منذ لحظة الانطلاق الأولى في عالم الاقتصاد والمال، لم يزعم أنسي ساويرس، والد الأخوة الثلاثة ساويرس، أنه اشتراكي، لم يدّع أنه يبني ويشيد من أجل الوطن وأفراده، على الرغم من تماس بداياته مع ثورة يوليو 1952 وإعلان مبادئ من بينها القضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال، وعلى الرغم أيضًا من انطلاق صوت ليلى مراد من كل راديو في معظم الأوقات، مرددًا نشيد التحرير "على الإله القوي الاعتماد.. بالنظام والعمل والاتحاد"! لبناء اقتصاد الدولة، وترسيخ تنميتها كما قالوا!
دارت الدورة سريعًا، انطوت الاشتراكية الوطنية تحت جناح صقر الانفتاح المجنح، المحلق تجاه أرض الرأسمالية، ثم الليبرالية والنيوليبرالية، والمسميات الأخرى التي لا يمنحنا الانشغال والجري وراء لقمة العيش رفاهية التوقف لاستيضاح معناها، أو ما تخبئه لنا من مفاجآت. مناخ أتاح لعائلة ساويرس مثلما أتاح للآخرين بناء إمبراطوريتهم.
في هذه الأجواء أطلقت جائزة ساويرس الثقافية عام 2005، في مجالات الرواية والقصة القصيرة والسيناريو.
هل كانت بهدف تحمُّل جزء من التنمية المجتمعية؟ أم الريادة؟ أم تأسيس علاقة تبدو مشروعة وشديدة النبل لاستقطاب الكتاب والمبدعين؟
يبدو البحث في الأسباب غير مهم الآن، فعلى الجانب الآخر، ونتيجة سنوات من اتباع سياسة تكميم الأفواه، وتدني المستوى الاقتصادي، وتهميش التعليم والثقافة والإبداع، وتدني قيمة مسابقات الدولة، وتربية نماذج للمثقف منها الموظف والموجَّه والمدجَّن والتافه، في حظيرة وزارات الثقافة المتعاقبة، تصدرت دول الخليج المشهد الثقافي، بل وأتيحت لها الفرصة لاختيار روايات دون أخرى، في التحكم في خريطة الإبداع، التحكم في الذائقة وتوجيهها، ووضع مواصفات جديدة للإبداع.
الجوائز أيضًا تقبع تحت مظلة قانون جيتو الكتاب والمبدعين أبدًا
ذلك العبث ربما يستدعي إلى الصدارة رواية المصري الفرنسي ألبير قصيري "شحاذون ونبلاء"، التي تلخصها عبارة "في ظل العبث الأكبر الذي تتبناه الدول العظمى، من الصعب محاسبة الأفراد على العبث المتناهي الصغر"، فمع إلقاء أمريكا قنبلتي هيروشيما ونجازاكي (الزمن الذي تدور فيه أحداث الرواية)، وإفناء مئات الآلاف من اليابانيين في لحظة، تتحول جريمة قتل أستاذ تاريخ تداهمه حالة من العدمية، لإحدى فتيات بيوت الدعارة، إلى عبث متناهي الصغر، ومع قيام النظام بتزوير الانتخابات، يصبح تواطؤ أصدقاء ذلك المدرس معه لإخفاء الجريمة جريمة صغيرة، والمحاسبة عليها عبث أيضًا.
في ظل ذلك المشهد العبثي يتقوقع المبدعون، خاصة في مصر، داخل جيتو، أو حلقة من العبث الصغير. يشارك البعض في وضع قوانينه وأعرافه وتقاليده، وتقبل البقية بالمشاركة.
هذه الحالة ليست سيئة في المطلق، ربما بدأت كحيلة نفسية أو إنسانية، إن لم تشبع الإحساس بالذات، فعلى الأقل تبقيها بعيدًا عن الوقوع في عثرات الإحساس بالدونية والتهميش، حتى جاء الوقت وأصبحت من نسيج الجينات، نفعلها بعفوية وصدق شديدين، من دون الإحساس بالتناقض، أو الشعور بالنقصان.
نجلس في مناصب ثقافية نعرف أن سلطاتنا عليها مجرد تمثيلية، نراسل الجرائد ونحن نثق بأن القائمين على الصفحات الأدبية غير جديرين بما منحوا من حق في اختيار ما ينشر وما يجب أن يستبعد، نجامل بعضنا البعض بالقناعة نفسها، نقبل بقانون الصدف، أو الشللية، في اختيارنا عند التمثيل في مؤتمرات خارج الحدود، وترجمة أعمالنا، نقيم الندوات والمعارض ونحشد الجمهور، الذي يقل كل مرة، وينصرف إلى جيتو آخر، يحمي حدوده قانون عبث آخر، لا يختلف كثيرًا؛ الجوائز أيضا تقبع تحت مظلة قانون جيتو الكتاب والمبدعين أبدًا.
كل التفسيرات مقبولة إلا الصحوة المفاجئة تلك، والبدء في ترديد نشيد التحرير: على الإله القوي الاعتماد.. بالنظام والعمل والاجتهاد
ربما لهذا صدمنا، مع إعلان الفائزين بالدورة الثامنة عشر من جائزة ساويرس، بخروج فرد على قانون جيتو المبدعين الراسخ الآن.
لماذا خرج؟ كان قد أعلن مسبقًا عن رفضه قيام ساويرس باستمرار العمال والموظفين في العمل أثناء جائحة كورونا، فلماذا قدم عمله إلى مؤسسة يرفضها ويرفض صاحبها؟ كان بإمكانه الاعتذار عند إبلاغه بالفوز! ساويرس ليس اشتراكيًا منذ اللحظة الأولى، غير معني بنشر العدالة الاجتماعية؛ مؤسسة رأسمالية، ولكن يبدو أننا نتذكر الحقيقة عند مشاركتها فعالياتها.
لماذا انتظر حتى اللحظة الأخيرة، لا بد أنه خطَّط لإثارة تستمر وقتًا أكبر من وقت إعلان الجائزة؟ الاحتفاظ بالجائزة ليوم واحد ثم التنازل عنها لا يعني غير ذلك. هكذا فكرت! وفكر كثيرون أيضًا، أم ربما لتدني قيمة الجائزة إذا ما احتسبت بالعملة الصعبة، بعد انهيار الجنيه المصري، ربما وجد أن شهرة رفضها أكبر بكثير من شهرة قبولها؟ موقف فعله من قبل الكاتب صنع الله إبراهيم، وصدمنا للوهلة الأولى، على الرغم من اختلاف الوقت والظروف والجهة المانحة للجائزة.
كل التفسيرات مقبولة إلا الصحوة المفاجئة تلك، والبدء في ترديد نشيد التحرير: على الإله القوي الاعتماد.. بالنظام والعمل والاجتهاد، في ظل قانون العبث الذي يخلق من داخله منطقه المقنع، ويتمدد مع التمدد الفيزيائي للكون كل ثانية.