قد يظن البعض أن ما نراه من صعود صناعة وتجارة الأشباه، من شبيه محمد صلاح إلى ميسي، مجرد مرض من أمراض السوشيال ميديا التي باتت تتحكم في حياتنا. وهو تصور أجده خاطئًا تمامًا، ويكفي لتحطيمه العودة للفترة بين منتصف التسعينيات من القرن الماضي وحتى منتصف العشرية الأولى من القرن الجديد. ذلك العقد الذي أسميه "عقد النعجة دوللي".
يقول أهل اللغة إن الشبه هو المماثلة والمجاراة في السلوك، وفي اللغة أيضًا نقيض ذلك، حيث فعل شُبِّه يحمل معنى الالتباس والتوهم "ولكن شُبِّه لهم". المهم هنا أن جمع النقيضين كامن في صفة مشتركة، قد تكون واحدة في الظاهر المرئي بلا عمق، وقد تكون أكثر من واحدة ومعها يزداد الشعور بالتماثل. وقمة التماثل في الحصول على "نسخة تامة".
كانت دوللي أخطر نسخة تامة عرفتها الحياة، إذ جاءت بغير طريق التوالد.
في تصنيم الشبيه
تجارة الشبيه المنتشرة الآن تزعم صناعة دوللي في مجالات الفن والرياضة والسياسية وغيرها. وهي صناعة قوامها التغفيل والخداع، عبر الإقناع بأن التشابه استنساخ. لا شيء يثير في وجود شبيه لميسي أو نيمار أو امبابي أو صلاح. ودون الشكل، فذلك الشبيه لا يحمل أيًا من الصفات التي جلبت الشهرة الحقيقية للأصل.
فهؤلاء الذين صنعتهم مهارة أقدامهم وكفلت لهم محبة الجمهور، لا يجمعهم ملمح مهاري بأولئك المتشبهين المُشبّهين. لكن أهل التجارة الرديئة تلك يقنعوننا عبر المحتوى الذي يدبجونه بأن ما لديهم جاوز تشابه الملامح. المماثلة الشكلية، لا تستدعي لدى العقلاء أكثر من قطب الحاجبين دهشة، وتعليق يلخصه المثل القائل "يخلق من الشبه أربعين".
لكن عقدة دوللي سهلت افتراض الاستنساخ. لم تكن دوللي وهمًا بل حقيقة، لكن نقل وهمها لعالم التواصل والتفاعل الاجتماعي أنتج ما نراه من لعبة مخاتلة. حاول أن تتذكر كم البرامج التي تورطت في "ترويج" تلك الفكرة، وتذكر أسئلة مقدميها اللوذعيين، وملامح الاستفهام البريء تملأ وجوههم وهم يستنطقون الشبيه بأفكار وخصائص الأصل.
سُئل شبيه الشعراوي عن تفسير الشيخ وفتاواه، وسُئل شبيه صلاح عن طرق إحراز الأهداف، وطُلب من شبيه عمرو دياب أن يغني، بل هناك مطرب شبيه لمنير يُدعى للمهرجانات محل منير الذي عرف عنه أنه لا يستجيب لتلك الدعوات.
قد لا تكفي مفردة "إلخ" هنا لبيان حجم تلك الصناعة، بعدما أنتجت أثرها المدمر، في هيئة حالة فيتشية كلاسيكية؛ أوضح مثال لها في ذلك الفيديو، حيث يقوم عدد من رواد أحد المساجد بتقبيل يد شبيه الشعراوي وطلب التبرك والدعاء منه. فهل في تصنيم الشبيه شيء أقل من جريمة؟ ألا تُضاف لجرائم ذلك الإعلام الموجه المستهدف الإضرار بصحة عقل المصريين؟
رؤساء في القفص وفي الميادين
لم تقف قصص المماثلة عند الفنانين، فلم يكن صدام حسين مجرد نائب لأحمد حسن البكر، بل كان مسؤولًا عن الأمن الداخلي، وهو المخول بحماية البكر شخصيًا. وخلال الفترة القصيرة التي قضاها في تلك المهمة جمع خبرة في ممارسة ألعاب الاستنساخ، وكان طبيعيًا أن يتوسع في اللعبة بعد انقلابه.
يتداول العراقيون أسماءً كثيرة، يقولون إن صدام اختارها بنفسه، ليكونوا أشباهًا تتحرك في البلاد طولها وعرضها، لضمان الحضور الجماهيري للزعيم، وكسر المسافة بينه والشعب، حين يرونه ماثلًا أمامهم في ميادين القتال والعمل. كان آخر مشهد بعد سقوط بغداد لصدام يقف في ميادين بغداد، وعاد البعض ليؤكد أنه مجرد خدعة باستخدام أحد أشباهه، بغية الإيحاء بأنه في العاصمة لم يزل، وبما يضلل عنه عيون من يبتغون صيده، وليهرب منهم بعيدًا.
برز من بين أشباه صدام اسم فواز العُميري الذي لم يكن بحاجة لأي تعديل في ملامحه لكي يكون صدام. لكن يظل الشبيه الأهم هو ميخائيل رمضان، ولا تسألني عن تنافر شقي الاسم. عمل رمضان بديلًا عن صدام لعقدين كاملين، حتى أنه خالف العُرف في صناعة الأشباه بألا ينطق الشبيه، وسُمح له بنطق بعض الكلمات بعد تدريب صوته ليماثل صدام، بل وصل الأمر لأن يقوم بالتفاعل أحيانًا مع الجماهير.
أذكر من تلك الفترة أخبارًا ترصد أشباه صدام في الصحافة الغربية، وتُصاغ مصورة على نحو يذكرك بلعبة استخرج الفروق الثلاثة. ربما بعضنا لا يزال يذكر محاكمة مبارك، وكيف أن أحد المحامين في مرافعتهم هتف في القاضي بأن الرجل الذي في القفص ليس مبارك وإنما شبيه له، وزعم أن الرئيس المخلوع مات منذ سنوات. وكانت تلك مزحة تليق بأكثر المحاكمات هزلية في تاريخ القضاء المصري.
جثة على الطريق
لكن لفهم ما أعنيه بالصناعة، دعونا نعود قليلًا، لذلك النهار من أغسطس/ آب عام 1995 حين عثر المارة على جثة شاب نحيل الجسم ويبدو على وجهه المرض، بعد نقله إلى المستشفى جثة هامدة تبين أنه المطرب عماد عبد الحليم. كان عماد المولود سنة 1960 قادمًا من عائلة فنية؛ فالأب والشقيق ملحنان معروفان. وكالعديد من قصص المواهب، التقى عماد فنانه الأثير عبد الحليم حافظ وهو في المرحلة الابتدائية، وزُرع في رأس الصغير أن الموهبة مبنية على الشبه بينهما.
كان عبد الحليم حافظ هو أول الموروطين في صناعة وإنتاج الأشباه
يتجلى الأمر من لحظة صعوده مسرح أحد الأفراح التي حضرها العندليب في الإسكندرية، وحث الأب صغيره على أن يغني في حضرة العندليب أغنية له. أثار الأمر إعجاب عبد الحليم، واستجاب لطلب الأب باستعارة اسمه لذلك الشبيه الصغير.
حين أراجع هذه القصة التي تُنسب لعماد عبد الحليم نفسه، أجد أن عبد الحليم حافظ هو أول الموروطين في صناعة وإنتاج الأشباه. وربما يكمن السر في ما هو معروف عن معركة كان هو طرفًا فيها كنجم وكصاحب بيزنس في صناعة الغناء، قام أعداؤه بمحاولة اختراع بدائل له، أشهرها هاني شاكر. وتلك قصة أخرى.
كان عماد عبد الحليم بملامحه القريبة جدًا من الأصل مبتدأً يمكن تتبع الظاهرة من عنده. لكن لعماد، وهذا كان الأساس في المقاربة، صوت فيه من صوت عبد الحليم ذلك الضعف المخلوط بالحس العاطفي. وعاش عماد عبد الحليم حبيسًا لتلك المشابهة، فلا هو تخلص من الاسم الاستثماري، ولا ابتدع لنفسه مسارًا يميزه ويجعل له بصمة فنية خاصة.
حين مات عبد الحليم حافظ كان عماد في سن المدرسة لم يتخطاه، وتصاعد لذروة شهرته في تلك الفترة التي غلفها الحزن على وفاة العندليب. ثم قضى من بعدها عقدًا كاملًا يتعثر في صنع هوية خاصة به، وعجز عن ذلك تمامًا، حتى انتهى به الحال وقد لفظ الحياة ولفظته.
دورة حياة الشبيه
ظاهرة الشبيه واستغلاله ليست بالجديدة، لكن هناك لحظة فارقة بدأ الانتباه لإمكان جعلها صناعة مربحة. وقبل أن ينقضي عقد واحد فقط على انتهاء أهم شبيه لعبد الحليم، قررت إحدى أشهر عائلات الإنتاج السينمائي والتليفزيوني، عائلة العدل، تكرار لعبة عبد الحليم في ظل مناخ تضخم فيه السؤال المفتعل: لماذا لا تنتج مصر أم كلثوم أخرى وعبد الوهاب آخر؟
أدمنت رتيبة الحفني اللعبة وغازلت الصحافة بأن ينتظروا أم كلثوم جديدة في المهرجان
وصل تطرف السؤال للقفز على جوهره، وبدلًا من التفتيش عن مواهب بنفس المستوى الفائق للعملاقين، صار الهم هو مجرد البحث عن شبيه يذكرنا بـ"روايح" الزمن الجميل.
أعلن المنتج مدحت العدل عن مسابقة لاختيار ممثل يحمل صفتين، الشبه وجودة الصوت، ليكون بطلًا لمسلسل درامي عن العندليب سيقوم بإنتاجه. وكانت تلك بداية معرفتنا بشادي شامل، وتابعنا كيف توهج الاسم لأشهر عديدة، وكيف خفت بمجرد عرض المسلسل، الذي آل هو نفسه إلى قوائم النسيان. أحاط التناقض بالمسلسل وبالفكرة كلها، وأدرك أصحاب اللعبة أن أحباء أم كلثوم وعبد الوهاب، وحتى عبد الحليم، لا يرضون عن نجومهم بديلًا.
حتى الموهبة لا تقبل المماثلة، يعي من عاش في تلك الحقبة كيف كانت هناك أصوات نسائية محترفة وفائقة الموهبة، لعل من بينها سوزان عطية، نجمة حفلات فرقة الموسيقى العربية، التي ملكت القدرة على استدعاء حالة أم كلثوم لمستوى مذهل في إجادته وحساسيته. لكن من يتذكر سوزان اليوم؟ دورة حياة الشبية قصيرة جدًا، هذا إن كان موهوبًا، فما بالك بعديم الموهبة؟
أدمنت رئيسة مهرجان الموسيقى العربية رتيبة الحفني تلك اللعبة، وغازلت الصحافة كل بضعة أعوام بأن ينتظروا أم كلثوم جديدة في المهرجان، وعرفنا من خلال هذه اللعبة آمال ماهر، التي حُجب صوتها الجميل.
يروي شادي شامل ما يشير إلى عدم جدية اللجنة للبحث عن أي شيء بخلاف بعض التشابه الخارجي، فعندما سأله الملحن هاني مهنى، الذي تولى لجنة الاختيار، "لابس الجزمة فردة وفردة ليه؟"، رد شادي بأنهما متماثلتان دون أن ينظر إلى قدميه، فنال إعجاب مهنى ولجنته لثقته بنفسه، ومنحوه الدور. لا أعرف هل كان السؤال مجرد مصادفة أم حَمل بالفعل ما يتصوره مهنى عن تماثل المواهب في الفن.
بين البحث العلمي وعهر جذب الانتباه
نعود لعقدة دوللي. في 1996، كانت المروج الأسكتلندية على موعد لإعلان "ميلاد" أول نعجة بطريقة الاستنساخ المختبري، وبرز اسم إيان ويلموت وزملائه يتحدثون عن إمكانية تخليق خلايا حيوانية بغير طريق التكاثر الطبيعي، بل من الحمض النووي المأخوذ من الغدد الثديية.
كان الاسم لافتًا، لأنه استعير من اسم المغنية الأمريكية الشهيرة دوللي بارتون، المشهورة بثدييها. وفي الإشارة بلاغة جلبت على الفريق البحثي الكثير من العتاب، لكنها كانت ذكية للفت النظر إلى الأصل الذي جاءت منه دوللي، الخلايا الثديية، وإلى البشر كمسار مستقبلي.
ربما لن تدرك الأجيال الجديدة التي تسمع حديث الخلايا الجذعية وما تبشر به بحوثها في علاج العديد من الأمراض صدمتنا في تلك اللحظة. كان الاحتجاج الأخلاقي والسؤال عن وجهة العلم طاغيًا على وسائل الإعلام الغربية.
ولكن الاحتجاج عندنا كان أشد، مع فارق جوهري، تمثل في تضاؤل عدد من تحمسوا للفتح العلمي الكبير، وخروج الجدل من مساحة أخلاقيات العلم ومستوى المخاطر ومقبوليته، والفائدة العلمية قياسًا للمخاطر، إلى الدين ومعنى الخلق الإلهي. كان الجدل عندنا متصل بالإيمان بشكل شبه حصري، ومجرد القول الإيجابي عن دوللي يضعك تحت ظلال التكفير.
وكانت هناك مهازل مضحكة، كاشتغال طبيب متخصص من كوريا في استنساخ الحيوانات الأليفة التي تموت ويدفع أصحابها لقاء ذلك مئات الآلاف من الدولارات.
كانت لحظة التماثل الجسدي المصنوع في المعامل تعلن تغير مسار العلم. خلايا البشر قابلة للتصنيع وإعادة البرمجة، وطالما ظهر كائن ثديي بتلك الطريقة، فلا مجال لاستبعاد إمكان ذلك في البشر. ومشهد الطفل المشدود إلي ماكينات الولادة في أفلام الخيال العلمي بات وعدًا علميًا مع إمكان برمجة خلية لتأخذ مسار التكوين الجنيني دون فعل التكاثر والولادة.
قال الفريق البحثي إنهم راحوا لوجهة الاستنساخ بمحض المصادفة، فغرض بحثهم الأساسي كان منصبًا على خلايا إنتاج اللبن. لكن تلك الملاحظة جرى نسيانها، فما وقع بالصدفة أكبر من أن ينسب للصدفة. أرعبتنا بحوث الاستنساخ، وانقسم الناس بين من يرون في النعجة دوللي بداية مسار شيطاني، وبين من يرونه فتحًا علميًا عظيمًا.
صحيح أن الحديث الآن منصب على إنتاج الخلايا الجذعية المستحدثة بعيدًا عن البحوث في الخلايا الجذعية الجنينية. لكن ثمة إلحاح يُسمع صداه كثيرًا لاستنساخ الأعضاء البشرية التي تفشل، أو مد الجسم بمحفزات من تلك الخلايا لعلاج بعض الأمراض.
حين ماتت دوللي بعد سبع سنوات، أي في سن مبكرة قياسًا بالنعاج الأخرى، لم يسأل أحد السؤال المقلوب، هل يمكن إعادة دوللي إلى الحياة والتحكم بظاهرة الموت مثلما تم التحكم بالولادة؟ يبدو السؤال فلسفيًا، لكن يكمُن فيه بعض الخوف الأول الذي أصابنا قبل ربع قرن.
لعبت السوشيال ميديا دورًا في تسييد عقدة دوللي في العقل الجمعي. لا شك عندي في ذلك. مرض الاشتهار، وما ينعتونه أحيانًا بعُهر جذب الانتباه، يقف وراء تصميم بعض التطبيقات وخوارزمياتها، حتى تضخمت فكرة المشابهة وتكرار الأفعال، لدرجة الاستساغة والتحبيب لا النفور والتساؤل عن الجدوى وقيمة الأصل.
إذا علمنا حجم حوافزهما السلطوية والربحية، سنتبين بوضوح أن الإعلام والبيزنس الشبكي ليسا مبرأين أبدًا، وما نراه اليوم هو نتاج لعقلهم وتفكيرهم. ربما تتفاوت القصة بين ما يحدث في العالم المتقدم وما يجري في عالم الاستبداد والتخلف، لكن الجوهر واحد.