أي كتاب جديد للصحفي والباحث لوائل لطفي يعني أن هناك جدلًا سيشغل الناس، لكنه جدلٌ مختلف عما نعرفه في أيامنا تلك، من أمور تثير الناس سواء بالقبول أو الرفض دون أن نعرف سبب الإثارة أو نتيجة لهذه التريندات التي تأكل بعضها بعضًا.
للطفي عدة كتب منها "دعاة عصر السادات" و"دعاة السوبر ماركت" و"الطريق إلى داعش". لكن يبقى كتابه "ظاهرة الدعاة الجدد" درة إنتاجه الصحفي والبحثي. ومع ذلك أظنّ أن كتابه الجديد "اسمي مصطفى محمود.. سيرة التحولات" يحفر مسارًا جديدًا في الكتابة الصحفية والفكرية، حيث المزج بين مهارات التحقيق الصحفي والبحث الأكاديمي، ومهارة الكتابة السردية.
تكمن خطورة تجربة الكتاب في إزالة الحواجز المتعارف عليها بين الوقائع والخيال الأدبي. فلسنا أمام بحث اجتماعي يقدم تحليلًا مستندًا لبيانات أو معلومات موثقة للتدليل على وجهة نظر المؤلف، كما أننا لسنا أمام تحقيق يقدم فيه الصحفي وجهات نظر متباينة ليترك للقارئ فرصة لبلورة رأي حول موضوع البحث أو التحقيق.
وعلى الرغم من أن معظم القراء يعرفون أنه في كلتا الحالتين للمؤلف أو للصحفي رأي يستدرجهم لتبنيه حتى لو زعم الحياد، فإن ثمة تواطؤ على ضرورة وجود حواجز بين الوقائع أو الحقائق من ناحية والخيال من ناحية ثانية مع اليقين المتبادل في مجتمع القراء بأن تلك الحواجز متوهمة وشديدة التذبذب.
كتابة الذات بلسان آخر
يمثل كتاب "اسمي مصطفى محمود" تجربة فريدة؛ لأنه يخالف أعراف كتابة السيرة الذاتية والغيرية على السواء، بل يعد بمثابة مقلوب تجربة أبي العلاء المعري في "رسالة الغفران". إذ جرى العرف أن يكتب السيرة الذاتية صاحبها بضمير المتكلم، وأن يكتب السيرة الغيرية آخر بضمير الغائب، كذلك الصلة بين الأموات والأحياء تمتد عبر الخيال بذهاب الأحياء إلى عالم الآخرة مستكشفين أحوال من رحلوا، مثلما فعل أبو العلاء المعري وهو يسرد أخبار الشعراء العرب وهم موزعين بين أهل الجنة وأهل النار. وقد يتصل الأحياء بالأموات من خلال إتيان الأموات إلى الأحياء أثناء الحلم ليعطوا إشارات خاطفة متقطعة عن واقعهم.
لطفي لا يُحاكِم مصطفى محمود ولا يحاوره، ولا يقدم سيرة تحولات مؤلف "حوار مع صديقي الملحد" بضمير الغائب وإنما بضمير المتكلم، ولا يستعين بالخيال الأدبي في رحلته المألوفة للعالم الآخر، ولم يستخدم تقنية سرد الأحلام المألوفة للوصل بين عالمين أو زمنين؛ دنيا وآخرة أو ماضٍ وحاضر، إنما تختار روح مصطفى محمود وائلًا ليكون المؤلف الذي يكتب سيرة تحولاته في طقس من طقوس الاعتراف الكنسي، التي تمثل مرجعية فلسفية لكتابة السيرة الذاتية منذ القديس أوغسطين.
لذلك كانت تجربته جمعًا بين متناقضين: كتابة الذات على لسان مؤلف آخر. وعلى القارئ للكتاب في عام 2023 أن يكون شاهدًا على تلك الصياغة السردية متواطئًا مع لعبة المؤلف لتفكيك خطاب مصطفى محمود استنادًا لإنطاقه بتناقضاته التي جمعها بدقة من أرشيف الصحافة ومن كتابات محمود نفسه عبر مراحل مختلفة من حياته.
الكذبة والصراع والبطل
"إنكم الآن في عام 2022، وأنا أكتب لكم من العالم الآخر-على لسان المؤلف- وأعترف أن ما قلته أكاذيب".
على الرغم من أن الأكاذيب المقصودة في هذه العبارة هو ادعاء مصطفى محمود أن السد العالي أضرّ بمصر، فإن مجيئها بعد مرور ثلثي الكتاب، لتحديد شكل العلاقة بين السارد/ المؤلف والمسرودة سيرته بضمير المتكلم مؤشرٌ على ثمة تواطؤ على توظيف الكذبة المؤطرة للأكاذيب والوقائع الواردة في آن.
ويبدو أن هذه الكذبة/ الإطار التي خطط لها السارد بغرض إساءة تمثيل الشخصية المُختارة، لم تخدم غايات السارد بقدر ما ضخت دماء بطولة في شخصية تتسم بالتناقضات.
فمبعث البطولة إبراز التناقض باعتباره جوهر الإنسان. ومن هنا، يكون الإعجاب في المجتمع بشكل عام وفي مجتمع القراء بالشخصيات المتناقضة أكثر من تلك شديدة الانسجام وشديدة الثبات على صورة واحدة من صورها المحتملة. لكن كشف التناقضات يكون كشفًا لجوهر الإنسان وبه يحدث التعاطف مع القارئ لو قام به الشخص بنفسه، أما عندما يقوم آخر بذلك الدور نيابة عنه بعد رحيله، فإن النتيجة تكون غير مضمونة لأنها ستتوقف على الصورة الكلية التي سيخرج بها القارئ من عملية التمثيل أو بالأحرى إساءة التمثيل التي تمت في هذا الكتاب.
سيرة مصطفى محمود برواية وائل لطفي سيرة شخص غير عادي لأنه منذ طفولته تميز بالذكاء الذي يصل لحدود العبقرية، لكنها عبقرية الفنانين الذين يحتاجون لمن يقدرهم ويثني عليهم حتى تهدأ نفوسهم وعقولهم فيكونوا مفيدين. أما عندما يغيب التقدير أو يتأخر، فشطحاتهم تصل بهم إلى خرق كل مؤلف ليلتفت لهم من بيدهم أن يقدروهم ويمهدوا الطريق أمامهم ليكونوا نجوم المجتمع.
ومع ذلك، ومن المهم أن نلحظ أن الشطحات نفسها تكون عادة متأثرة بالسياق الثقافي والسياسي الذي يعيش فيه هؤلاء الفنانون العباقرة؛ فتقديم مصطفى محمود لكتاب "الله والإنسان" ناتج عن تصور لديه أن السياق يسمح بطرح أفكار الملحدين حتى لو كانت على سبيل الشطحات الفردية، وأن الشطح سوف يجعل ذلك الفرد نجمًا تغض الدولة الطرف عن نجوميته. لكن السياسي المحنك محمد حسنين هيكل يوقف مسار عملية التنجيم المحتملة لمصطفى محمود باعتباره ملحدًا في سياق اشتراكي، فتتم مصادرة الكتاب بمحاكمة سرية، بل يُعلم محمودًا درسًا للمستقبل وهو أن الدولة لا يمكنها أن تدفع ثمن شطحاتنا.
خلطة العلم والإيمان
الصراع الداخلي بين الرغبة الجامحة في الشطح والنجومية، وضرورة التقيد بالسياق الثقافي والسياسي وقراءة الحسابات المعقدة دوليًا ومحليًا بدقة هو التفسير الأدق لسيرة تحولات محمود برواية لطفي، التي يلتقط فيها الأولُ من كتابات طه حسين وعباس العقاد الإسلامية بدايةَ الخيط ويضفره بواقع سياسي يُفضي لنكسة 1967، فيحوّل اتجاه توظيف معارفه ومهاراته اللغوية إلى معاداة الناصرية بعد موت ناصر، فيتلاقى مع أنور السادات فكريًا ونفسيًا بعد أن وجد منه التقدير لكتابه"نحو فهم عصري للقرآن".
اقترن عقل مصطفى محمود بعقل السادات لمحو صورة عبد الناصر والاشتراكية من عقول المصريين، ونتج عن تلك الخلطة التي أنتجاها معًا وهي "العلم والإيمان" لتغيير المجتمع باتجاه دولة مؤمنة ومنبهرة في الوقت نفسه بعلم الغرب. لكن مع جعل القرآن معيًارا للحكم على الحقائق العلمية.
هاجم إسلاميون كثيرون أفكار مصطفى محمود وهو نجم عصر السادات، منهم الشيخ عبد الحميد كشك أهم نجوم الخطابة في ذلك العصر والدكتورة عائشة عبد الرحمن، أول امرأة تحاضر بالأزهر الشريف، كما استفاد آخرون من أفكاره عن العلم والإيمان وخرج من عباءته زغلول النجار وغيره، رغم انتقاد بنت الشاطئ لذلك التوجه الذي يضر بالقرآن والعلم في آن.
ومع ذلك، فإن بناء السياق وشبكة العلاقات بين شخصية مصطفى محمود ومنافسيه من ناحية والمعجبين به من ناحية ثانية قد أدى إلى تقديم اعترافين لمصطفى محمود وفق تمثيل وائل لطفي له، لكني أعتقد أن أحد الاعترافين مقنع للقارئ، أما الاعتراف الثاني فهو غير مقنع؛ فمن الطبيعي أن يعترف محمود أن السادات أقرب إليه من الإخوان، وأنه تمنّى لو لم يخرجهم من السجون وأن يكتفي به نجمًا وحيدًا يصنع معه دولة "العلم والإيمان" ليورثها لخلفه حسني مبارك فتستمر نجوميته دون تنغيص يساري أو سلفي.
لكن الاعتراف غير المقنع بحسب منطق السرد القصصي لتلك التحولات هو أن نرى مصطفى محمود في نهاية الكتاب يعترف بأنه نشر ثقافة التخلف بمزجه بين العلم والخرافة. وأعتقد أن ذلك التحول انتصار سهل على مؤلف "العنكبوت" يتم فقط في ساحة السرد لأنه لا يزال يستحوذ على دور البطولة في الثقافة المصرية.