صفحة وزارة النقل - فيسبوك
وزير النقل كامل الوزير يتفقد إحدى عربات قطار تالجو الفاخر

ليس "حبًا في الرئيس".. أثمان متضاربة لصفقة تالجو الفاخرة

منشور الخميس 26 يناير 2023 - آخر تحديث الجمعة 10 فبراير 2023

أثناء رحلته مع الإعلامي أحمد موسى في أحد قطارات تالجو الجديدة، قال وزير النقل كامل الوزير إن شركة القطارات الإسبانية الفاخرة خفَّضت 15 مليون دولار أثناء عقد صفقتها لتوريد ستة قطارات إلى مصر في أبريل/ نيسان 2019، "تقديرًا وحبًا للرئيس"، في تصريح غير معتاد في لغة الأعمال، التي تغيب عنها مشاعر الحب والتقدير لصالح حسابات المكسب والخسارة.

لذلك، ذهبنا للبحث في موقع الشركة، لنجد أنها أعلنت قيمة وتفاصيل مختلفة لهذه الصفقة عما أعلنه الوزبر.

بدأت رحلة الوزير مع الإعلامي يوم 22 يناير/ كانون الثاني الجاري من محطة مصر في القاهرة وصولًا إلى الإسكندرية، استعرض خلالها الأول المشروعات الكبيرة، ومنجزات التنمية إذ تشق طريقها من العاصمة إلى المراكز، سواء على شكل طرق وكباري أو وسائل مواصلات شبيهةً بتلك التي في إسبانيا وأمريكا وألمانيا، في إشارة إلى تالجو.

ولم تخلُ الرحلة من الركاب، حتى أن أحدهم اقترح زيادة سعر تذكرة القطار، فـ 200 جنيه (للدرجة الأولى) فقط لا تكفي.

ولكن ما أن انتهت رحلتهم، حتى بدأت رحلتنا الخاصة.

تسجيل كامل لرحلة الوزير مع الإعلامي أحمد موسى على قناة وزارة النقل على يوتيوب


تضارب في الأرقام 

بلغت قيمة الصفقة بحسب الشركة 158 مليون يورو، بينما تحدث الوزير عن 126 مليون دولار فقط (112.5 مليون يورو حسب أسعار الصرف وقت عقد الصفقة)، بعدما كانت بـ 141 مليون دولار (125 مليون يورو).

هل تكذب الشركة الإسبانية؟ لماذا تنشر رقمًا للصفقة غير حقيقي، أو أعلى بكثير مما صرح به الوزير؟ كانت تلك أول الأسئلة التي سعينا للإجابة عنها في محاولة لفهم التغيرات التي تحدث في السوق العالمي من ارتفاع هوامش الحب والتقدير. 

أرسلنا إلى الشركة نسألها عن التباين بين الرقم الذي أعلنته للصفقة مقابل الرقم الذي أكده الوزير، وعمّا إذا كانت أجرت تخفيضات لم توثقها على موقعها تقديرًا من رئيسها للرئيس المصري، كما صرح الوزير، لكننا لم نتلق ردًا حتى نشر التقرير.

تواصلنا مع مصدر في وزارة النقل، كان مطلعًا على تفاصيل الصفقة وقت إتمامها، فوجدنا عنده جزءًا من الإجابة.

أكد المصدر، الذي تحدث إلى المنصة مشترطًا عدم ذكر اسمه، أن القيمة كما دونتها الشركة تمامًا، 158 مليون يورو، مقسّمة إلى 126 مليون يورو قيمة القطارات، وتشمل الصيانة وقطع الغيار لمدة عامين، بالإضافة إلى 32 مليون يورو أخرى نظير مدِّ فترة الصيانة 6 سنوات إضافية. وذلك "في ظل افتقار مصر للإمكانيات والخبرة اللازمة لصيانة قطارات تالجو" وفق المصدر، الذي تابع "من ثم أصبحت الصفقة كاملة بـ158 مليون يورو، تتضمن صيانة 8 أعوام، كما هو مدون على موقع الشركة".

اقتطع الوزير إذًا جزءًا مهمًا من الصفقة وهو الصيانة، ولم يعلن عنه في تصريحه، لينخفض الرقم إلى 126 مليون "يورو"، وهو نفس الرقم الذي ذكره، وإن كان بعملة أخرى.

ما قصة الـ15 مليون دولار/ يورو التخفيض؟ 

يعود المصدر بذاكرته 4 سنوات للوراء، وقت عقد الصفقة، ليوضح أن هيئة السكك الحديد أقامت مناقصة آنذاك لشراء القطارات الستة، فتقدمت لها شركتا تالجو وستادلر العالميتين، ولكن الأخيرة انسحبت يوم فض المظاريف، فلم يعد أمام الهيئة سوى عرض تالجو، الذي بلغت قيمته الأولى 163 مليون يورو.

وأشار المصدر إلى أن لجنة البت العليا في الصفقة، والمُشكلة من عدد من نواب رئيس الهيئة ومندوب من وزارة المالية ومستشار قانوني هو نائب رئيس مجلس الدولة أحمد الشاذلي، رأت أن قيمة الصفقة كبيرة ولا بد من بعض التخفيض، فرفعت توصيتها إلى وزير النقل، الذي تواصل بدوره مع الشركة فوافقت على تخفيض 5 ملايين يورو فقط، وليس 15، لنصل إلى 158 مليون يورو قيمة الصفقة التي أُبرمت بالفعل.

أما رواية الوزير التي ذكرها خلال لقائه مع موسى، أنه تحدث إلى "فخامة الرئيس (السيسي) وقاللي هتقدر؟ (تخفض قيمة الصفقة)، قلت هقدر. اتصلت بوكيل الشركة، كان في باريس يومين وقاللي أنا جاي في الطيارة الساعة 9 مساءً، قلتله مستنيك لحد 10 مساءً... جه، قعدت معاه كان رجل فاضل، قلتله كلم رئيس شركة تالجو، كلمت رئيس شركة تالجو الراجل المحترم، قاللي الكلمة دي مرتين، قاللي أنا لست سمسارًا، قالهالي مرتين وقالها لسيادة الرئيس لما قابله وإحنا بنتعاقد على قطارات النوم (صفقة لاحقة أبرمت مؤخرًا في العام الماضي)، قاللي أنا لست سمسارًا ومبعرفش أسمسر ومبعرفش أفاصل. أنا صاحب شركة بانتج قطر هو فيراري القطارات، أحسن قطر بيُنتج في العالم، عشان كده أنا متمسك بأسعاري ومواصفاتي".

وبينما كان هذا الجزء من تصريحات الوزير متسقًا مع السلوكيات السائدة لرجال الأعمال، لم يكن استدراكه اللاحق كذلك "اتكلمت مع الراجل، يعني حس إننا فعلًا صادقين وعندنا خطة للتطوير، وهيشتغل معانا بعد كده، وهينتج. نزل بالتكلفة المالية تقريبًا من الـ141 مليون دولار اللي هو كان عايزهم إلى 126 مليون دولار اللي إحنا كنا عايزنهم، حبًا في مصر والرئيس المصري، ورغبته في الاستثمار في مصر، وإحساسه إن الناس دي صادقين وعايزين يشتغلوا ويطوروا". 

هل خسرت تالجو من أجل عيون مصر؟ 

للوهلة الأولى، يبدو من حديث الوزير كما لو أن رئيس شركة تالجو مصري الهوى، ومستعد للخسارة أو تقليل الأرباح "حبًا في مصر والرئيس المصري"، ولكن الأرقام الموجودة على موقع الشركة، تنفي ما يتعلق باستعداده لتحمل الخسائر.

تتبعنا على موقع الشركة صفقاتها الأخرى التي تفاوتت أسعارها. مثلًا، صفقة تالية بسنة تقريبًا عن صفقة مصر، وقعتها الشركة في فبراير/ شباط 2020، مع الدنمارك وبضعف قيمة صفقة مصر تقريبًا، وتضمنت 8 قطارات بقيمة 500 مليون يورو، لكن بالنظر إلى مزايا الصفقة وطبيعة القطارات يكون الأمر مفهومًا، إذ أن الضمان مدى الحياة، والعمر الافتراضي للقطار 40 سنة، وسرعته 200 كم/ ساعة. 

قطار تالجو للدنمارك.

تابعنا البحث حتى وصلنا إلى صفقة الشركة مع ألمانيا التي عقدت في عام 2019، ومحت تفاصيلها أي شبهة خسارة من أجل الحب والتقدير أو المساهمة في التطوير، إذ كانت الصفقة أقل سعرًا مقابل مواصفات أفضل.

بلغت قيمة تلك الصفقة 550 مليون يورو مقابل 23 قطارًا، أي أن قيمة القطار فيها نحو 23.9 مليون يورو، فيما تبلغ قيمة القطار في الصفقة المصرية بصيانته 25 مليون يورو.

وبينما تصل سرعة القطارات التي تعاقدت عليها مصر مع تالجو 160 كم/ ساعة، كانت سرعة القطارات الذاهبة إلى ألمانيا 230 كم/ ساعة، والأخيرة مصممة للعمل ليس فقط على شبكة السكك الحديدية الألمانية، ولكن أيضًا لعبور الحدود والعمل في البلدان المجاورة.

بموجب عقد الشركة مع ألمانيا، تقوم تالجو بـ "تصميم وبناء وتوريد قاطرات كهربائية متعددة الجهد DB بسرعة تشغيل قصوى تبلغ 230 كم/ ساعة، متوافقة تمامًا مع أنظمة الكهرباء والإشارات المختلفة".

وليست السرعة هي الفارق الوحيد، وإن كان مهمًا. وجدنا تصميم ومواصفات العربات من الداخل في قطارات الصفقتين مختلف، على نحو يوحي بأن التعاقد مع نفس الشركة لا يعني بالضرورة الحصول على نفس المواصفات، التي تتحدد أكثر وفق طبيعة وفلسفة إدارة كل بلد مشترٍ.

في الصفقة الألمانية، ثمة براح لافت داخل العربات، وتصميم مخصص لاستيعاب ذوي الاحتياجات الخاصة دون أي عناء، فالقطار لا توجد به أي عتبات/zero-steps train، حيث الممرات ومقاعد الركاب وبقية المرافق الموجودة على متنه على نفس مستوى الرصيف، ما يعني أن مستخدمي الكراسي المتحركة لن يحتاجوا إلى مساعدة للصعود إلى القطار والنزول منه، فضلًا عن وجود دورات مياه مخصصة لهم، PRM، ويحوي القطار أيضًا إشارات للإتجاهات بطريقة برايل لمساعدة المكفوفين.

والقطارات الألمانية مصممة أيضًا بإضاءة متغيرة على مدار اليوم، وثماني مساحات للدراجات في كل قطار، وغرفة تخزين للمعدات الرياضية مثل رفوف التزلج والتزحلق على الجليد، كما يضم منطقة للعب الأطفال، وجلوس العائلات، وتخزين عربات الأطفال. 

وحدة لوضع الدراجات في قطار تالجو لألمانيا.

أما القطارات في الصفقة المصرية، فبحسب موقع الشركة تضم مزايا تتمثل في أنها مناسبة لدرجة الحرارة، فتتحمل العمل فوق 50 درجة، قائلة إن الركاب في مصر سيسافرون بأقصى درجات الراحة بفضل معدات تكييف الهواء عالية الأداء، وطلاء خاص للحماية من أشعة الشمس.

وفيما تعد قضية المناخ من القضايا المهمة لدى الحكومة، وبالنظر إلى أن الصفقة عُقدت في فترة استعداد مصر لاستقبال قمة المناخ في شرم الشيخ، فإنه من ضمن المزايا المذكورة أن "هذه الوحدات (القطارات) الست ضرورية في استراتيجية مكافحة تغير المناخ". 

وهكذا يتضح أن صفقة مصر أبعد ما يكون عن الخسارة، أو التنازل، أو المحبة. بل على العكس، فرئيس شركة تالجو أحسن في الصفقة المربحة التي عقدها، مع وعد بصفقة أخرى لقطارات النوم، وهو ما أشار إليه الوزير حين قال عن رئيس تالجو "وهيشتغل معانا بعد كده وهينتج".

وأكد مصدرنا في وزارة النقل أن الصفقة التالية الخاصة بقطارات النوم، كانت هي السبب وراء تخفيض الشركة قيمة الصفقة من 163 مليون يورو إلى 158.

ووقعت مصر في سبتمبر/ أيلول الماضي، عقدًا مع الشركة لتصنيع 7 قطارات نوم، تتضمن تنفيذ أعمال الصيانة لمدة 15 عامًا شاملة الإتاحية وتوريد قطع الغيار والمعدات الخاصة بالقطارات، وفيما لم تذكر وزارة النقل قيمة الصفقة، نقلتها مواقع إسبانية، وبلغت 280 مليون يورو. 

القطار السابع

كادت رحلة وزير النقل وموسى تقترب من نهايتها على متن قطار تالجو "الخارق"، لكنها مرت على محطة أخرى، حين وصل بهما الحديث إلى ذكر القطار السابع، والذي لم يكن ضمن الصفقة، ولكن رئيس شركة تالجو قرر إهداءه لمصر "تقديرًا لمصر وللرئيس". 

إخدى عربات الدرجة الأولى لقطار تالجو في مصر.

مجددًا، يكشف المصدر كواليس ذلك القطار، مشيرًا إلى أن شركة تالجو تأخرت في توريد القطارات لمصر في الموعد المحدد بسبب جائحة كورونا. وبعد مفاوضات، قررت الشركة إهداءه لـ"الشعب المصري" كتعويض عن التأخير. 

وعمليًا، قد لا يظل ذلك القطار على حاله، إذ توقع المصدر أن يتم تفكيكه واستخدام عربات الدرجة الأولى به لزيادة عددها في القطارات الأخرى، باعتبارها الدرجة التي تشهد إقبالًا أكثر من المسافرين، وفق المصدر. وهو ما قد يفسر تصريح وزير النقل خلال اللقاء التليفزيوني بأن عدد عربات الدرجة الأولى في القطارات ستزداد، دون أن يوضح الكيفية. 

يقول المصدر المطلع على الصفقة إن التوجه الآن لزيادة عربات الدرجة الأولى بالقطار إلى 8 بدلًا من 5، نظرًا للإقبال الكبير عليها، عن طريق تعديل تركيب القطار وسحب عربات الدرجة الأولى من القطار الاحتياطي، "هنضطر نستغنى عن قطر عشان نوزع عرباته على باقي القطارات". 

وسواء بقى القطار الأخير قطارًا كاملًا أو استخدمت عرباته منفردة، فإن رحلتنا توقفت عند استبيان أن التخفيض في الصفقة لم يكن 15 مليون بل 5، ولم يكن "حبًا في الرئيس" كما ادعى الوزير، بل مقابل صفقة قطارات النوم، بينما أغفلت أرقام الوزير الإشارة إلى تكلفة مد فترة الصيانة من قيمة الصفقة، وهي التكلفة التي ضمنت للشركة الإسبانية أسعارًا أكبر من صفقتها إلى ألمانيا.