قبل ثلاثة أشهر، أطلق النائب السابق محمد أنور السادات مبادرة عُرفت إعلاميًا باسم مبادرة "العودة الآمنة"؛ تدعو لتسهيل عودة المعارضين المصريين المقيمين في الخارج، من غير المتورطين في قضايا عنف، إلى مصر.
وطالب السادات، وهو رئيس حزب الإصلاح والتنمية ونائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، بضرورة وجود آلية واضحة تطمئن الراغبين في العودة من أنهم لن يُقبض عليهم فور وصولهم على خلفية مواقفهم المعارضة التي عبَّروا عنها سواء على السوشيال ميديا أو في أي سياق آخر.
رغم النوايا الطيبة، لم تُفعَّل هذه المبادرة. وقرأنا في المواقع عن عودة اثنين أو ثلاثة فقط من المعارضين المعروفين. وعندما حدث ذلك، تلقيت اتصالات عدة من زميلات وزملاء في الخارج يؤكدون رغبتهم في العودة لمصر ويسألون ما إذا كان بإمكانهم الاستفادة من هذه المبادرة.
للأسف لم تكن هناك أي وسيلة سوى إبلاغ أسماء هؤلاء للجهات الأمنية المعنية، وكذلك للجنة العفو التي تشكلت في أعقاب إطلاق الحوار الوطني بقرار من رئيس الجمهورية. ولكن سرعان ما توارت المبادرة ولم يتم تفعيلها عبر آلية واضحة وموثوقة يطمئن لها من يرغبون في العودة. لكن المبادرة عادت لتتصدر الحديث بقوة إثر وفاة الزميل الشاب محمد أبو الغيط في لندن، التي خلفت الكثير من الحزن والألم لدى محبيه، وغالبيتهم من الشباب الذين برزت أسماؤهم في أعقاب ثورة 25 يناير.
كان أبو الغيط، الذي رحل عن عالمنا في سن الرابعة والثلاثين، في مطلع العشرينيات عندما شارك في ثورة يناير مؤمنًا بأنها تحمل أملًا في مستقبل يختلف عن الواقع الزائف الذي عشناه، يمكِّنه من ممارسة مهنة الصحافة التي أحبها وترك من أجلها مهنة الطب رغم السنوات الطويلة التي قضاها في دراستها.
كان صحفيًا استقصائيًا استثنائيًا، لا يكتفي بالتعبير عن موقف سياسي وانحياز واضح للديمقراطية وحقوق المواطنين من الفقراء، ولكن يرفق كل كلمة يقولها بمصدر ورقم دقيق يدعم حجته. كل هذا جعل من أبو الغيط ممثلًا لجيل كامل أرهقه فقدان الأمل، كما أرهقته الغربة والمخاوف من سنوات طويلة في السجن لا تنتهي، لأتفه الأسباب، وغالبًا بسبب كلمات وآراء يتم التعبير عنها في عالم السوشيال ميديا المزدحم.
زادت حقيقة أنه لم يدفن في بلده ووسط وأهله من ألم فقدانه. وكانت أكثر الصور إيلامًا بالنسبة لي صورة قبره في مدافن المسلمين على أطراف لندن الباردة الضبابية. قبر على الطريقة الصحراوية، حفرة مكومة فوقها الحجارة، وليس مدفنًا تقليديًا كالذي نعرفه في مصر. صحيح أن الميت لا يشعر بشيء بعد رحيله، ولكن وأنا حي أتمنى أن يحتضنني تراب بلدي بعد وفاتي لتختلط عظامي بترابه.
لا يوجد موقف رسمي من أبو الغيط شخصيًا، رغم كل ما هو معروف عن انتماء أسرته التاريخي لجماعة الإخوان. كما أن حماه ما زال محبوسًا احتياطيًا حتى الآن رغم أن محكمة النقض سبق وأن قضت ببراءته من اتهامات وجهت له بالمشاركة في الاضطرابات التي تلت عزل الرئيس الراحل محمد مرسي عام 2013.
تم استقبال محمد بحب وحفاوة وتعاطف مستحقين في حفل تكريمه في منتدى مصر للإعلام، والذي يبدو كان يعلم جيدًا أن ظهوره سيكون الأخير وهو على قيد الحياة بعدما تمكن منه المرض تمامًا. حاول المنظمون إثناءه عن الظهور على سرير المرض، ولكنه أصر أن يطل علينا في صورته الأخيرة بعدما برزت عظام وجهه وفقد كل وزنه تقريبًا وقدرته على تناول الطعام. كان حريصًا على أن يقول كلماته الأخيرة ويترك أثرًا.
كنا نعيش معه عبر كتاباته على فيسبوك تطورات مرضه يومًا بيوم، وكانت مجرد القراءة تثير الألم، خاصة أنه كان على دراية بتفاصيل مرضه كطبيب سابق. كان حالة استثنائية بين المعارضين المصريين في الخارج، فمقاومته العنيدة لمرض السرطان وتمسكه بأسرته وحزنه لمفارقة ابنه يحيى وزوجته الشابة إسراء بعدما تمكنا سويًا من بناء أسرة صغيرة سعيدة رغم كل المصاعب والهموم، كل ذلك زاد كثيرًا من حجم الألم والحزن لفراقه.
ولكن المرارة تتواصل بعد وفاة أبو الغيط باستمرار اغتراب أعداد غير مسبوقة من المصريين. بتنا نسمع بصورة متكررة عن مآسٍ إنسانية عدة يعيشونها، ليس لأنهم متهمين بالفعل أو مطلوبين قضائيًا، ولكن فقط لأنهم غير متيقنين إذا ما كان السجن سيكون مصيرهم فور عودتهم. وحتى من صدرت بحقهم أحكام قضائية مشددة غيابيًا، فهم يستحقون أيضًا إعادة محاكمة عادلة وفقًا للقانون.
فلكل كلمة الآن عواقبها مهما كان يراها صاحبها عادية ومشروعة وتقع تحت إطار الحق في حرية الرأي والتعبير الذي يضمنه الدستور والقانون.
لا شيء يعادل قسوة عدم القدرة على العودة للوطن لتكون بجوار أحبابك في أفراحهم وأحزانهم، وخصوصًا في أحزانهم. يصيب المغترب الكمد ويشعر بغُصة في قلبه لا تنمحي عندما يرقد أحباءه على سرير المرض ولا يستطيع أن يكون بجوارهم. أو عندما يحين قدرهم فلا يستطيع أن يصلي عليهم ويودعهم إلى قبرهم. يلوم المغترب نفسه ويلعن اختياراته ويكره حياته ويتعمق لديه الشعور بالظلم الذي لا يستطيع القيام بشيء حياله.
نعم كان دائمًا هناك معارضون في الخارج، سواء من الإخوان في زمن عبد الناصر، أو من القوميين واليساريين في أزمنة السادات ومبارك. ولكن لم يسبق أن بلغت أعداد المبعدين ما هي عليه الآن، كما لم يسبق أن كان هناك كل هذا العدد ممن يحلمون ويتطلعون للمغادرة لقناعتهم أنه لم يعد هناك مجال لأي صوت مخالف أو مستقل. فلكل كلمة الآن عواقبها مهما كان يراها صاحبها عادية ومشروعة وتقع تحت إطار الحق في حرية الرأي والتعبير الذي يضمنه الدستور والقانون.
إعادة إطلاق مبادرة "العودة الآمنة" بآلية واضحة، وفتح المجال أمام كل من يرغب في العودة في الاستفسار عن إمكانية عودته دون ملاحقة، أمر عاجل ومُلح وسيضفي مصداقية حقيقية على مشروع الحوار الوطني الذي من المتوقع أن يتم إطلاقه رسميًا في وقت قريب.
لا نحتاج مبادرة تسمح بعودة واحد أو اثنين أو خمسة. نريد مبادرة يعود بمقتضاها المئات إلى أرض وطنهم الذي ينتمون إليه ويحبونه، ولتكن هذه البداية الحقيقية لخلق مصداقية للحوار وجعل الجميع يصدقون أن هذا الوطن بالفعل يتسع للجميع.
هذه الخطوة العملية، والتوقف عن إلقاء القبض على المواطنين بسبب آراء يكتبونها على السوشيال ميديا، وإخلاء سبيل كل المحبوسين على ذمة قضايا رأي على مدى السنوات والشهور الماضية، هو ما نحتاجه لكي نشعر بالفعل أننا طوينا حقبة مؤلمة وفتحنا صفحة جديدة.
نريد أن نشعر أننا نعيش في وطن رحيم، يحترم كرامة الإنسان ولا يحرمه من بلده لمجرد اختلاف آرائه عن السائد. هذه هي الهدية الحقيقية لروح الصديق والزميل العزيز أبو الغيط. وبدلًا من أن تكون المبادرة عنوانها "العودة الآمنة" يمكن أن تحمل عنوان "مبادرة محمد أبو الغيط لعودة المصريين إلى وطنهم".
رحمك الله يا أبو يحيى، ولأسرتك وكل أحبائك الصبر والسلوان.