بُعيد فوزه بالمركز الأول في جائزة الرواية فئة كبار الكتاب، التي تمنحها مؤسسة ساويرس، عن عمله الروائي "تاريخ موجز لشرق القاهرة والخليفة"، أعلن شادي لويس بطرس، المقيم في بريطانيا، عبر سطور مقتضبة أنه سيحتفظ بالجائزة لليلة واحدة، ثم يتنازل عنها معنويًا وماديًا في صباح اليوم التالي.
لم يكن شادي لويس أول كاتب يرفض جائزة أدبية بعد الفوز بها، لا أتحدث هنا عن كتاب وفنانين عالميين رفضوا جوائز أشهر بكثير مثل نوبل والأوسكار وغيرهما، الحادثة الأقرب والأبرز فيما نتذكره، واقعة رفض الكاتب والروائي اليساري صنع الله إبراهيم جائزة مؤتمر الرواية العربية عام 2003، بخطاب قوي ومؤثر، شمل رفضه للنظام الحاكم والمؤسسة التي منحتها لها وهي وزارة الثقافة المصرية.
وفي الثلث الأول من التسعينيات، رفض الشاعر عماد أبو صالح جائزة منحتها له هيئة قصور الثقافة وقيمتها ألف جنيه، بينما أخذ عماد قرضًا بضمان وظيفته قيمته 300 جنيه لينشر ديوانه الشعري على نفقته، في مطبعة شعبية صغيرة، ووزعه بنفسه على من يحب هو أن يقرأه، لم يرسل أبو صالح رسالة إلى إدارة الجائزة ولم يكتب مقالًا يعدد فيه أسباب الرفض، فقط لم يذهب لاستلام الجائزة... لم يذهب أبدًا، وحينما أعلن عن ذلك بعد سنوات في حوار صحفي، هاجم فيه المؤسسات الثقافية والنقاد والمشهد الإبداعي المصري، هوجم بعنف طوال ثلاثة أسابيع تالية للحوار في مقالات كتبها روائيون وشعراء ونقاد، بعضهم كان صديقًا له، واتهموه بالمزايدة وبادعاء البطولة وبالبحث عن الشهرة والفرقعة.
المبدع من حقه أن يرفض ما شاء وأن يقبل ما يشاء، قيمة عمله لا تحدده قوانين السوق ولا وقت العمل المبذول
الأمور لا تتغير كثيرًا، والمفردات كذلك، وتكرار المواقف القديمة صالح لإثارة الدهشة دائمًا.
كان عماد أبو صالح، رغم احتياجه للمبلغ، وهو ليس قليلًا بمعايير ذلك الوقت، يرفض أن يحصل على أي شيء من الحكومة أو مؤسساتها، لا النشر ولا منح التفرغ ولا الجوائز ولا الاعتراف، كل كتبه طبعها على نفقته، وصمم أغلفتها بنفسه، ووزعها كذلك بأن أهداها إلى من يحب، ولما فاز عماد أبو صالح قبل عامين بجائزة سركون بولص، علمتُ أن القائمين عليها سعوا لديه بشدة ليقبلها وألحوا عليه كثيرا، وقَبِلها لأنها جائزة باسم شاعر وهي من تختار الذي يفوز بها، وليس من يتقدم إليها، رغم أن قيمة جائزة قصور الثقافة في حينها بسعر صرف الدولار تتجاوز قيمة جائزة سركون بولص منذ عامين.
المبدع من حقه أن يرفض ما شاء وأن يقبل ما يشاء، قيمة عمله لا تحدده قوانين السوق ولا وقت العمل المبذول بتعبير ماركس، هو حر ببساطة في اختياراته.
ورفض الجوائز قد يأخذ أشكالًا أخرى، الكاتب مرتبك في داخله، وكلما زاد ارتباكه تجلت رؤيته الأعمق، رؤيته غير المطمئنة اطمئنانًا نهائيًا يفسد عليه وعلى قارئه النظرة المختلفة والمركبة.
الناقد والمترجم فاروق عبد القادر الذي عاش حياته كلها تقريبًا مستقلًا عن مؤسسات الدولة، حتى أنه رفض التعيين في الأهرام، بعد إغلاق مجلة "الطليعة" اليسارية، فاز عام 1998 بجائزة العويس الإماراتية، وكانت قيمتها هائلة ليس فقط بالنسبة لكاتب يتعيش من مقالاته وترجماته وكتبه، ولكن لمن هم أكثر ثراء بمراحل منه، ويعرف أصدقاء عبد القادر ورواد مقاهي وبارات وسط البلد والعاملين بها والنُدُل كيف أنه أنفقها كاملة في بضعة أشهر على متعته وأصدقاءه وحتى من لا يعرفهم أحيانًا، وعاد بعدها مطمئنًا ورائقًا إلى جلسته الأسبوعية في مقهى "سوق الحميدية" وكأنه لم يفز يومًا بذلك المبلغ.
ولأن المؤسسة الثقافية الرسمية المصرية تعرف فاروق عبد القادر ومواقفه جيدًا، فلم ترشحه أبدًا لأي من جوائزها، إلا قبل وفاته بأيام، وأُعلن فوزه بجائزة التفوق قبل وفاته بساعات، ومات دون أن يعرف بذلك أو يقرر ماذا يفعل.
صاحب الجائزة في حالات كثيرة، يرى جائزته مجرد وديعة بحق الانتفاع عند الفائز بها يتمتع بها إذا ما التزم توجهات المالك الأصلي
جائزة العويس التي تحظى باحترام المثقفين العرب، وتتمتع بسمعتها الطيبة، لم يرفضها فاروق عبد القادر علنًا، لكن إدارة الجائزة نفسها رفضت وألغت أحد فائزيها، ففي نهاية عام 2004 قرر مجلس أمناء مؤسسة سلطان العويس الثقافية، سحب جائزة العويس الثقافية من الشاعر العراقي سعدي يوسف التي منحت له في عام 1990 تكريمًا له وتقديرًا لريادته الشعرية، وشطبه من سجل الفائزين بها، وجاء في أسباب سحب الجائزة أن الشاعر سعدي يوسف "بدرت منه مؤخرًا إساءة بليغة وبلغة منحطة لرمز من رموزنا الوطنية والقومية ولشخصية أجمعت عليها الأمم والشعوب بوصفها من رواد الوحدة العربية ومن دعاة التضامن العربي والعاملين من أجله بلا كلل، ومن الذين عملوا من أجل السلام العالمي وهو المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله".
وقال أحد المسؤولين في المؤسسة حينها ضمن بيان إعلامي، إن "قرار سحب الجائزة من الشاعر سعدي يوسف، يعد قرارًا مؤسسيًا لم ينتهج العاطفة، بل اعتمد المؤسسية والموضوعية، إذ تعتبر محاولات مجلس الأمناء في مؤسسة سلطان بن علي العويس للتأكد من صحة ما نسب للشاعر المذكور غاية في تحري الدقة والتثبت، وأضاف المصدر أنه على الرغم من فوز سعدي يوسف بالجائزة فإن هذا لا يعفيه من المسؤولية تجاه المقال الذي كتبه، الذي يحوي الكثير من الإسفاف والهجوم غير المبرر على رمز من الرموز الوطنية لدولة الامارات والعالم العربي والأمة الإسلامية جمعاء".
القادر على المنح قادر كذلك على استرداد منحته، وصاحب الجائزة في حالات كثيرة، يرى جائزته مجرد وديعة بحق الانتفاع عند الفائز بها يتمتع بها إذا ما التزم توجهات المالك الأصلي.
ولم تكن جائزة ملتقى الرواية العربية عام 2003 هي الجائزة الأولى التي يرفضها صنع الله إبراهيم، سبق ورفض صنع الله جائزة معرض الكتاب لأفضل رواية عام 99/98 عن رواية "شرف" وكان حسني مبارك يسلمها بنفسه في لقائه بالمثقفين والكتاب.
ورواية "شرف" هي أول رواية يُهاجَم فيها مبارك وسياساته وباسمه وبوضوح على لسان أحد أبطال الرواية، ويبدو أن المسؤولين عن الثقافة ومؤسساتها آنذاك، رأوا أن يجعلوا مبارك يمنح جائزة لرواية تهاجمه (والمؤكد أنه لم يكن يعلم طبعًا) دليلًا على ديموقراطيته وسعة صدره، لكن صنع الله إبراهيم وببساطة لم يذهب ولم يتسلم الجائزة رفضًا لمصافحة مبارك ولم يعلن شيئًا ولم يُكتب عن الأمر سوى خبر صغير يفيد بأن صنع الله إبراهيم لم يذهب إلى اللقاء لشعوره بوعكة صحية مفاجئة.
لكن في 2003 حصل صنع الله على فرصته لإعلان موقفه ولإلقاء خطابه القوي، وكان عليه أن يبدو موافقًا ليذهب إلى الاحتفال ويفعل ما خطط له، وقد كانت تلك النقطة، موافقة صنع الله، ثم رفضه، المدخل للهجوم الذي شنه عليه كَتبة السلطة وأصحاب المصالح مع المؤسسة الثقافية آنذاك، وهو نفسه لم ينكر، لكنه قال بوضوح في حوار مع الشاعر حمدي عابدين لجريدة الشرق الأوسط "حاولوا أن يشتروني فكنت أذكى منهم. وفسر صنع الله إبراهيم موقفه بأنه لو رفض قبل الإعلان، لأنكروا أنهم منحوني الجائزة من الأساس، كانوا سيكذبونني ويتهموني بالتدليس".
الرفض قيمة إبداعية في حد ذاته، وبعثرة الأوراق المرتبة بعناية ربما يجعلنا نتمهل ونتوقف ونتبين ونرى، وأن نستمع إلى صوت ولو واحد يقول لا
لدينا كاتب رفض جائزة، فماذا عن الجائزة نفسها؟
أنا شخصيًا، أرى أن جوائز مثل جوائز مؤسسة ساويرس الأدبية أمرًا مهمًا للكتاب، ومصدر أهميتها كما كتبت سابقًا وفي ظل تراجع الحركة النقدية أو غيابها تقريبًا، أن لجان تحكيم الجائزة (وهي جيدة وجديرة في أغلب الدورات إلا قليلًا) تلقي الضوء من خلال اختياراتها للقوائم الطويلة والقصيرة على الأعمال التي تستحق الدعم والتشجيع ومن ثم القراءة والاقتناء.
والأهمية الثانية مادية بالطبع وتتمثل في منح المبدع جائزة مالية جيدة عن عمله الأدبي، خصوصًا لشباب المبدعين، في وقت لا يحصل الكاتب على مقابل مادي عن إبداعه إلا إذا تحول عمله إلى منتج سينمائي أو تلفزيوني، وهذا لا يحدث بسهولة أو نادر الحدوث في الواقع، فالأدب لا يدر دخلًا ولا نعرف أديبًا يعيش من نتاج إبداعه، إلا بعد أن تجاوز الستين سنة على الأقل، غير أن هذه الأهمية تحمل في داخلها كذلك مثالب الجوائز عمومًا، التي جعلتها صنمًا لا يُقبل رفضه من أجل استمراره في تأدية دوره هذا، ويكفّر من يرفضه، بنفس الاتهام القديمة.. بالفاصلة والنقطة، مع أن الرفض قيمة إبداعية في حد ذاته، وبعثرة الأوراق المرتبة بعناية ربما يجعلنا نتمهل ونتوقف ونتبين ونرى، وأن نستمع إلى صوت ولو واحد يقول لا، وسط الآلاف من نعم، وإن ارتبك صاحب لا، أو تعثر، فالمهم أنه قالها.