد الفُرج في سردياتهم، وهذه واحدة من أسباب أهمية كتابنا، حيث لا حسم أيديولوجي ولا انحياز صارم لفكرة أو وصف، رغم شجاعة الكاتب منذ الصفحة الأولى في تبني فكرة الانفجار العظيم لنشأة الكون، ولنظرية التطور في ظهور أسلاف الإنسان من الثدييات بعد اصطدام الكويكب العملاق بالأرض قبل 65 مليون سنة.
هذه الشجاعة تحولت بالتدريج إلى مرونة دبلوماسية خبرها المؤلف جيدًا بحكم عمله في السلك الدبلوماسي، حينما وصل بروايته لقصة الإنسانية إلى معرفة الإنسان بالأديان، واهتدائه إلى التوحيد، ليتوقف ويتبين ويركن إلى موقع الحكاء، الذي يسرد القصص كما وردت، دون إشكاليات، في التاريخ العام.
بين النوع والمكتبة
كتاب 300,000 عام من الخوف، من الأعمال التي يفتقد إليها المحتوى العربي، فهو ينتمي إلى ما يعرف بـ nonfiction/الأعمال غير الخيالية بالترجمة الحرفية، أي غير الروائية أو القصصية لكنها مُصاغة في قالب ولغة أدبيتين، وهي نوعية من الكتابات زادت وراجت مؤخرًا، وأضافت إلى المكتبات عناوين مهمة وأعمالًا غاية في الجمال.
لكن كتاب جمال أبو الحسن يقع في منطقة شديدة الخصوصية، حيث اختار الكتابة عن العلوم، ما يجعله خاضعًا في النهاية لتقييمات علمية وأسئلة مدققة في المعلومات التاريخية، والإحالات العلمية والفلسفية والأنثروبولوجية، مما يحفل به الكتاب.
كذلك يقع العمل في منطقة وسطى بين الكتابة غير الخيالية بالمعنى الذي أشرت إليه, وبين الكتابة في العلوم التي تفتقدها فعلا المكتبة العربية، ودون أن يقدم في النهاية كتابًا مُرشدًا ينتمي لكتب التنمية البشرية، أو ما شابهها من أعمال أغلبها في الواقع منحولة من ترجمات غربية لكتب المرشدين الروحيين والمعالجين النفسيين.
ما يصلح لإثارة الدهشة
كتاب 3000,000 عام من الخوف ليس من إصدارات معرض الكتاب المنصرم، بل سبقه، وظهرت طبعته الأولى في سبتمبر/ أيلول 2022، غير أنه حضر بقوة في المعرض من خلال طبعته الثانية. وهي طبعة ثانية حقيقية، فلدي من الخبرة والمعرفة ما يمكنني من التفرقة بين كتاب طبع في ثلاثمائة نسخة ثم أعيد طبعه في مئتي نسخة بعد وضع خاتم الطبعة الثانية.
أعرف هذا من مجموعات القراءة ومن ترشيحات القراء المخضرمين ومن الذين أشاروا للكتاب في مقالاتهم ومن محتوى الكتاب بالطبع، وهو الأقدر على حسم أهميته.
وأهمية كتاب أبو الحسن، في أنه ينسج شبكة دقيقة وواسعة للتاريخ الإنساني انطلاقًا من نقطة تبدو صغيرة، أو هامشية، ومن خلالها يوصل العلوم والمعرف ببعضها البعض، ويرمم تجزئتها كما يدرس الطلاب في المراحل المختلفة، وينفصم الطب عن اللغة، والدين عن التاريخ، والفلسفة عن العلوم الطبيعية، فلا يكاد يبين الطالب إلا تخصصه، منقطع الصلة بما يجاوره من معارف ومناهج، إلا إذا أراد الاستزادة بالقراءة والمعرفة، وهنا سيصبح مثقفًا لا طالبًا مجتهدًا، ويورد نفسه أولى موارد التهكلة العقلية!
أقول إن الكتاب، وإن أعاد سرد التاريخ الإنساني، متتبعًا مواقع ذلك الكائن الذي يتربع أعلى سلم الكائنات الأخرى، فقد نظم هذا السرد، ليجعل القارئ في تناغم نادر، ينظر إلى ما قد يعرف بعضه مسبقًا، ليدرك أن الحقائق القديمة، والثابتة، صالحة وما زالت لإثارة الدهشة.