ثمانية وأربعون ساعة أمام الكمبيوتر. أصحو وأنام، أكتب وأمحو، دون أن أتمكن من إكمال عبارة واحدة. لا أرغب في كتابة تأبين أو تعداد مناقب محمد أبو الغيط. ذكر أصدقاؤه، ولست أقربهم، الكثير منها. وتحدث كثيرون ممن عملوا معه عن جوانب من شخصيته أكثر عمقًا مما يمكن أن أحيط به. لكنني في الوقت ذاته لا أستطيع أن أتجاوز رحيلًا متوقعًا ومفاجئًا.
متوقع لأسباب كان يعلمها كطبيب وباحث. ذكرها لأصدقائه وأفاض فيها في كتاباته.
ومفاجئ لأنني، اعتمادًا على الحدس، كنت أراها استحالة. لا يمكن أن يرحل أبوالغيط. لا يبدو هذا مناسبًا، أو عادلًا، أو مقبولًا.
(حسنًا.. تمكنت من كتابة بضعة أسطر هذه المرة.. بداية مبشرة.. سأتابع وربما يكون هذا بالفعل هو المقال).
من يحرق النجوم؟
قبل رحيله بأيام كنت أتحدث مع صديق عن موضوعات عدة خارج حدود المألوف. كان من المؤمنين بوجود اتصال قديم بين سكان الأرض وكائنات فضائية أكثر تقدمًا. ينتشرون بيننا منذ قرون، ويضبطون تقدم الكوكب. في أوقات معلومة يسمحون لنا بتطور محسوب ينقلنا من مرحلة إلى أخرى. لو تبين لهم أننا على وشك الوصول إلى اختراع يمكن أن يقفز بنا أبعد مما قدروا، يتدخلون على الفور.. مهلًا.. ليس بهذه السرعة. خذوا وقتكم. بوف.. انتهى.
في غفوة رأيت أحدهم يقف أمام لوحة ضخمة يقلب تفاصيلها الدقيقة بين ناظريه. نقاط لامعة من الضوء تتباين تألقًا وخفوتًا. يلمح نقطة تتوهج بألق مبهر. يقترب من اللوحة ويحدق طويلًا. يقترب منه أحد مساعديه ليبقى رهن الإشارة. يحدقان معًا. النقطة تتوهج. تزداد سطوعًا. يهمس لمساعده بما لا يسمع. يراقبه المساعد في تساؤل ثم يحرك شفتيه في همهمة: سرطان؟ يجيب القائد في تباطؤ: ربما.. جرب.
تنشر دار الشروق صورة كتاب أبو الغيط الأول والأخير وتعلمنا بقرب صدوره. ينقبض قلبي. لم يكن هذا ليحدث إلا لو أعطى أبو الغيط الإشارة. "لن أكتب بعده".
قُضي الأمر!
كتاب مقالاته يصدر وكتاب حياته يخفت. كنت على يقين من أنه وضع لمساته على كل شيء. على يقين أيضًا من أنه الذي اختار صورة الغلاف وربما أصرَّ عليها، ليقول: هذا أنا.. هذه الحقيقة الآن.. لن أضع أيًا من صوري القديمة. سأضع صورة تعبر عني كما أراني وترونني. أنا قادم هكذا.. إلى الضوء.
في وولبول بارك
سبتمبر/ أيلول من العام الماضي. أبو الغيط يتناول العلاج الكيماوي أسبوعًا، ويرتاح في الأسبوع الذي يليه. قررنا أن نلتقي في أسبوع الراحة بعد أن يذهب بيحيى إلى المدرسة، لنستمتع بتمشية الصباح في حديقة وولبول بارك Wolpole Park. أنتظره أمام محطة إيلنج برودواي في غرب لندن. يصل متدثرًا بكل ما يحمي من البرد. نعبر الطريق سويًا. نخترق ممشى أوك رود المفتوح للمترجلين فقط. نمر بتمثال الحصان البرونزي الذي يتوسط الطريق ونعبر بجوار متجر شيكولاته ليونيداس. نمشي تحت قوس القرميد من أمام ستاربكس، ثم ندور حول سور بنايات كوريون كورت. يوجد هنا مدخل خلفي للمول الذي نخترقه إلى الجهة الأخرى. نعبر الطريق إلى شارع ماتوك لين. يهم أبو الغيط بدخول الحديقة.
- عاوز أوريك حاجة قبل ما ندخل. تعالى نمشي قدام شوية في ماتوك لين. شايف المبنى ده؟ ده مسرح مهم بس مستخبي في إيلنج اسمه مسرح الكويستورز Questors Theatre. مش بس مهم عشان بيقدم مواسم مسرحية ممتازة، ولا عشان رئيسته هي الممثلة المشهورة جودي دنش، اللي أخدت عشر جوايز من الأكاديمية البريطانية (الأوسكار الإنجليزي المعروف باسم بافتا)، لكن مهم عشان التجربة ككل. أنت بتسجل عضوية بمبلغ زهيد في السنة وممكن كعضو تشارك في معظم الأنشطة المتعلقة بالإنتاج المسرحي، بل وممكن تشترك في الأعمال المسرحية نفسها. وفيه ورش تمثيل وإخراج، وكورسات دراما للأطفال.. لازم تجيب يحيى.
- فكرة جميلة فعلًا.
- مرة كنت داخل مسرحية وكان عندهم نقص في الموظفين اللي بيقعَّدوا الناس على الكراسي. طلبوا متطوعين من المتفرجين ولبسوهم الجاكت المميز الخاص. الكل كان مبسوط وبيضحك. تعالى نرجع ورا شوية.. شايف حائط الموزاييك الأزرق المستخبي بين المبنيين ده؟ هتلاقي مكتوب من فوق "وولبول بيكتشر ثياتر".. ده كان سينما اتفتحت في أوائل القرن اللي فات، ولما قفلت في أوائل السبعينيات، هدوا المبني وسابوا الواجهة الموزاييك الجميلة دي.
"المعلومات" تنعش أبو الغيط. تتسع ابتسامته وهو يتأمل الواجهة ويقول ببراءة طفولية: ما كنتش أعرف الحاجات دي.
- أنا عارفها عشان عشت في المنطقة دي عشر سنين يا محمد. بيتي كان قرب الحصان البرونز اللي عدينا عليه.
ندلف إلى الحديقة ويتسلم أبو الغيط زمام الحديث.
في انتظار معجزة
نتحدث بالطبع عن تطورات حالته والعلاجات التجريبية الجديدة. ولكنه يفتح طاقة جديدة للأمل ويعرج بالحديث إلى القدرات والعوالم التي لا نفهمها بعد. الطبيب والباحث يتردد في قبول ما لا يمكن تفسيره، ولكنه لا يستطيع في الوقت ذاته أن يتجاهل تجارب ومشاهدات وخبرات، لمجرد أنه لا يستطيع فهمها الآن.
أبتسم وأسر له بأنني كنت مهتمًا بعوالم الباراسايكولوجي Parapsychology ونشرت في مجلة الشرق الأوسط سلسلة من المقالات، تناولت فيها معظم هذه الظواهر، من السايكوكينيزيس Psychokinesis أو القدرة على تحريك الأجسام بالذهن، إلى التخاطر عن بعد Telepathy، والتأثير على المعادن. أفاض أبو الغيط في الحديث وأسرَّ لي بتجارب شخصية وأسرية ترجِّح أنَّ في عالمنا قدرات لم نتمكن من فهمها بعد، ثم ابتسم وقال بنبرة بين الشك والرجاء: أنا منفتح على أي حاجة.
لم أكن أشك وقتها في أنه سيتجاوز المحنة بطاقته الروحية الهائلة واتساقه النفسي الهادئ، رغم ما يقوله العلم وما يعرفه كطبيب. كنت على يقين، أو ربما كنت أتمنى، أن تنفتح طاقة ما ليعود كل شيء كما كان. أكدت لنفسي مجددًا: هذا الوقت سوف يمر. يقينًا ستحدث المعجزة.
في محبة أبو الغيط
استرحنا على أحد المقاعد المتناثرة وتأملنا الحديقة المفتوحة، التي اشترتها بلدية إيلنج في نهاية القرن التاسع من سير سبنسر وولبول لتحيلها متنزهًا عامًا. قال دون مقدمات:
- د. حسام عبد الله (رائد عمليات زراعة الأجنة وصديقنا المشترك) قال لي هتتفاجئ بحب الناس. وأنا اتفاجئت فعلًا. لكن الحقيقة باحس إني محرج. الكلام اللي بيتقال فيه مبالغة. أنا صحيح كنت بارد على الناس على قد ما أقدر لكن فيه أوقات كنت بانشغل، أو أنسى أو ما آخدش بالي. يمكن الحاجة اللي فعلًا كنت باعملها باستمرار، إني أساعد لو حد لجأ لي في شغل. حتى لو ما أعرفوش. أنا عشت التجربة دي وعارف قد إيه هي صعبة وعشان كده كنت باحاول على قد ما اقدر.
في مارس/ آذار الماضي اقترحت إحدى عضوات جروب تابع لبرنامج أقدمه على قناتي في يوتيوب، عمل حلقة في محبة محمد أبو الغيط. تحمست للفكرة وأعجبني أنها لم تأتِ مني كمحب ومعجب وصديق، بل من قارئة لا تعرفه شخصيًا ولم تلتقِ به على الإطلاق. على مدى ساعتين تدفقت الشهادات والمشاركات من أشخاص لم يلتقِ أيهم به وجهًا لوجه. بل وأغلبهم لم تسبق له المشاركة في أي برنامج على الهواء. دافعهم الوحيد هو رغبتهم في أن يرسلوا له الأمنيات الطيبة تعبيرًا عن امتنانهم لشخصه أو لمقال ترك فيهم أثرًا عبر السنين.
كان أبو الغيط يستمع إلى البرنامج، ورغم آلامه وقتها، دخل في نهايته ليشكر المشاركين.
"الحقيقة لو كنت سألتني قبل ما تعمل ده، كنت قلت لك ما تعملش. أنا الحقيقة مكسوف، مستحي بشدة، في حاجات اتقالت حاسس بصراحة إن فيها قدر من المبالغة". ثم أضاف مازحًا: ماشي أنا شاطر في حبة حاجات بس عادي يعني أنا مش بانوَّر في الضلمة!
مداخلته القصيرة ذكرتني بما قاله في الحديقة اللندنية، بل وحتى بردة فعله عندما تطرق بنا الحديث لبعض ما حصل عليه من جوائز "أنا ما عملتش حاجة خارقة. الأدوات اللي استعملتها في تحقيقاتي متاحة، وأي حد ممكن يستخدمها في التقصي والأعمال الوثائقية. هي بس محتاجة شطارة وتتعلم أمتى تستخدمها وتستخدمها إزاي. حتى الجوائز أنا ذاكرتها كويس. كنت عارف معايير التقديم. ولما اتقدمت كنت مرتب ورقي ومغطي المعايير المطلوبة".
فارس الإعلام وإمبراطور الصحافة
المسألة من جانب أبو الغيط ليست تواضعًا أو نفورًا من حالات التقديس والتأليه الشخصي فحسب. الأوصاف الفضفاضة والتعبيرات العاطفية الجياشة تجافي التزامه الصارم بمعايير "الدقة" و"الموضوعية". عندما كان يكتب موضوعًا أو تحقيقًا يرص الكلمات والعبارات والجمل بدقة وعناية دون مبالغة أو تزيُّد، ومن البديهي أن يرغب في الالتزام بتلك المعايير عندما يتعلق الأمر بموضوعه أو قصته.
منحت الصحافة بعض روادها ألقابًا فخيمة، بل وأطلقها بعضهم على نفسه: هناك "الفارس" و"الأستاذ" و"الإمبراطور" و"النبيل" و"المحاور" و"الارستقراطي". لم يكن لأيٍّ من تلك الأوصاف أن يسعد أبو الغيط رغم كونه بالفعل أستاذًا ونبيلًا ومحاورًا بالمعنى المهني الدقيق، في عمره المهني الذي لم يصل إلى عشر سنوات. كان يسعده فقط أن يكون أمينًا ودقيقًا وصادقًا.
المكانة التي استحقها أبو الغيط بين الناس تعني أن ذلك الجيل يفرز قيمه، ومُثُله، ونماذجه، وقدوته، كما أفرز ثورته. أستاذه أحمد خالد توفيق جعل الناس يقرأون، وأبو الغيط جعل الناس يحترمون الصحافة الحرة المستقلة النظيفة والانحياز للضعفاء الذي سجله في مقاله المؤسس "الفقراء أولا يا ولاد الكلب".
وكما انحاز للفقراء، انحاز أبو الغيط للقراء من الشباب، ولفن الكتابة السهلة البسيطة المؤثرة ببعدها عن الإطناب، واللغو، والبرقشة، واعتمادها على المعلومات والحقائق. ستكتسب هذه المميزات أهميةً خاصةً في عصر كثر فيه بين الكتاب والإعلاميين محترفو مغازلة السلطة الذين تتوجه كتاباتهم دومًا لأصحاب الثروة والقرار. وستصبح كتاباته في حد ذاتها صرخة تذكر بمن نكتب لهم: القراء أولًا يا ولاد الكلب!
الخط المستقيم أقصر مسافة بين نقطتين
البساطة التي يتحدث بها أبو الغيط عن نفسه وعن عمله وعن قيمه بساطة آسرة. حياته كلها خطوط مستقيمة تصل ما بين النقاط. لا توجد هنا مفاجآت أو ألغاز أو واسطة أو أقارب أو أيدٍ حانية أو أجهزة، تتبنى وتدعم وتدفع للصدارة. هناك "شطارة" وتركيز، وقدرة على الفهم والتحليل، وبراعة في السرد الفعال البسيط، ومهارة في البحث والاستقصاء. نموذج حي وملهم لكل صحفي شاب يتساءل عن الطريق إلى التفوق.
حتى تجربة المرض تتحول بين أنامل أبو الغيط إلى سردية علمية وإنسانية مؤثرة تزيد من وهج نقطته المضيئة على اللوحة الممتدة. الواقف أمام اللوحة يراقبها باهتمام ثم ينظر لمساعده "حان الوقت".
تبدأ النقطة في الخفوت لحظة بعد لحظة ثم تختفي تمامًا. يستدير الاثنان حيث يظهر خلفهما، عوضًا عن اللوحة، فضاء شائع تتناثر فيه نجوم لامعة. يحدقان في ركن مظلم منه حتى تظهر نقطة بلون تلك التي اختفت من اللوحة.
تضيء أولًا على استحياء، ثم تلمع وتتوهج، ثم تسطع بقوة وهي تشق طريقها وسط النجوم... يبتسمان.