أتذكر جيدًا أول معرفتي بمحمد أبو الغيط، بعد انتشار تدوينته الفقراء أولًا يا ولاد الكلب في أوج أيام الثورة. أتذكر متابعة حديثه التليفزيوني حين استضافه خالد عز العرب على قناة بي بي سي عربي. لم أجد رابطًا للحلقة ولكنني أتذكر طلّته بوضوح كأنها حدثت بالأمس. أتذكر أيام الثورة كلها كأنها حدثت بالأمس.
أتابع منذ ذلك الحين ذلك الشاب الذكي المجتهد المرهف، ونجمه يصعد كصحفي استقصائي لامع يكتب بلغة شاعر. أتابعه كخير من يكتبني. أعرفه شخصيًا طبعًا، لأننا -رفاق الثورة- كنا جميعًا أصدقاء. لم نتحدث طويلًا أبداً، ولكني أفكر فيه دومًا كصديق قريب، ليس فقط لأنه خير من يكتبني، ولكن كأنما خيط مدّ بيننا صداقة عميقة من خلال صديق مشترك: عبد الرحمن.
عبد الرحمن.. والأمل
التقيت عبد الرحمن للمرة الأولى يوم أحداث الاتحادية منذ عشرة أعوام كاملة. كنت مختبئة في بيت مي شكري المطل على شارع الخليفة المأمون حين هاتفها أحمد صالح يستأذن للانضمام إلينا ومعه صديق. جاء صالح ومعه ذلك الشاب الهادئ. كنا نتابع الأخبار بأعصاب تحترق، بينما وقف الشاب خارج غرفة الجلوس يتحدث عبر الموبايل.
لاحظت مي صدى صوت الضيف الذي يأتينا من الشاشة فقالت "مش يوطي التليفزيون!". مرت لحظات قبل أن ندرك أن صدى الصوت يأتي من خارج غرفة الجلوس. كان الشاب نفسه هو الضيف صاحب المداخلة التي تأتينا عبر الشاشة: عبد الرحمن منصور.
بينما اختفى صالح وانقطعت أخباره عني تمامًا، نشأت صداقة صلبة بيني وبين عبد الرحمن. شيء فيه يجعلك تألفه سريعًا. ربما هو وجهه الطيب وعيناه الذكيتان، أو كونه جادًا وبشوشًا، وخجولًا وودودًا، وكريمًا جدًا لا يتردد في مساعدة أحد.
تعمقت صداقتنا في الشتات. حين انتشلته يد إلهية وخرج من مصر في أغسطس/ آب 2013، توزعت حياته بين المنافي في بريطانيا والولايات المتحدة، حتى انتقل إلى نيويورك في صيف 2017. في ذلك الصيف، كنت أنا أيضًا في الولايات المتحدة؛ وكانت حياتي مقلوبة رأسًا على عقب.
كان عبد الرحمن موجودًا دائمًا، ثابت التفاؤل وثابت الدعم لكل الأصدقاء. وكان وجوده وتفاؤله مبعث أمان شخصي لي في ذلك الحين.
وقتها نشر أبو الغيط وعبد الرحمن مقالهما المشترك أمل بلا أوهام في جزأين، مختتمين تشريحًا رائعًا للوضع السياسي في مصر بقول "لم ننتصر ولم ينتصروا ولم يُهزم الأمل".
تحدثنا كثيرًا، أنا وعبد الرحمن، عن ذلك المقال. فمن ناحية كنتُ مبهورة بذلك التفاؤل والتشبث بالأمل، ومن ناحية أخرى لم أكف عن التندر على ذات التشبث العبثي بالأمل كلما أتتنا أخبار الصباح من مصر قبيل انتخابات الرئاسة في عام 2018. أنكز عبد الرحمن بعد خبر القبض على سامي عنان، أو ضرب هشام جنينة قائلة "آدي مرشح الدولاب بتاع الأمل أهو!".
في الشهور التالية خُيل لي أن عبد الرحمن رويدًا رويدًا يتوب عن الأمل، وينشغل أكثر بحياته الشخصية، بسلامته، بطموحه، وبمستقبله البعيد عن مصر.
في صيف 2021، كانت حياة عبد الرحمن هي المقلوبة رأسًا على عقب. هالني انهياره، واقترحت عليه أن يلتمس صحبة يمكن أن تربط على قلبه وتوفر له الود والفهم والأمان "إيه رأيك مثلًا تروح لندن شوية تقضي وقت مع أبو الغيط وعيلته". يومها قال إنه سيذهب بالفعل، وبأسرع وقت، لكن لأسباب أخرى. صفعني بالحقيقة المروعة: تشخيص أبو الغيط، ذي الثلاثة وثلاثين ربيعًا، والذي لا تاريخ للمرض في عائلته، بسرطان المعدة.
على مدى عام ونصف، ذهب عبد الرحمن إلى لندن، كما عَرج أبو الغيط على الولايات المتحدة مطاردًا محاولات العلاج؛ متشبثين ببعضهما البعض، وبالأمل.
يوم 1 ديسمبر/ كانون الأول 2022، كتب عبد الرحمن "ونبقى رفيقين دوما" إلى جوار صورتهما معًا. ففهمت ما هو آت دون حاجة للأسئلة.
محمد أبو الغيط.. بعضٌ منا
تتصدر حساب أبو الغيط على فيسبوك صورة جماعية عنوانها "اللمة"؛ فيها يتوسط أبو الغيط بابتسامة عريضة مجموعة من رفاق الثورة والفكرة والشتات. هؤلاء قبس من الضوء الذي وصفه بأنه يشع من الأرواح الطيبة. "أحب أن أكون على مقربة من هؤلاء، بينما أهرب من ذوي الأرواح المظلمة والقلوب الغليظة"، يقول محمد.
يصف بسام مرتضى كيف تربكه تلك الصورة، التي جمعت أصدقاءً لبلال فضل في وداعه قبيل خروجه مهاجرًا من مصر، قبل ما يناهز عشرة أعوام، لأن معظم من بها خرجوا أيضًا، فصارت تلك "اللمة" بعيدة المنال.
في عام 2019، حين فاز أبو الغيط بجائزة رابطة مراسلي الأمم المتحدة التي سلمها له أمينها العام، لم يقل الكثير عن موضوعه الذي حصد الجائزة، ولا عن إنجازه الشخصي، بل حكى عن مصر وعن أصدقائه. كان يتمنى أن يحكي عن بلده "قصصًا مختلفة، قصصًا أسعد". كان يتمنى لو يمكنه "العودة من نيويورك إلى القاهرة مباشرة للاحتفال مع الأصدقاء".
في نعيه لأبو الغيط، يصف كريم عنارة كيف فقد قدرته على الحكي، وكيف فشل، على العكس من أبو الغيط، في "استخراج المعنى من الألم والخسارة".
أفهم جيدًا ما يشعر به كريم. في الصيف الماضي، حين سُئلت "أخبار الرواية إيه؟" أجبت بأني تقريبًا لا أكتب أي شيء، وبأنني أشعر وكأن ليس لدي ما أحكيه. أنا معظم الوقت صامتة. تمر أيام كاملة دون حديث ذي معنى مع أي شخص. أنا مشغولة دومًا، ومنهكة جدًا، ووحيدة تمامًا.
في الشتاء الماضي، قلت لعبد الرحمن إن درس الجائحة الأكبر هو أن الوحدة ليست فحسب الثمن الذي ندفعه للهزيمة والشتات، بل هي الحقيقة الأولى للحياة والموت. الجائحة جسدت المعنى القرآني "وكل آتيه يوم القيامة فردًا".
لكن لا أحد يريد أن يكون وحيدًا.
في نعيه لأبو الغيط، يقول أحمد سمير "لم أسافر كي لا أبقى وحيدًا، لكنني أقف الآن وحيدًا". أفهم جيداً ذلك الشعور، وإن كنت أعايشه عبر الضفة الأخرى. فأنا مثل أحمد، أقف الآن وحيدة، لكن بين الكثير من حقائب السفر.
أنا وحديقة محمد ومعدته.. وكل الأشياء المبتورة
منذ المذبحة وتوالي الانفجارات وأنا أحاول لملمة شظايا حياتي. أيامي مبعثرة بين أربع دول. أمتلك كارت إقامة حيث لا أسكن. أحتفظ بمنزل في مدينة غير تلك التي أعمل بها. ولا تزال تطاردني أشباح الوطن.
أناور الأرق كل ليلة لأحصل على قسط كاف من نوم، حتى أصارع اليوم التالي. أصحو فلا أتبين هل أصبحت في القاهرة، أم نيويورك أم عمّان أم بغداد، أم أني في زيارة قصيرة لمدينة أخرى؟
أتندر مع الأصدقاء "أنا زي الطير ما تعود عشه.. يوم في عشه ويوم في الطير". لكن الدعابة لا تسعفني حين يأتيني السؤال بالإنجليزية "?and where is home". لا أتوقع من السائل أن يفهم لا الدعابة ولا المأساة، ولا لماذا أنشغل عن كل ما حولي بمتابعة الحالة الصحية لمحمد أبو الغيط.
يقول المثل الإغريقي "الحجر المتحرك لا ينبت العشب". منذ غادرت القاهرة قبل ما يزيد عن سبعة أعوام، وأنا الحجر المتحرك. تستهويني فكرة غرس شجرة في مكان ما، والمكوث في كنفها لمتابعتها وهي تنمو وتثمر. منذ الهجرة الأولى واليتم الثاني أشعر أني حرفيًا "مقطوعة من شجرة". لم تفلح محاولاتي المتفرقة مع الزرع، ولا محاولاتي المتتالية لمدّ جذور في أي من أماكن الشتات.. أنا الحجر المتحرك فحسب.
أشاهد صور محمد بين ثمار أشجار حديقته التي غرسها في المنفى، وأبتسم. كيف يستغرق في العناية بحديقته وهو يعي أن أيامه صارت معدودة؟ يربط الزراعة بالسرطان بالتغير المناخي بذكرياته مع جده في قريته البعيدة. هو كعهدي به: خير من يكتبني، صحفي استقصائي لامع يكتب بلغة شاعر.
"صاحبت ألمي حتى كدت أنساه، لكن الألم كالسرطان غدار"، يقول محمد.
أعرف ما يعنيه حين يحكي عن تشبث عبثي بروتين ما، والمتعة التي يجدها في أمور يومية تبدو تافهة. أتشبث في حياتي بالكثير من الروتين التافه الذي يمنحني قبسًا من الاطمئنان.. نَذرًا من أمان مفقود.
لكن شيئًا مبتور في روحي، بجرح لا يندمل. كأنما الحياة نفسها مبتورة كما كل الأشياء المبتورة فعلًا ومجازًا: معدة محمد وقدرته على التمتع بالطعام، وجوده على هذه الأرض ليلتقط صورًا جديدة محتضنًا إسراء ويحيى مبتسمًا بين ثمار زرعه، رغبته في زيارة القاهرة لتوقيع كتابه والاحتفال مع الأصدقاء، صباحاتنا القاهرية الودودة، جلساتنا الضاحكة في مقاهي وسط البلد قبل المذبحة، "اللمّة" سواء كانت في الميدان أو في مطبخ المبادرة المصرية أو في مطبخ جدتي، الأيام الملحمية للثورة، والأيام العادية التي كانت دافئة وحنونة، قصص الحب التي تنتهي فجأة، كل الأساطير التي آمنا بها ثم فوجئنا بأنها سراب، كل الأحلام التي استفقنا في منتصفها، والتي لا تكتمل مهما حاولنا إطباق الأجفان عليها بشدة لاستعادة آخر مشهد.. والأمل الذي خذلنا مرة تلو الأخرى.
خبّرنا محمد...وهو ذاهب نحو الضوء
عقب رحيل محمد بأيام، شاهدت تقريرًا إخباريًا حول الطفلة أليسا بعنوان "أمل لمرضى سرطان الدم.. أليسا شفيت بعلاج بريطاني جديد". صارعت أليسا سرطان الدم الشرس على مدار عام ونصف في مستشفى بلندن، مثل محمد، وفشلت معها تجارب العلاج الكيماوي، مثل محمد، بل وفشل أيضًا زرع النخاع، إلى أن شاركت في تجربة سريرية لعلاج جديد، وحدثت المعجزة.
إذن كان هناك أمل فعلًا يا محمد...كان هناك أمل.
أسعد من أجل أليسا التي سيمكنها الاحتفال بعيد ميلادها الثالث عشر في صحة جيدة وبحياة شبه طبيعية.
"كل يوم من المعافاة هو إنجاز عظيم"، يقول محمد. يخبرنا أن نقتنص لحظات السعادة في الأيام العادية. أحاول ذلك كل يوم، رغم وطأة تركة الألم وتواتر نوبات البكاء.
أتابع نهائي كأس العالم بشغف. أشاهد ميسي وهو يحمل الكأس، أخيرًا. تحقق حلمه بعد صبر السنين والكثير من الدراما. توجت الأرجنتين بطلة للعالم بعد ستة وثلاثين عامًا من المحاولة. انتصر الأمل.
"أنا متشبث جدًا جدًا بالحياة لآخر نَفَس، وأبذل كل ما يمكن للوصول لأفضل خطوات علاجية ومساعدة ممكنة"، يقول محمد.
يخبرنا محمد أن المعركة الكبرى هي المحاولة، أن نظل مؤمنين بالمعجزات رغم ندرتها، أن نبتسم في وجه القسوة، أن نُصدق في احتمالات الانتصار برغم كل الهزائم، أن نضحك رغم المرارة والخيبات، وأن نقتفي أثر الأمل وهو يحدونا كأنه ما خذلنا ولا خذل محمد أبو الغيط المرة تلو الأخرى.