الدهشة والضحك يختصران تصريح الصديق والروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد عن موقف رفض الروائي شادي لويس جائزة ساويرس. بعد إعلان الجائزة بساعة رمى لويس قنبلته في عبارة مقتضبة على فيسبوك؛ "ممتن للجنة الجائزة على اختيارها، وسأحتفظ بها لليلة واحدة، وفي الصباح سأبلغ إدارة الجائزة بتنازلي عنها ماديًا ومعنويًا".
في ظاهره، بدا موقف لويس غير معني تمامًا باتساق المبدأ مع الفعل، ومنطقه البسيط بأن رفض جائزة يعني ابتداءً عدم التقدم إليها. كان تقدم فاطمة البودي ناشرته وصاحبة دار العين يحمل بوضوح معنى اعتراف الكاتب بجدارتها، وهذا عين ما استوقف عبد المجيد؛ مقرر فرع الجائزة المخصص لكبار الكتاب في دورة هذا العام، الذي عبر عن حيرته إزاء موقف لويس، وعن شعوره بالخيبة بعدما تحمس للرواية المعنونة "تاريخ للخليفة وشرق القاهرة"، والمشهد من زاويته أن الروائي الفائز يعابث اللجنة، فيقبل الترشح للجائزة عبر ناشره، بما يعني عدم رفضه لأي شيء يتصل بها؛ قيمتها، والمؤسسة التي تقدمها، واللجنة التي تديرها، وكذا القواعد والإجراءات التي تعمل من خلالها.
وزاد من خيبة صاحب "لا أحد ينام في الإسكندرية" أن لويس أكد القبول شخصيًا في اتصال مع مديرة الجائزة قبل أن يُسمَّى فائزًا بفترة معقولة، ثم إذا به بعد ساعة من إعلان فوزه يصرح بالتنازل عن الجائزة.
الحال نفسه أصاب رئيس مجلس أمناء الجائزة، الكاتب والمؤرخ الاجتماعي المعروف الدكتور محمد أبو الغار، الذي نزع إلى موقف أبوي مغلف بالغضب لا الضحك، مطالبًا لويس بحذف البوست على الفور، وأن يوضح أسباب رفضه الجائزة. كانت صدمة أبو الغار مضاعفة، فهو لم تتملكه وحسب الحماسة لموهبة لويس ولدهشة نصوصه الروائية، بل كتبَ عنه مشجعًا ومبديًا الإعجاب قبل منح الجائزة.
الصدمة ذاتها عبَّر عنها أيضًا عدد غير قليل من المثقفين والأدباء، حتى أن أحدهم اعتبر أن لويس عمد إلى هذه الطفولية لكي يضع الفائزين الآخرين في موقف حرج. وعلى المنوال ذاته، راح آخر لاتهام لويس بالسعي لأن "يختطف اللقطة" ليمنع الجميع لحظة فرح يريدونها، وبدلًا من أن تنشغل الصحف والسوشيال ميديا بالاحتفاء بهم، جاء تنازله ليستقطب كل الكاميرات والميكروفونات لصانع الخبر الساخن.
للوهلة الأولى ساورني هذا التصور عن طفولية مسلك لويس، وبخاصة أن كلامه المقتضب عن رفض الجائزة كان معبأً بسخرية غير مفهومه، تقصر الأسباب على رغبة في الاحتفاظ بالجائزة لليلة واحدة، ومن ثم يتنازل عنها. والعاقل يعي أنه وبغير أسباب معقولة لا ينشأ الموقف، أما التوق لاحتضان الجائزة ليلة ثم لفظها، فهو شبق ذاتي، والاهتمام به قد يورطنا في أن نفتش في النفوس عن بواعث تخص صاحبها وحده.
بعدما صارحت بهذا الكلام صديقًا متابعًا، اختلف معي، وأسعفني بمصادر تنبه لعمق موقف لويس، تحوي أسبابًا معلنة لموقفه ذلك من قبل أن يترشح للجائزة، وجاء موقفه متسقًا مع تلك الأسباب. وأضاف بأن كاتب "طرق الرب" صاحب "تاريخ" مع الجوائز، منذ اشتباكه في معركة مع الفائزة بجائزة الشيخ زايد الروائية إيمان مرسال حول أخلاقية القبول بمثلها، وقد ظللتها ذات الأسباب التي رفض بموجبها يورجن هابرماس جائزة "شخصية العام الثقافية" التي تقدمها إمارة أبو ظبي، معلنًا أن قبوله الأوَّلي للجائزة "كان قرارًا خاطئًا وجب تصحيحه"، وعلل الرفض بتناقض المبادئ الديمقراطية التي يؤمن بها مع توجهات السياسي الذي يقف وراء الجائزة. ووقتها حيَّا لويس هابرماس في تغريدة لاقت اهتمام وسائل الإعلام ومنها قناة الجزيرة وغيرها.
وفي خضم معاتبته لمرسال، استدعى لويس السؤال عن جدارة جوائز عربية أخرى ومنها جائزة ساويرس. وكان لويس وجه قبلها نقدًا حادًا لصاحبها نجيب ساويرس على خلفية تجاهله لسلامة العاملين لديه، عندما ضربت جائحة كورونا العالم، ووصفه جراء ذلك بأنه "مصاص لدماء الغلابة".
حينها أثار نجيب نفسه الجدل بإصراره على رفض تطبيق الإجراءات الاحترازية لمواجهة فيروس كورونا بمنشآته الاقتصادية والتي كانت تقتضي التعطيل المؤقت للعمل. ونبه لويس إلى تناقض موقف ساويرس فيما يخص عماله من المصريين فيما يعلن قبوله غير المشروط لنفس الإجراءات الاحترازية في البلدان الأخرى التي تعمل بها استثماراته.
اللعب مع العم دهب
هل بالإمكان حقًا إلزام نجيب ساويرس بهذا الموقف الأخلاقي الذي يطلبه لويس؟ من يعرف رجل الأعمال الشهير بالعم دهب وإدمانه على إثارة الصخب في أوساط الإعلام والفن والثقافة، سيعي أنه لن يتوقف لتأمل ما جرى، بل غالبًا ما سيستثمر حالة الارتباك في إعادة تشكيل صورته وكسب الموقف لصالحه.
تخيلت نجيب وقد عمد إلى ترك كل علامات الاستفهام ليعنى بسؤال من استهيفوا قيمة الجائزة، ومنهم شادي نفسه (فهي بأي حال هزيلة ودون الخمسة آلاف دولار بعد خفض قيمة الجنيه) وليغازل مطمح من سخروا من موقف لويس واصفين إياه بـ"موقف ما بعد التعويم" بأن يعد بزيادة كبيرة لقيمة الجائزة المادية.
هل ثمة شيء أسهل من أن يقلب الطاولة عبر الوعد بقيمة مليونية لجائزته في دورتها القادمة، ويقينه أن السخاء كفيل بابتلاع موقف شادي وأن يرمي بجدالاتنا كلها في جب سحيق من تهليل المنتظرين للجائزة؟
وربما يلتقط العم دهب خيط الرواج، فثمة من اتهموا لويس بأنه رفض الجائزة كتكتيك دعائي بتواطؤ من دار النشر، ليروج لاسم الكاتب ولأعماله. وهو قول يتجاهل حقيقة أن لويس ليس بحاجة لمزيد من الشهرة، إذ حظي بها فعلًا منذ انطلاقته الأدبية الأولى، حين قدم عمله الروائي الأول، ومنذاك بات اسمه مألوفًا على قوائم الكتب الأكثر مبيعًا.
إذا كان ذلك يقنع الأدباء فلمَ لا يقدم نجيب وعودًا لهم بالانتشار والدعاية إن تنافسوا على جوائزه؟ وما أكثر دور النشر التي تود أن تحصل منه على تمويل لتعظيم فرص النشر والقيام بالدعاية للفائزين، هذا ما لم يؤسس هو دار نشر لأجل هذا الغرض.
بروح الطفل العابث، وهو ينزع عن جائزة ساويرس استحقاقها وجدارتها الأخلاقية، يهمس في الجميع، قبل من يديرونها من المثقفين، بأن أمامنا علامة استفهام أكبر من كل تلك المعارك
يعلم نجيب كما يعلم الأدباء أن صوت المال عالٍ في القطاع الثقافي، بعدما سادته موجات التتجير والمفاهيم التسويقية. وسيضحك عم دهب من انفعال أهل الأدب ضد القوائم ولغتها الترويجية ووصفهم لها بأنها انعكاس لسلطة صناعة النشر، التي تفرض معيارًا للقيمة قائمًا على منطق التتجير، وتدفع لجعله حكمًا في أمر المكانة الأدبية.
باختصار، قد يفلت عم دهب من الأسئلة التي رماها الروائي المشاغب، لكن هل سيفلت بالمثل مَن وضعهم لويس في زاوية المشهد، وبخاصة أعضاء اللجنة وزملاؤه الفائزون؟
لمن تدق الأجراس؟
يؤكد لويس أنه لم يستهدف بحال تصادمًا شخصيًا مع من تحمسوا لكتاباته، ولا أظنه يخالف أغلب أهل الأدب ومحبيه في تقدير مبدعين كإبراهيم عبد المجيد ومثقفين كأبو الغار. وقد أعفى، بحسب ما صرح وكتب، من أداروا الجائزة من أي حرج، بل وشدد أنه لا يود أن يقع الحرج على أي من زملائه الفائزين بالجوائز. فما هو همّ لويس إذن في فرض تساؤلاته الأخلاقية؟
"... لست معنيًا إن كانت الجوائز تساهم في ازدهار الحقل الأدبي أو العكس، ليس هذا ما يعنيني هنا. لكن لدي موقف أخلاقي منها، وما أعنيه بالأخلاقي هنا هو السياسي، فكل ما هو أخلاقي بالنسبة إلي هو سياسي. وهذا الموقف ليس مؤسسًا على كون الكتابة مهنة سامية أو نبيلة ولا أيًا من هذا، بل هو مؤسس على حقيقة أنه على كل واحد منا، كفرد أولًا، وكمواطن ثانيًا، وكعضو في جماعة اجتماعية أو مهنية، أن يكون مسؤولًا أخلاقيًا. وفي منطقتنا تحديدًا، لا نمتلك رفاهية أن نتجاهل السياسة أو نغمض عيوننا عنها، أو نفصل بين الجمالي والأخلاقي. وموقفي هذا ليس تهريًا بأي شكل من الأشكال، في معظمه يستدعي الحد الأدنى من اللياقة، هناك أسئلة يجب طرحها، مَن يمنح الجائزة؟ وباسم مَن؟ ولماذا؟ يعني هل نقبل جائزة باسم ديكتاتور مثلاً؟ أو من أرباح تجارة السلاح أو الرقيق الأبيض؟ أو من نظام يخطف الكتّاب أو يعذبهم حتى الموت؟ أو متورط في إبادة جماعية؟
أتفهم أن هذه أسئلة نسبية والإجابة عليها ليست بالبساطة التي تبدو عليها. لكن معظم ما سمعته أثناء 'المعارك الضارية' التي ذكرتها، لم يتعرض لنسبية الأسئلة وصعوبة إجابتها، بل ببساطة جاءت الإجابة: نحن نقبل كل الجوائز ومن أي كان، أو تمت شخصنة الموضوع ببساطة، وقيل أنت أيضًا ملوث فلا داعي لادعاء الشرف، كلنا نخطئ، كلنا مجرم. أما السؤال الأصلي، فلم يتصدّ له أحد، هل هناك معايير أخلاقية لتلقي الجوائز؟ وإن كانت الإجابة نعم، فما هي؟ ولا كلمة واحدة قيلت في الأمر."
يلخص هذا المقتبس كيف حرك لويس العبء الأخلاقي من على أكتاف العم دهب، ليضعه على أكتاف الجماعة الأدبية بعمومها. والأمر واضح في كلماته التي لا تمل استفزاز الجماعة الأدبية وتحيل لمواقف ربما أسبق من حواره الذي أدلى به قبل ستة أشهر من الترشح.
في الحوار يتحدث بلسان تلك الجماعة آملًا في الآن ذاته أن تفتش في ضمائرها عن إجابة. هكذا، لويس بروح الطفل العابث، وهو ينزع عن جائزة ساويرس استحقاقها وجدارتها الأخلاقية، يهمس في الجميع، قبل من يديرونها من المثقفين، بأن أمامنا علامة استفهام أكبر من كل تلك المعارك الصغيرة. ويعلو صوته بالسؤال الأكبر: كيف تقبل الجماعة الأدبية وجود مثل هذه الجائزة والصمت عن صيغتها الراهنة، كأنما يهتف كطفل هانز كريسيان أندرسون "الإمبراطور عريان" وأن علينا جميعًا أن نطرح مبرراتنا لعدم رؤية عريه.
الجماعة الأدبية مشغولة بمنطق ظاهري صلب لمواقف الرفض، ولا يتصورون مداخل أخرى قد يكون العبث جزءًا من أدواتها؛ سخرية في مقابل صلف وسخف من يتجاهلون المنطق الأخلاقي. ما دفع لويس إلى المضي في المسافة المخادعة النافية للمبدأ هو رغبته في أن يبرز معنى أكثر جوهرية من مقولة الاتساق المتطهرة هذه. يعترف الروائي بأنه يعي أثر تلك المراوغة وكأنها مسار وحيد يوصل للحظة التي تمكنه من غرس خنجر التمرد، وتعطيل اللعبة البائسة التي يتورط فيها الجميع. في لحظة الرفض شعر أن صوته أعلى وأن بمقدوره أن ينبه للأبعاد الأخلاقية والسياسية لورطة المثقفين والمبدعين مع مثل هذه الجوائز.
تشكيل الرسالة بهذه الطريقة التي رأيناها هو اختياره المبدع، وإن لم يعجب البعض، لكن تظل العبرة في أن الرسالة المهمة والملحة وصلت
موقف صنع الله ليس المسطرة
لويس في تخطيطه المسبق والمعلن لسيناريو الانسحاب، يتكئ صراحة على موقف صنع الله إبراهيم حين رفض جائزة مؤتمر الرواية المقدمة من الدولة، وكأنما يذكر بأن السلطة ليست فقط في نخبة الحكم السلطوي، بل في ملاك الثروة حلفائها، ومن بينهم ساويرس العطوف على الأدباء والزبالين! يستدعي لويس نموذج صنع الله وهو واع بفوارق الموقفين، وإن تماثلت غاياتهما.
ربما ضحك إبراهيم عبد المجيد لأنه وعى أن لويس دفع به لنفس المطب الذي وجد محمود أمين العالم نفسه واقعا فيه ليلة تمرد صنع الله. كان العالم متعاطفًا مع غضب الأدباء على سلطة استحقت بلا شك وصف صنع الله لها بأنها "سلطة أدنى من شرف منح هذه الجائزة". يكشف بعضًا من هذا التعجب ما قاله لويس في موضع آخر من حواره الذي اقتبسته أعلاه.
يوضح الكاتب وعيه بالمسافة الفارقة بين ما قام به وما قام به صنع الله في العقد الأول من القرن، وهي فوارق تضيف بذاتها معنىً مضافًا لتساؤلات لويس وتعمق من لعبته المدهشة. لكن يجدر ابتداءً الانتباه لمعنى المسافة بين ذاتية الرغبة وعمومية الموقف، فهو وقد آثر الخيار الطفولي، تمسك بالمراوحة ما بين ما قد يبدو ذاتيًا تمامًا ويضمر شرورًا صغيرة عابثة من جهة، وما هو نضالي وجوبي على أي مثقف يزعم أن قضيته هي الحرية من جهة ثانية. ربما "الطفولة المناضلة" تلك ما نحتاجه بعد أن ملك الخوف الكبار من تمثل المواقف الكبيرة.
يقول شادي في حواره القديم ".. وغير ذلك تستهويني إثارة الجدل والقلاقل والزوابع الصغيرة بروح ساخرة في معظم الوقت، ولا أمانع أن يرشح الناشر إحدى رواياتي لجائزة بعينها (أهاجمها طول الوقت)، بدافع الفضول، وربما على أمل شبه مستحيل للفوز بها حتى أرفضها علنًا، لست أكثر وقارًا من صنع الله إبراهيم مثلًا، وهو فعل شيئًا مشابهًا، وأجد ما فعله مثيرًا للإعجاب وملهمًا، أي تحويل طقوس الرعاية والاعتراف التي تفرضها مراسم الجوائز إلى إعلان تمرد وإدانة. لكن لسوء الحظ، نيتي تلك خرجت للعلن لأسباب تعرفها، بالطبع الناشرون لن يقدموا على أي من الجوائز باسمي بعد اليوم، ولا ألومهم طبعًا، ولا يهمني في الأمر سوى خسارة بعض الإثارة الموسمية".
هل نفهم من هذا أن موقف لويس مجرد تكرار لموقف صنع الله لكن بصيغة صبيانية تعمدها؟ قلنا إن معابثة شادي للجائزة ومؤسستها وصاحبها تفتقر للمبدأ الأخلاقي الحاسم والصلب، وربما كذلك تخلو من الجرأة والشجاعة في مواجهة السلطة والحديث بما لا يعجبها في عقر دارها. الحال أن شادي يعي هذا، بل يذكرنا بصراحة بأنه يملك ميزتين ولن يتنازل عنهما، حتى وإن خصمتا من جرأة مواجهة السلطة.
ينبهنا لويس في بوست لاحق على البوستين اللذين بيَّن فيهما تنازله عن جائزة ساويرس، لوعيه التام بأثر تموضعه في الخارج؛ إذ يتحرَّر من قيدين، الفاقة التي تجعل الأدباء يبتهلون للجائزة ويتمنون تحصيل قيمتها المادية، وفي مقابلها يرضون بتلك الظلال المحملة بعلامات الاستفهام. ليس الفقر عيبًا، وإنما أثره في النفس وعضته القلوب والعقول هي العيب، وشادي في الأصل لم يجئ من عالم مخملي، بل من قلب تلك العوالم الفقيرة التي يكتب عنها في هوامش العاصمة التي تحمل اسم القهر، فهو إذن واعٍ بالمعنى.
كذلك يتحرر لويس من قبضة القمع، بعيشه في بريطانيا، وبيده جواز سفرها الحامي، أي أنه في موقفه وإدانته لا يقيده ما قيد غيره من الأدباء، وهم يعيشون تحت قبضة سلطة، لا يدينها لويس إلا لبطشها وغشمها الذي يخيف هؤلاء المبدعين ويحرف وعيهم ويحجب حريتهم. يرفض العديد من الأدباء أن يكون لويس في هذه اللحظة صوتهم! لكن هل حديث لويس باسم هؤلاء يحتاج منهم الإذن؟ ذلك سؤال بائس حقًا، والخائفون لا يأذنون بطلب الحرية نيابة عنهم.
حتى ولو قال بعضنا منافحًا إن لجنة الجائزة مستقلة ومنفصلة عن توجيه وإرادة صاحب المؤسسة مانحتها، لا بد من إجابة واضحة عن استحقاق الشرف. في بؤرة موقف لويس ينتصب التساؤل عن جدارة من تحمل الجائزة اسمه بهذا الشرف، وهل يصح أن نتجاهل ما يحمله الاسم من معانٍ سلبية، ليس أقلها أن تكون الجائزة سترًا لاستغلال عم دهب وآله، وسخاء الإحسان على الأدباء الذي لا يتسق مع استغلال العمال والتورط في الفساد والتهرب الضريبي وغير ذلك من ممارسات؟
وليس في طرح السؤال على هذا النحو مزايدة على قيمة إبداع من فاز، ولا فرض لضرورة تكوين موقف "سياسي" على المبدعين، فإن لم ترونها من باب السياسة، فالبعد الأخلاقي يظل ماثلًا ولا مهرب منه. يعترف لويس بأن الإجابات من هذا الباب معقدة تمامًا وغير بسيطة، بل يرسمها سياق وجود من يجيب. بعضنا وهو في الخارج لا زال يحمل أثر الخوف، فما بالك بزملائه المبدعين في الداخل.
سيطاردنا المؤمنون بأدب البطولة وأسطورة البطل بالمقارنة غير المجدية، وسيقولون إن صنع الله لم يكن محررًا من فاقة أو خوف، وله من ثم إلى جانب السبق وفضله، ميزة الجرأة ومستوى أعلى من الشجاعة. ولا خلاف في أن هذا تقييم موضوعي، وبمعيار يقره شادي نفسه ولا ينفيه. لكن هل علينا أن نستهلك أنفسنا في تلك المفاضلة وما ينعته لويس بالمعارك الضارية؟
الغاية هي التعاطي الواعي مع سؤال يلخص جوهر المسألة: هل يستحق العم دهب شرف منح جائزة للإبداع؟ للويس كل الحق في أن يطالبنا مثقفين ومعنيين بأمر الحرية بالتخلى عن تلك المعارك المستنزفة لطاقة النقد وبخاصة حين تستبدل اللعبة اليسيرة التي ندين فيها بعضنا البعض ونقيم تصنيفات البطولة عالية الصوت فتلعن الكاتب هذا وتقدس ذاك، بالموقف المطلوب والسؤال الأخلاقي. الموروطون في تلك المعارك يخشون الموقف الأخلاقي الأولى بالتبني، ويخفت صوتهم حين تكون وجهة النقد هي أولئك المستغلين والقامعين.
لويس هو صنع الله إن فهمنا الرسالة
ما يمكن استخلاصه من لعبة لويس هو الدعوة إلى تحرك جدي له بوصلة أخلاقية ضد أولئك المستغلين والمستبدين، وبيان بأن قفزهم على عالم الأدباء والفنانين من باب حاجة المبدع إلى الدعم والتشجيع والاحتفاء لعبة مكشوفة ومرفوضة، فلا تقتنصوا منها شرفًا لا تستحقونه.
أليست هذه هي الرسالة ذاتها التي هللنا لصنع الله إبراهيم ليلة صدح بها على مسرح جائزة الرواية العربية؟ ألم نعتبر أن الوقوف على قبوله الأول للجائزة ثم تراجعه على منصتها تعلل متنطع بلا معنى، في ضوء وضوح وقوة الرسالة الأخلاقية التي حملها في وجه الطاغية مبارك ونظامه؟ هل بعد ما يقرب من العقدين من هذا الموقف من يسأل عن تناقض مبدئي في موقف صنع الله؟ ما بقي من تاريخ تلك اللحظة هو جرأة أن يسمع مثقف ومبدع بحجم صنع الله صوت الجماعة الأدبية، وأن يكون صوته عالٍ أمام فاروق حسني صاحب حظيرة المثقفين، ليقول له ومن ورائه مبارك "لا أقبل جائزة من سلطة لا تملك شرف منحها"؟
بصدىً شبيه، يخالطه صوت طفولي معبأ بالسخرية وبروح ساخرة أشبه بهذا الجيل من الأدباء، أسمعنا شادي لويس نفس الرسالة "لا أقبل جائزة من رأسمال لا يملك شرف منحها". وتشكيل الرسالة بهذه الطريقة التي رأيناها هو اختياره المبدع، وإن لم يعجب البعض، لكن تظل العبرة في أن الرسالة المهمة والملحة وصلت، وفُهمِت على نحو ما أراد وأردنا.