في كتابه "الفيلق المصري.. جريمة اختطاف نصف مليون مصري"، يبدو الدكتور محمد أبو الغار طبيب النساء والولادة المرموق، كمن يرسم عملًا فنيًا تشكيليًا؛ لوحة لجسد بشري عبارة عن جذع ضخم وله ساقين رفيعتين.
أما الجذع فهو للحادثة الرئيسية، المرعبة، وتتمثل في سياقة نصف مليون مصري، أو مليون في بعض التقديرات التي يوردها أبو الغار في كتابه منسوبة للمؤرخ عبد الرحمن الرافعي، إلى معسكرات وخنادق الجيش البريطاني قسرًا في أبشع حرب عرفها التاريخ الحديث، الحرب العالمية الأولى، لتتناثر جثثهم في بلاد غريبة بعيدة آلاف الأميال عن قراهم وأراضيهم الزراعية حيث كانو يعملون، والساقان الضعيفتان، هما الغياب شبه التام لتفاصيل تلك الجريمة في حينها ولسنوات طويلة تجاوزت المائة عام، وكذلك عدم قدرة المؤلف حتى، على التذكير بهم ونعي أرواحهم بالتأريخ لما حدث، مستعينًا بالأرشيف المصري حيث لم تمنحه المؤسسة الرسمية المسؤولة عن الوثائق في مصر، وهي دار الكتب والوثائق القومية، الموافقات اللازمة للإطلاع على ما يخص تلك القضية الكبرى.
في الكتاب الذي أهداه إلى "جميع الفلاحين المصريين الذين أهدرت دماؤهم وكرامتهم في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وإلى كل الوطنيين المصريين الذين تكاتفت عليهم قوى خارجية وداخلية بالقتل أو السجن"، اضطر الدكتور أبو الغار إلى السفر إلى لندن لزيارة المتحف الحربي الإمبريالي الذي يحتوي على وثائق الفيلق، وتراسل هناك مع إدارة قاعة الإطلاع في المتحف، وطلب تجهيز الوثائق التي يحتاجها.
ولما توجه أبو الغار للحصول على ما يريده وجد الوثائق المطلوبة جاهزة فقام بتصويرها، بينما أرسل موظفو المتحف بقيتها بالبريد الإلكتروني، دون الاطلاع حتى على جواز سفره، وكلفه الأمر كله عشرة جنيهات إسترلينية قيمة تصوير الوثائق، بينما كان الإطلاع سهلًا وميسرًا.
أما في مصر فلم يستطع المؤلف الإطلاع على الوثائق المصرية التي يتجاوز عمرها مائة عام، بسبب إغلاق دار الوثائق أمام الباحثين المصريين لفترة طويلة، وحينما سُمح أخيرًا بالإطلاع بعد تقديم طلب بذلك، لم يحصل أبو الغار على الموافقات المطلوبة حتى تقديم الكتاب للنشر، مع أن القضية مصرية والضحايا مصريون والوثائق مصرية والمؤلف مصري.
إن الإخفاء والتعتيم والتواطؤ والانسحاق أمام المستعمر والمصالح التي ربطت بينه وبين القوى الحاكمة في العقدين الأولين من القرن العشرين، كلها عوامل ساعدت منذ اللحظة الأولى على ألا تأخذ تلك الجريمة ما تستحقه من اهتمام، وكأن اختطاف مئات الآلاف من الفلاحين المصريين يمثلون القوة الزراعية الأكبر ضمن سكان يصل عددهم آنذاك إلى 12 مليون مصري فقط، تم في ليل مظلم أو في بلدة من العميان والصم والبكم.
صحيح أن الجريمة تردد صداها، كما يشير المؤلف في عدة كتب، لكنها كانت إما إشارات ضمن أحداث أكبر مثل ثورة 1919، أو كخلفية عابرة لقضايا محددة مثل إشارة صلاح عيسى في كتابه "رجال ريا وسكينة" للفيلق، أو في أعمال أدبية عُد الكلام فيها عن الفيلق تخييلًا أكثر منه عملًا توثيقيًا، وبعضها صدر بعد وقوع الجريمة بأعوام طويلة مثل رواية الفيلق لأمين عز الدين التي صدرت عام 1999، وباقي الكتابات جاءت متأخرة وأغلبها بمناسبة مرور 100 عام على ثورة 1919.
فلاحون في خنادق أوروبا
تبدأ قصة الفيلق المصري مع اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918) واحتياج بريطانيا التي وضعت مصر تحت سيطرتها، إلى آلاف الأنفار لمعاونة جيشها في الأعمال اللوجستية، مثل بناء الخنادق ونقل السلاح والعتاد، حيث طلب الجيش البريطاني في أغسطس/آب 1914 عمالًا لتحصين القناة والسواحل المصرية، وكان بينهم الفلاحون ومعهم جمالهم، ما أطلق عليه المؤرخون "فيلق الجمال".
انتقل الفلاحون إلى فلسطين وسوريا ولبنان، وفي عام 1915 أرسل 500 فلاحًا آخرين إلى جزيرة مودوروس، وكانت المشاركة في الفيلق حينذاك اختيارية ويتقاضى النفر منهم 8 قروش في اليوم إضافة إلى مأكله، وقد أبدى المشاركون في الفيلق بحسب تقارير العسكريين صمودًا وبطولة وكانوا محل إعجاب القادة في المعارك رغم أهوالها، وكان الانضمام للجيش البريطاني في تلك المرحلة يسمى "الشغل في السلطة"، باعتباره عملًا اختيارًا مقابل أجر، صحيح أنه عمل قاتل لكنه في النهاية عمل في لحظة بائسة تعانيها البلاد.
عاد من ذهب إلى خارج الحدود للشغل في السلطة بعد بضعة أشهر، مصابًا بالصدمة مما رآه أو مريضًا بأمراض غامضة انتقلت إليه في البلاد الغريبة، فضلًا عن المعاملة القاسية تحت ضربات السياط ونيران المدافع، ولم يعد التطوع مع اتساع دائرة المعارك وتنوع الجبهات كافيًا، ليحصل الجيش البريطاني على ما يحتاجه من أنفار.
وبحلول عام 1915 حولت السلطة البريطانية الالتحاق بالفيلق من عمل اختياري إلى تجنيد إجباري لكل المصريين في الأرياف، في الصعيد والدلتا، وعينت ضابطًا بريطانيًا في كل مركز يعاون المأمور في جمع الفلاحين، وفرضت على كل عمدة أن يختار عددًا محددًا من الشباب في قريته لضمه إلى الفيلق، وإلا جوزي وعزل من وظيفته، فكان العُمَد يختارون خصومهم والفقراء بالطبع، ويتقاضون الرشاوى مقابل إعفاء البعض.
وبدأت المأساة التي عاشتها القرى المصرية بطول البلاد وعرضها، حيث إذا انخفض العدد المطلوب حاصرت الشرطة القرية المقصودة وهاجمت الفلاحين لدى عودتهم من الحقول وقيدتهم إلى بعضهم بالحبال والسلاسل، لتقودهم كما الحيوانات وسط بكاء الأطفال وعويل النساء وولولتهم على الأبناء والأزواج والأشقاء، ثم يقتاد الأسرى إلى معسكرات لإجبارهم على توقيع طلب التطوع، ومن ثم تسفيرهم حيث أهوال المعارك.
والعجيب، أن السلطة البريطانية وشريكتها المصرية، كانتا تحرصان على تسويد الأوراق و"ضبط الشغل"، باعتبار الأسرى المساقين إلى خنادق الجيش البريطاني متطوعين وليسوا مجبرين، حتى أن سعد زغلول قال في إحدى خطبه على سبيل السخرية مما حدث، إنه رأى جنديًا يسوق مصريًا مكبلًا بالحديد، فلما مثل أمام رئيسه قال له: من هذا؟ فرد عليه الجندي: هذا متطوع يا سيدي.
كانت رحلة الفلاح المجند قسرًا في الفيلق من مكان اختطافه حتى مثواه على جبهات القتال شديدة القسوة، حيث يساق مكبلًا من قريته إلى معسكر للتجميع، وفي الطريق ينطلق الأطفال والنساء خلف الرجال المقيدين بالحبال يشيعونهم بالبكاء والصراخ.
وفي المركز يتم فحص المجندين قسرًا وتجهيزهم وتسليمهم ملابس بسيطة وبطاطين ثم يُنقلون عبر السكة الحديد في القطارات إلى الإسكندرية، ومنها يتم توزيعهم على جبهات القتال، حيث يعملون تحت قيادة ضباط بريطانيون سبق وعملوا في مصر ويعرفون العربية قليلًا أو كثيرًا، ليبدأ عملهم في كل شيء.. مد خطوط السكك الحديدة، ومد أنابيب المياه، وشحن وتفريغ السفن، ونقل العتاد والمؤن بالجبال في الصحاري، ووتسوية الأرض وحفر الخنادق، حسب الجبهة التي يعمل بها المختطف، كل ذلك بلا ملابس مناسبة أو طعام كاف أو رعاية صحية، بل أن الأطباء عادة هم من كانوا ينفذون عقوبة الجلد بالسياط لم لا يمتثلون للأوامر، وكانت السياط اللغة الوحيدة التي يعرفها المشرفون على هؤلاء المساكين.
ويذخر كتاب أبو الغار بالعديد من المشاهد المرعبة للأهوال التي لاقاها المختطفون، استقاها من الأرشيف البريطاني وما حصل عليه من وثائق، ومن الكتابات المختلفة التي أشارت لتلك الجريمة وأبرزها كتاب المؤرخ الأمريكي كايل أندرسون الصادر عام 2021.
غير أن ما لفت نظري بشدة في كتاب "الفيلق المصري" موقع الصحافة آنذاك وقت وقوع الجريمة، فهي إما مقيدة تخضع للتعطيل والمصادرة والحجب، وإما موالية تُبيض وجه المحتل مثل صحيفة المقطم الموالية لبريطانية، التي وصف مراسلها منظر الفلاحين الذين وصلوا ضمن الفيلق المصري إلى ميناء مارسيليا في ربيع عام 1917، بأنهم "كانوا في منتهى النشاط والقوة، وكانوا سعداء بالمناظر التي يشاهدونها حولهم، وكانت الجماهير في وداعهم، وفي أثناء سيرهم في الشوارع كان الشعب يصفق لهم. كانوا غاية في النظام ويرتدون الملابس العسكرية الكاكي المجهزة لتساعدهم في أعمالهم، وكانت صحتهم جيدة".
وما أبشع الصحافة المُدلسة!