الصورة لـDCStudio من موقع freepik برخصة المشاع الإبداعي.
تحولت الاستشارة إلى جلسة نصح لتحسين السلوك والبحث في أسباب تطرقها إلى هذه المسائل.

الأبوية والبالطو الأبيض.. أنتِ وجسدك تحت وصاية الطبيب

نساء يخضعن لتقييمات أخلاقية وقناعات دينية بدلًا من الرأي العلمي

منشور الأربعاء 8 فبراير 2023

داخل عيادة فاخرة بمدينة الفيوم، جلست الثلاثينية أسماء رشوان تنتظر إذن الدخول لطبيب الجلدية الذي أتت إليه لوصف عقاقير مناسبة لحبوب وجهها. بعد توقيع الكشف، تنهد الطبيب وقال "فيه ارتفاع في هرمون الذكورة (التستوستيرون) هو السبب في حب الشباب وزيادة نمو الشعر". وعندما سألته عن العلاج، صدمها "روحي اتجوزي وخلفي والهرمون هايتظبط".

حاولت أسماء تجاوز صدمتها من عبارة الطبيب، فقطعت مسافة حوالي 98 كيلو مترًا من الفيوم إلى القاهرة، قاصدة طبيبة نساء؛ لعلها تجد حلًا  علميًا لمشكلة الهرمونات. لكن الرد لم يختلف كثيرًا، تقول "حسسوني إني هدوس على زرار فأتجوز. هل المفروض أحمَل عشان أعالج بشرتي؟ أنا أصلًا مش متأكدة إذا كنت عايزة أخلف ولا لأ".

عانت أسماء من نوبات قلق بسبب تلك الردود، وفي فترة ما ارتبطت بشريك غير مناسب، فزادها أذى نفسيًا "طب أروح لمين يعالجني، أنا كنت بفضل أعيط لمجرد تخيل إن ابني يسألني خلفتيني ليه، فأجاوبه إني جبته الدنيا عشان أتخلص من وجع الضهر وألم البيريود.. كان نفسي يتقدم لي رأي علمي من غير أي نصايح أو توجيه يأثر على قناعاتي الشخصية".

ما واجهته أسماء جزءً من معارك النساء مع السلطة الأبوية الذكورية، التي تملي عليهن ما يجب فعله، سواء كانت ممثلة في الأهل أو أهل الزوج والجيران والأقارب، وأخيرًا الأطباء، رجالًا كانوا أم نساءً، الذين يتدخلون في كل كبيرة وصغيرة تخص أجسادهن لفرض أفكارهم وخلفياتهم الاجتماعية والدينية على المريضات.

ومثل أسماء، لم يفد الطبيب ميرنا إبراهيم* التي قُوبلت بحالة من الاستهجان بمجرد السؤال عن طرق تجنب الإصابة بفيروس الورم الحليمي؛ وهو أحد أشكال العدوى الجنسية. "فتح لي تحقيق عن حالتي الاجتماعية" بحسب وصفها للمنصة، وفي النهاية لم يعطها أي جواب طبي. وتحولت الاستشارة إلى جلسة نصح لتحسين السلوك والبحث في أسباب تطرقها إلى هذه المسائل.

أما سميرة ع.، صاحبة الـ34 عامًا، فكانت تعاني من التهابات مهبلية، وبعد التوجه لإحدى العيادات صدمتها الطبيبة "إنتي لسه آنسة، عاملة شيفينج ليه بقى؟"، تقول "عمري ما اتخيلت إن حد يسألني سؤال ليه علاقة بنضافتي الشخصية، دي سألتني صراحة إذا كان عندي علاقات أو لأ، رغم أن كل ما عليها هو وصف نوع غسول مناسب لحالتي أو أي أدوية".

وصاية مجانية.. ومدفوعة

أشكال الوصاية الذكورية الطبية على المرأة متنوعة؛ فلا يجد الأطباء حرجًا في إقناع النساء بعدم تأجيل الحمل أو منعه باعتباره "حرامًا"، بل يتجاوز بعضهم لقول "مش من حقك". 

ولا تختلف تلك الممارسات بين المناطق الشعبية والراقية. باستطلاع رأي بسيط على عدة نساء من مناطق سكنية وطبقات مختلفة، وجدنا أن جميعهن تعرضن لهذا النوع من الوصاية. كان الاختلاف فقط في رد الفعل، بين من تصر على مطلبها ومن ترضخ.

امرأة تحجز تذكرة في إحدى المراكز الطبية في الأقصر.

عزة جابر، التي عملت كمشرفة لقسم النساء والتوليد بإحدى المستشفيات الحكومية في محافظة القاهرة، شاهدة على قصص عدّة، "فيه دكتور سُني (ملتحي) كان بيرفض طلب أي ست عايزة تأجل الحمل وبيقنعهم إنه حرام".

تحكي عزة عن استراتيجية الإنهاك المادي التي يتبعها بعض الأطباء داخل قسم النساء لمن يجادلن معهم، موضحة أنه في حالة إصرار النساء على تأجيل الحمل يُطلب منهن الكثير من التحاليل، مما يستدعي دفع تكلفة إضافية والتردد على المستشفى مرات عدّة؛"كانوا بيقولوا قدامنا إحنا طلبنا التحاليل دي عشان ندوخها شوية"، وينتهي الأمر بخضوعهن في حال عجزهن عن تحمل هذه الأعباء المادية.

وتعتقد عزة أن العيادات الحكومية هي الأكثر سطوة على النساء. أما في العيادات الخاصة، فكانت شاهدة على رد إحداهن حين حاول طبيب بحي السيدة زينب إقناعها بالعدول عن رغبتها في منع الحمل، فردت عليه بحدة " أنت مالك.. أحبل ما أحبلش ده يخصني أنا لوحدي"، وبالفعل أبلغها بالوسيلة المناسبة لها مرددًا "أنا كنت بكلمك بما يرضي الله لكن براحتك".

"افرضي عيالك ماتوا"

وداخل عيادات خاصة أيضًا، واجهت العروس أسماء عبد الله، اثنين من الأطباء عارضوا رغبتها في تأجيل الحمل الأول. "مستغربة إن الدكاترة لسه معظمهم بيتحكموا فينا رغم إنهم المفروض يساعدونا. الاتنين ضغطوني نفسيًا جدًا، وفضلوا يقولولي طب احملي دلوقتي وأجلي بعدين، مش يمكن يحصلك حاجة تمنع الحمل أصلًا لو استنيتي".

ما واجهته أسماء من تخويف وإرهاب نفسي، تكرر مع تسنيم، أو أم إبراهيم، كما تفضل أن تُنادى. وهي امرأة ثلاثينية لديها 4 أطفال، تعاني من مشكلة صحية تجعل وسائل منع الحمل غير ملائمة لها، ففكرت في الخضوع لعملية ربط للمبيضين.

الأمور لم تجر بالسلاسة التي تخيلتها أم إبراهيم، تحكي للمنصة "الدكتور مقالش العملية خطر، أو ليها مضاعفات. لأ، ده قاللي افرضي عيالك كلهم ماتوا واحتاجتي تخلفي! حسيت من كلامه إني بعاند ربنا فتراجعت".

تواطؤ المؤسسات 

نقلنا هذه الشهادة الأخيرة لأم كلثوم شلش، عضوة لجنة الصحة بالمجلس القومي للمرأة، وهي طبيبة نساء أيضًا. وكانت المفاجئة إنها لم تنتقد ما يقوم به الأطباء والطبيبات، بل اعتبرته "طبيعيًا"، ولا يمثل مخالفة أو وصاية. 

قالت أم كلثوم للمنصة، "لا يوجد ميثاق أو لائحة تنظم هذا الأمر. كل طبيب وقناعاته". مشيرة إلى أن بعض الأطباء يرفضون القيام بعمليات حقن مجهري يُحدد من خلاله نوع الجنين، في حالة كانت لديها طفلة واحدة، لكن "لو معاها 4 بنات وعايزة ولد بيوافقوا".

وأضافت أن الأمر ينطبق أيضًا على من تريد تجميد البويضات، وهي لديها فرصة للإنجاب حتى عمر الأربعين. فلو طلبت التجميد في سن أصغر طبيعي أن يكون هناك نقاش أو رفض، مضيفة "آه دي حقوق شخصية، لكن في حاجات بتاعة ربنا مينفعش آجي جنبها. زي ربط المبايض فعلًا فيه ست كان معاها 3 وماتوا في حادثة واحتاجت تفك الربط".

ولم يختلف موقف خالد زارع، عضو مجلس نقابة الأطباء عن عضوة المجلس القومي للمرأة، قائلًا للمنصة إن "طلب المشورة الطبية في الحالات غير الطارئة أشبه بالحصول على سلعة، من حق البائع (الطبيب) أن يبيعها أو يمنعها. وهذا الأمر ينطبق على العيادات الخاصة. يحق للطبيب رفض تقديم خدمة مثل تركيب اللولب، طالما أن لديه الأسباب، وهو غير ملزم بشرحها للمريضة، طالما أن بإمكانها الذهاب لغيره".

وأضاف، "أما داخل المستشفيات الحكومية أو عيادات تنظيم الأسرة، فالامتناع ليس من حقه. وفي هذه الحالة يكون كمن يحارب سياسات الدولة. ولو اشتكته المريضة لمدير المستشفى أو النقابة هايروح في داهية".

وتابع عضو مجلس نقابة الأطباء أنه بحكم تخصصه في النساء والتوليد "مستحيل أركب لولب لواحدة متجوزة جديد ولسة مخلفتش. ولو صممت بقول لها روحي لغيري أو لمستشفى حكومي"، مشيرًا إلى أن الطب مدارس، وهناك الكثير من الأمور تحتمل الرأي والرأي الآخر، "ما أرفضه أنا قد يراه غيري صوابًا".

وتابع "واحدة كان عندها طفل واحد وطلبت مني عملية ربط أنابيب ورفضت؛ لأن لو ابنها مات مش هتعرف تخلف تاني، وقولت لها ده".

ويرفض زارع اعتبار ما تتعرض له النساء "وصاية" أو يستدعي "عمل ضجة. إلا لو كان الطبيب سلفي مثلًا، امتنع عن تقديم خدمات لتنظيم الأسرة بمزاعم تعمير الأرض والرأي الشرعي. فيمكن تقديم شكاوى للنقابة؛ لأنه ضد رغبات الناس وتوجه الدولة". وهو تناقض لافت، إذ يعتبر الوصاية باسم الدين مشكلة، أما الوصاية باسم القناعات الشخصية فغير ذلك.

الوصاية عنف أيضًا

في مقابل هذا التطبيع، ترى نيفين عبيد، عضوة مجلس الأمناء بمؤسسة المرأة الجديدة، ومقررة لجنة القضية السكانية بالحوار الوطني، إن تلك الممارسات تندرج ضمن قضايا العنف ضد المرأة. قائلة للمنصة "فيه عدم قبول شعبي للعمليات المتعلقة بالنساء، وهو نوع من فرض الوصاية أو القوامة الذكورية، للسيطرة على النساء". 

وترى نيفين أن النقاش يجب ألا يقتصر على تأجيل الإنجاب أو منعه "لو زكينا التفكير العلمي والنقدي على الديني، وقتها هتكون أفكار كتير صالحة اجتماعيًا. زي تجميد البويضات وعمليات التجميل لمن تعرضن للختان، بحيث تستعيد الأعضاء التناسلية للمرأة كفاءة تعوضها ما حدث من تشويه، وخلق منظومة تشريعية تجرّم تدخل الطبيب في الرغبات الشخصية للمرأة، طالما لا تتعارض مع الرأي الطبي العلمي".

وفيما تأمل عضوة مؤسسة المرأة الجديدة أن تصبح النساء أكثر قدرة على التحكم في أجسادهن، لا زالت أسماء تتحدى السلطة الأبوية الطبية على النساء في مصر، وتتنقل بين عيادة وأخرى بحثًا عن علاج لهرمونات الذكورة المرتفعة عندها، بينما تؤكد أنه لا فرق بين القاهرة والفيوم، طبيب أو طبيبة، لكنها "لا تنوي الخضوع". 


*اسم مستعار بناء على طلب المصدر.