في سيرة الكاتب الفلسطيني حسين البرغوثي (1954- 2002) الضوء الأزرق، هناك حضور دائم لشخص صوفي يدعى بري، من قونية بتركيا، قابله حسين عام 1998 أثناء دراسته العليا في جامعة سياتل بأمريكا. متشرد، خارج عن الجماعة، زاهد في الحياة، يفسر الأشياء تبعًا لمنطقه الخاص، ويقضي يومه في التسكع، ويأكل أحيانًا من صناديق القمامة، تلك الوجبات المثلجة التي يستغني عنها الآخرون، وأمام أحدها، وبينما يلتقط الطعام، يصرح لحسين "وهنا أيضًا دفنت كرامتي".
كانت أغلب كلماته لها سحر خاص في نظر البرغوثي، تقع ما بين الهذيان والجنون، وهي الحالة التي كان يخشى حسين على نفسه منها، ففي تلك الفترة من حياته ظل تسعة أشهر لا يكلم أحدًا، فقط يسير في الغابة المحيطة بالجامعة.
قابل بري وهو في لحظة انفصام على حافة الجنون، جنونًا من نوع آخر، ليس جنون الانفصام الذي يعاني منه، فذاته اتسعت وتأقلمت مع الجنون، وأوجدت داخله طريقًا للحياة واستخلاص الحكمة، والمعرفة. جنون إيديولوجي، موجه ضد العالم الاستهلاكي، وليس الجنون الموجه للقصاص من الذات.
العقل في خدمة السيدة
حدث انفتاح مزدوج بينهما، على الحافة بين الجنون والعقل. طوال النص الذي يعتمد في أسلوبه على التداعي الحر للأفكار والمشاهد؛ يحضر بري فجأة، ويختفي فجأة. هناك سيولة وسهولة في التنقل بين الوعي واللاوعي. كان بري يمثل الصوت الداخلي لحسين نفسه، أو ذاته الأخرى التي ترسم له الطريق أثناء تلك الفترة المضطربة من حياته.
لم يكن ذلك الصوت الداخلي مُعذَّبا يبحث عن الخلاص، أو صوتًا إلهيًا يضع ذاته في مكان الذنب والخضوع، ولكنه صوت الحكمة التي يمكن أن تعيد تشكيل ذاته. حكمة مدفوعة الثمن تتولد على حواف الجنون والتشرد. الحكمة بوصفها سطحًا هادئًا وشفافًا من اللغة المشفرة، جاءت من معركة سابقة عليها بين الجنون والعقل، فهي ابنة صراع طويل بين الفرد والجماعة، لنزع تلك الأقنعة الموروثة التي يخلعها الإنسان تباعًا حتى يظهر وجهه الحقيقي في النهاية.
الجنون بذلك المعنى، طريق مواجهة، القناع الذاتي الحر، وليس القناع الذي يفرضه غيرك عليك.
يصف حسين صديقه بري وكلماته بجملة شكسبير "هناك عقل في الجنون"، فالجنون ليس فقد العقل، ولكن زاوية نظر جديدة له، فخلف هذا العقل يتوارى القلب، وهو المقصود بتلك الرحلة.
يكتب حسين عن صديقه "يقول إحدى جمله الساحرة 'العقل في خدمة السيدة'؛ وماهي السيدة؟ القلب".
انحرافات حسين "الحقيقي"
يكتب حسين "شعرت بأن حياتي كلها مجرد انحرافات متوالية عن 'حسين الحقيقي'، عن حياة من المفروض أن أعيشها".
تبدأ الرحلة من تلك النقطة، أن هناك انحرافًا ما حدث في الطريق، ينكشف الستار عن مكان البداية أو نقطة التيه عن الشيء الحقيقي الذي في داخلنا، ورغبتنا في استعادته. تنقشع الغمامة، يظهر عالم آخر، وينكشف الزيف في ذواتنا وفي عالمنا المحيط معًا. عدم الاستجابة لذلك الكشف يعتبر خيانة للذات.
كل من اختارهم حسين في رحلته يذكرونه بذلك المكان الآخر وبتلك الذات الحقيقية التي انحرفت عن مسارها. ينجذب إليهم جميعًا دون استثناء، لأنهم فقط من يملكون الحكمة. جميعهم كانوا مشردين لهم طاقة هائلة على السقوط الحر، غير عابئين بالحياة التي تمر بجوارهم، ولكن ماذا كانوا ينتظرون؟ ربما لا ينتظرون شيئًا سوى البقاء على قيد الحياة، ليثبتوا لأنفسهم ولنا، أن هناك مكانًا للعب والرفض، يمكن أن يشكل حياة كاملة، عنوانها مقاومة الزيف.
طوال النص هناك أحلام ورؤى وكوابيس، جميعها تنتمي للعالم الآخر الذي يعيش فيه ذلك الآخر الحقيقي، أو حسين الحقيقي، يضمنها داخل النص ليصنع عالمه، وأغلب تلك الرؤى تتصل بالطبيعة التي نشأ فيها في رام الله، فذلك الآخر الحقيقي يسكن الطفولة ومكانها وأحلامها ورؤاها.
علامة تخلف القلب هو الشعور بالذنب
بحر دون قاع
يقوم منهج بري على التأمل الذي يفضي إلى الفهم. يسأله حسين عن ماهيته، فيجيبه "أن تتأمل نفسك يعني أن تفهم ما كنت تعرفه دائمًا من غير أن تفهم".
يعني أن تنكشف الستارة عن وعي جديد، كان نائمًا داخل الإنسان.
يصفه حسين في مكان آخر "كان بحرًا بلا قاع، بل مياه تنزل، مهما كانت صافية، إلى أغوار لن يسبرها غير خالقه".
وتصفه سوزان إحدى أعضاء شلة المتسكعين "بري كائن أكبر من الحياة".
ماذا تعني سوزان بأنه أكبر من الحياة؟ ربما التجربة التي مر بها أحدثت توسعًا مفاجئًا في وجوده، به تعال وتواضع معًا، فتكبر أشياء وتصغر أخرى، يجعله يرى حياته من أعلى، أصغر من وعيه بها، وأمله فيها.
لحظة انفجار مماثلة
يردني كتاب حسين للحظة انفجار عشتها، ووددت أن تستمر عندما كنت متفرغًا لتقشير ذاتي ورقة بعد ورقة وقناعًا بعد قناع، لأرى في النهاية ريشة القلب وأقابل "علاء الحقيقي".
هناك كثيرون مروا بتلك اللحظة القريبة من الانفصام، ولأننا أبناء مدن، فقد كان الانفصام موجهًا ضد الذات وعقابًا لها على الانحراف عن المسار. "علامة تخلف القلب هو الشعور بالذنب" و"تحول الذهن إلى قاعة محكمة".
كنت وقتها أسير على البحر وأشير بسبابتي إلى مكان بعيد، يتعداه، ربما هناك يوجد "بري" الخاص بي، أو نفسي الأخرى التي أخذت تتسع وتعبر البحر وفي طريقها للاعودة. ربما كنت أشير لمكان الجريمة المتوقعة حتى يأتي من يمنعها، حتى لا تضيع تلك الذات الأخرى.
هناك جنون آخر يعيشه الكثيرون، فقد البوصلة التي توجهه فتحول إلى جنون سريري، بعيدًا عن الجنون الخلاق
تقشير طبقات الوعي
طوال صفحات السيرة، هناك تصاعد في فكرة الكشف، الحركة من الخارج للداخل، تقشير لطبقات الوعي باتجاه ريشة القلب. إعادة رسم خريطة الحياة بعد نزع الخديعة في النظر للعالم، فالحقيقة رفيقة كشف الخديعة، ربما ليست هناك ذات حقيقية، ولكن هناك ذاتًا غير مخدوعة، ترى الأشياء بمرارة الحقيقة.
يعيد الكتاب صوتًا بريًا منسيًا للعقل البشري، يبحث عن الحقيقة، وعن اتساقه مع الكون، قبل أن يتلبس بأقنعة تحجبه عنها، ولم يجد في محاولة نزع الأقنعة سوى الجنون الذي يأخذه إلى الحافة ويعريه من الأقنعة. ربما هو صوت الشعر، فالسيرة شعرية في صلبها. الذات الشعرية هنا تريد الوصول للأعماق وتقشير طبقات الزيف للوصول للقشرة الشفافة من الوجود النيء. ذات شاهدة على عصرها، حتى ولو كانت مهزومة.
ملامسة الجنون دون إيقاظه
يعتبر كتاب الضوء الأزرق أحد الكتب القليلة في الأدب العربي التي ترصد تجربة تحول وجودية. لم يعد ذلك النوع من الكتب موجودًا الآن، أما كاتبها المتوقع أو المتخيل، فإما أن يكون مسحوقًا يعاني من دونية أمام العالم، أو أنه انتقل بعقله لحافة الجنون الفعلي. غير أنه في هذا الكتاب، لا يزال الجنون احتفاليًا، لأنه يمكن التعبير عنه في قالب جمالي، هناك جنون آخر يعيشه الكثيرون، فقد البوصلة التي توجهه فتحول إلى جنون سريري، بعيدًا عن الجنون الخلاق. "في الفن يجب أن تلامس الجنون دون أن توقظه".
كان حسين البرغوثي يحمي تجربته الوجودية وجنونه الشخصي عبر صديقه ومرشده الروحي بري، الذي سينفصل عنه في النهاية. كانت تجربة بري من الاتساع لتحوط وتشرح وأحيانًا تحمي تجربة البرغوثي الفنية، فهو المثال الطموح له ككاتب، الذي يجمع بين الجنون وسحر التعبير عنه، ولولا حضور تلك التجربة لتحول جنون البرغوثي إلى جنون سريري، لأنه أيقظه بدون سند روحي له.
الذهن له ديمومة، أما المحتوى فعارض يمكن استبداله
أرجوك ابق على الخط
كان ينظر لنفسه في المرآة ويرى ذقنه الطويلة ويترجى هذا الشبح الآخر "أرجوك ابق على الخط"، أي قبل أن ينفصم ذلك الآخر. أيضًا كنتُ أنظر في المرآة كثيرًا، وأطلب "أرجوك ابق على الخط".
في إحدى المرات كنتُ جالسًا على مقهي عايدة في بداية التسعينيات، كتبتُ نصًا طويلًا عبارة عن حوار مُشفر بين اثنين يعيشان داخلي: علاء الحقيقي، وعلاء المزيف. وصلت إلى نقطة الصدام بينهما، شعرت بقفلة روحية، وقمت على أثرها ملدوغًا من المقهى، لأسير في الشارع أبحث عمن ينقذني، من تلك المواجهة الداخلية، مع شبحي.
ذاكرة المستقبل
من المشاهد المؤثرة في سيرة البرغوثي، عندما يطلب منه بري أن يميز الذهن عن محتواه، فيسأله حسين كيف؟ فيمثل الإجابة عمليًا. كان أمامه صحن أبيض به بقايا بيض مقلي، وأعقاب سجائر، وفتات خبز فرنسي. الصحن الأبيض يمثل الذهن، وكل تلك البقايا محتواه، يرمي بري بالفضلات في القمامة، ويعيد الصحن نظيفًا أمام حسين على المائدة. الذهن له ديمومة، أما المحتوى فعارض يمكن استبداله.
في سنوات ترنُّحي الوجودي، لم يكن لي حيلة إلا إنكار كل ما أفكر به، وأعيش بالقصور الذاتي لجسدي، أطارد أي فكرة مؤلمة، حتى تصل إلى مكان غائر في نفسي، وأتأكد من أني دفنتها تمامًا. قد تُبعث بعد ذلك، ولكن سأكون وقتها محصنًا ضد الأفكار المؤلمة، هكذا كنت أقول لنفسي.
كان الخلاص في البحث عن ذاكرة جديدة داخل هذه الذاكرة القديمة التي أوصلتني إلى الترنُّح الروحي والنفسي. ذاكرة لا تنظر فقط للماضي، ولكن للمستقبل، والحاضر هو ماضيها الآتي، بلغة ومجاز أنسي الحاج. ربما من هذه النقطة بدأت سطوة الماضي، وذكراه السيئة، تذوب في ذاكرة المستقبل، بفعل النسيان.