تفتَّح وعينا على اقتران كلمة شتات بالشعب الفلسطيني أو الأرمني أو الكردي. وحتى وقت قريب لم نعرف الشتات مقترنًا سوى بالأحداث التاريخية الكبرى التي أدت إلى اغتراب شعوب بأكملها عن أوطانها، وتفرقها في بقاع الأرض.
بليغة هذه الكلمة، الشتات. لفظ يستحضر في الذهن صورة من نتف شعوب تناثرت وتوزعت واستقرت كتراب مبعثر في كل مكان. حتى في معناها بالإنجليزية، diaspora، يوحي لي بمعنى ضياع الوجهة وغياب المستقر. ومن تنطبق عليهم تلك الصفة كمن يعيشون في الليمبو/limbo بكل ما تحمله الكلمة من معنى لضياع الروح بين عالمين.
في أقل من عشر سنوات، انضمت قوافل من شعوب منطقتنا العربية إلى الشتات الذي لم يعد صفة تقترن بأهلنا من فلسطين. أدركنا أن فعل التشتيت لا يقتصر فقط على عدو أجنبي محتل. ورأينا كيف تتحول أنظمتنا إلى عدو داخلي صريح قادر على فعل ما لا يقوى "العدو الأجنبي" على فعله.
لم نكن نتصور أن تصبح الصفة مرادفًا للحكي عن السوريين، الذين أصبحوا يشكلون اليوم عشرة بالمئة من مجموع عدد اللاجئيين، بحوالي تسعة ملايين حول العالم بحسب تقارير الأمم المتحدة. هذا بالإضافة إلى حركة النزوح إلى مخيمات اللجوء الحدودية مع الدول المجاورة هربًا من براميل النظام الأسدي ونيرانه.
يستخدم مصطلح "الحرب السورية" في الحديث عن الحاضر السوري اليوم وكأنه صراع بين طرفين متساويين في القوة والنفوذ، بين نظام بكل مؤسساته وجيشه وعتاده ومجموعة من "الأشرار"، بهدف التعمية على حرب الإبادة الممنهجة التي يقودها النظام بآلة حرب روسية متطورة، من أجل تغيير ديموغرافيّة المنطقة، وتكريس الحدود الطائفية والسياسية بين أبناء الشعب الواحد.
ولا يقتصر شتاتنا العربي فقط على السوريين، بل يمتد أيضًا إلى الليبيين واليمنيين واللبنانيين، سواء كان من خلال الهجرات التاريخية الكبرى للشعب اللبناني، أو بسبب حروب ومصالح الدول الكبرى في المنطقة.
لكن ما يصعب عليّ استيعابه، هو إطلاق صفة الشتات اليوم على الشعب المصري. فالمصطلح بات يتداول مؤخرًا في وصف حال المصريين، وحركة الهجرة لفئة شابة لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين سنة، باتوا موزعين في شتات الأرض هربًا من حرب داخلية لا تقل قسوتها عن سقوط الصورايخ والبراميل. بل ربما تكون أشد وقعًا لأنها حرب صامتة، تدور في عتمة السجون وأقبية الاحتجاز والتعذيب. حرب لا تنقلها كاميرات التليفزيون.
غياب الإحصائيات الرسمية والأرقام التي توثق لحجم الهجرة القسرية هذه، لا ينفي واقع آلاف المصريين الذين هم بحكم المنفيين من بلدهم، غير قادرين على العودة. وإن جازفوا، فالسجن والتنكيل بانتظارهم. آلاف غادروا، وغيرهم أعداد مضاعفة يسعون للرحيل ويتحينون فرصهُ.
جمعني منذ أيام، لقاء افتراضي مع مجموعة من الشباب المصري في الشتات للحديث عن وجع التجارب الشخصية قبل قرار المغادرة، وما يواجهونه من صعاب بعدها. جميعهم دون استثناء عاشوا تجربة السجن، بعضهم كانوا مراهقين قضوا ما يزيد على سبع سنوات وخرجوا شبانًا أكل السجن عمرهم. البعض الآخر هارب من أحكام تصل إلى المؤبد لمشاركتهم بتظاهرات أو للتعبير عن آرائهم التي لا تتماشى مع هوى النظام وفلسفة القمع التي تطبع سياساته.
وما بين الحنين إلى الوطن والتكيف مع المجتمعات الجديدة وكل مفردات الاغتراب والغربة، تترواح معاناتهم. فهو ليس شتاتًا في المكان فقط، بل شتات على مستوى الشعور. وكأن عمرًا بكل أحلامه وآماله بعثرته عبثية الأقدار. كان اللقاء محاولة للملمة ذلك الشتات وضبطه بآليات للتواصل وخلق مساحة يمكن "بناء الأمل" عليها.
بناء الأمل عنوان أكبر من الواقع، ولذا هو أمل. حتى لو لم تتوافر معطياته في الوقت الحالي، فهو منطلق لتصور مستقبل يستطيع فيه هذا الشتات خلق بنيان متماسك يتفق على الأهداف الكبيرة حتى لو اختلفت طرق تحقيقه، ويسعى لتحقيق الخلاص.
حرب لا صواريخ فيها، لكنها تقضي على جيل كامل وتحرمه من العيش بكرامة في وطنه، يمارس حقه في التعبير والاعتراض على مسارات تحددها جهة واحدة، وعلى الجميع اتباعها دون حياد، وإلا فالسجن والتعذيب والقتل بالانتظار.
جميع من قابلتهم من المصريين الذين غادروا في السنوات الأخيرة، حققوا إنجازات لن يكفي هذا المقال للحديث عنها. نماذج مشرفة استطاعت حقًا أن تجترح المعجزات وتجد لنفسها مكانًا على خارطة أحداث العالم، وفي قلبها. وربما يكفي أن نذكر مثال صديقنا العزيز محمد أبو الغيط، الذي غادرنا قريبًا تاركًا وراءه في سنوات عمره القليلة إرثًا من المعرفة والتحقق في أكثر الظروف صعوبة.
طوابير طويلة من الشباب المصري على خطى أبو الغيط. ربما كان الانسلاخ عن الوطن دافعهم للبحث عن بدائل في بلاد حتى وإن قست عليهم لكنها وفرت لهم فرص التعلم واكتساب الخبرات ومراكمتها. يعالجون جراحهم وفقدان دفء عائلاتهم بالتسامي عليها، لأنهم ببساطة لا يمتلكون رفاهية الاستسلام.
محامون ومهندسون، فنانون وكتاب وصحفيون، وغيرهم كثرٌ. صاروا اليوم مجتمعًا موازيًا يحاول لملمة شتاته، يتبادلون الخبرات مع شعوب سبقتهم في التجربة، على سبيل تنظيم الذات في مؤسسات مدنية تحاول مد يد العون لاستكشاف الطريق الجديد ومأسسة الشتات وتنظيمه في قنوات تستوعب كل هذه الطاقات التي كان سيستفيد بها الوطن. تمامًا كما فعل العراقيون قبل ثلاثة عقود في موجة هجرتهم الأولى من أتون صدام حسين، وكما يفعل السوريون والأفغانيون والإيرانيون.
قد يبدو أن مأسسة الشتات فعل مخيف لأنه يكرس الحالة، ويعطيها كيانًا يعبِّر عنها. لكنه واقع الأمر، وعلينا التعامل معه على هذا النحو. فرصة جديدة لاختبار قدرات جديدة وتعزيز ما نملكه. جهد قد يتطلب سنوات طويلة، وربما عقود، لكن التاريخ علمنا أن التغيير فعل تراكمي. ولا بد بحسبة رياضية بسيطة أن تتغير المعادلة، ولو بعد حين.
وأنا أتماهى مع أحلام هؤلاء الشباب وخيباتهم، أدرك أن الغد لهم، وأن تجربتهم أغنى بكثير من تجربة أبناء جيلي. تجربة أنتج منها الألم عقولًا قادرة على التفكير خارج الأطر المعدة سلفًا، وكأن فعل الولادة الجديدة كان يستحق هذا المخاض.
أرى شبابًا وشابات لم تكسرهم تجربة السجن والإقصاء، بل أوجعتهم وأنضجتهم قبل الأوان كالمعادن الثمينة، يصقلها الضغط وتعيد النار تشكيل شخصياتهم وحيواتهم. ولا بد من يوم يضيئون فيه الطريق لغيرهم، طريق معبد بالنور وبالتضحيات العظيمة.