حساب محمد أبو الغيط على فيسبوك
الصحفي المصري محمد أبو الغيط

محمد أبو الغيط.. كأنك تموت غدًا

منشور الجمعة 23 ديسمبر 2022 - آخر تحديث السبت 24 ديسمبر 2022

 

حديقة الحيوانات - 1990

ها أنا ذا أقف وحيدًا.

رحلة مدرسية في تسعينيات القرن العشرين، زملائي يلعبون الكرة، قسموا بعضهم فرقًا، خمسة أمام خمسة، لم يخترني أحد. أشاهدهم يمررون الكرة بينهم وعلى شفتيَّ ابتسامة بلهاء، لا أفهم، متى تعرفوا على بعضهم بتلك الحميمية؟ متى تشكلت تلك الصداقات؟

 "الميس" توقف اللعب، تمسكني من يدي وتتقدم بي نحوهم وهي تسألهم لماذا لم يضموا أحمدًا.

يحرجني ما تفعله، كنت وحيدًا أما الآن فوحدتي تحت الضوء وذلك أسوأ، تتوجه الأنظار نحوي فأفرد كفي وأنا أتراجع خطوات للخلف ترفعًا.

تجلس إلى جواري، يتطاير شعرها الأسود الفاحم نحو وجهي، تبدو بالغة اللطف لكن يتسرب لي شعور خانق بأنها تشفق عليَّ، لا أذكر حرفًا مما قالته ولكني أذكر شعوري جيدًا.

 أنا وحدي.

(2)

لا أريد أن أكون وحيدًا.

في الجامعة أنزل من الثامنة صباحًا وأعود في التاسعة مساءً، أنتمي لمجموعات، أهتف في مظاهرات، أنظم رحلات، أشارك في فعاليات.

هل ترى كل هؤلاء حولي؟ هم أصدقائي، أنا الآن طالب محبوب.

في الكتيبة أنا المجند الذي تربطه علاقات جيدة بالجميع، صار اليوم عندي أصدقاء.

كل شيء يبدو رائعًا، يبدو.

(3)

هل ترون ذلك الشاب العشريني المتحمس؟ أعرفه، قرأتُ له نصًا شديد الجمال، أخبط على ظهره وأسأله "هل أنت محمد أبو الغيط؟"، أخبره أنني أحببت مقاله "الفقراء أولًا يا أولاد الكلب"، يحتضنني ويخبرني أنه يحب ما أكتب وكان سيبدأ بالسلام لكنه أحرج.

ما بدأ بالجملة الترحيبية نفسها انتهى إلى العمل في الجرائد المستقلة ذاتها، المشاركة في الفعاليات الثورية، الانحياز للقيم ودعم الاختيارات الانتخابية نفسها، المشاركة في الندوات، زيارة أوروبا معًا لأول مرة في الرحلة نفسها، مواجهة الخصوم ذاتهم، خوض المعارك وخسارتها جميعًا، لكننا نكتب.

يلعب عادل إمام مع الخسران في فيلم الحريف ونفعل مثله في حياتنا، يختطف الطير رفاقنا فنتبادل التحذيرات؛ احذف تعليقك يا أبو الغيط، احذر من تلك اللايك يا أحمد، إياك ترد عليهم في ذلك يا أبو الغيط، لا ترد على فلان يا سمسم أنا عنده ورددت لك عليه، أنا آسف لك أني لم أصر على ألا تفعل هذا.

 لدي صديق، هذا مطمْئِن.

(4)

سافر.

خرج من بلد موسى شخصيًا شق البحر ليهرب منها، تذكرة واحدة ذهاب بلا عودة.

كل يوم يخرج واحد، غريب أن أعيش في وطن أفرح برحيل أصدقائي عنه؟ يخبرني صديقي أحمد حربية أنه يشعر كأنه حبيس في مبنى يحصل إخلاء بدون أي معلومة عن نوعية الخطر المتوقع، ضحكت.

 بعد أشهر هاجر حربية.

(5)

اليوم التقيت بمحمد أبو الغيط.

صاحبي كان ماشيًا في وسط البلد، قصيرًا مبتسمًا ويتحدث في الهاتف وهو يحرك يديه بحماس، نذل جدًا وربنا، كيف تنزل لوسط البلد حيث أسكن دون أن تخبرني ونتقابل.

لم أصل له، لأنني بعد خطوتين بالضبط أدركت؛ صاحبك سافر يا أحمد.

أعرف أنك تبحث عن معنى عميق يطمئنك؛ لماذا اختار هذا دونًا عن كل من سبقوه، رحلة موفقة، أما أنا فلا أعرف

 (6)

ما بعد ذلك؟ كلنا نعرف ما بعد ذلك، اللعنة على ما بعد ذلك.

كأي طفل تافه أتلقى الخبر كمعلومة مفجعة دون أن يمر على عقلي سوى ثوانٍ ويختفى، أخبره أنى عملت له عدم متابعة على السوشيال ميديا، نثرثر عن الكتابة، عن النظام الصحي البريطاني وذاك المصري، عن كل شيء ما عدا الشيء الوحيد الذي يفترض أن أسأل عنه. نعم؟ الفيل في الغرفة، لا حضرتك أنا قادر على تجاهل حديقة حيوانات كاملة في الغرفة.

في مره ثانية نتحدث عن السياسة، الصحافة، ترشيحات الكتب ثم تسود لحظة صمت، يبدأ يحكي، أسمعه وكأي غبي أسأله، هل هناك أمل؟ يسكت قليلًا ويبدو أنه يفكر في أن صاحبه متأخر عقليًا، يا سمسم أنا قلت لك.

هل تعرف هذا الشعور بأن عليك فعل شيء مع إدراك أنك أصغر من أن تفعل أي شيء؟ لا أعرف إن كنت تعرفه لكنني أعرفه، أرفع يدي واحتضنه ونحن نتحدث هاتفيًا.

حسنًا، تعال هنا، هيا بنا نلعب، نكتب كتابًا، نتسلى، ها هي مواعيد تسليم، خطط لحفلات توقيع وكلمات، ولكن ما هذا؟ أنا الآن أقرأ، محاولات الإنكار تنتهي وأنتهي معها، أقفز في حياتي على أمور كثيرة لكنني لا يمكنني القفز من فوق السطور.

بالرغم من كل ذلك، مع كل سطر أحبه أكثر، وأفهم أكثر، وأمتن للحياة أكثر.

 (7)

ربما هناك رواية يفترض أن يكتبها، تحقيق يفترض أن يبحث عنه، مظلوم ينحاز إليه، هناك حضن لابنه في عيد ميلاده العاشر يمنحه إياه، ربما.

 لا أعرف لماذا ابننا محمد؟ ولا أبحث عن إجابات.

أنا أشاهد ناشينول جيوجرافيك، ساعدني هذا، يمر قطيع الحمار الوحشي من أمام التمساح في النهر، يمر الأول بجوار التمساح بهدوء، الثاني يمر، لكنَّ التمساح يرفع رأسه ويستعد ثم يلتقط الثالث، أعرف أنك تبحث عن معنى عميق يطمئنك؛ لماذا اختار هذا دونًا عن كل من سبقوه، رحلة موفقة، أما أنا فلا أعرف.

لا أعرف لماذا تحولت خلايا محمد لعدو، لا أعرف لماذا دهست أنا تلك النملة وأفلتُّ الأخرى من تحت قدمي، لا أعرف المعنى لي أو للعزيزة النملة، لا أملك إجابة، ولا أنتظر إجابة.

لا أعرف لماذا هُزمنا ولا لماذا هاجرنا ولا لماذا مرضنا، لا أعرف سببًا ولا أعرف معنى.

أحب الله ولا أطرح أسئلة، أعرف أنه معي وأعرف أنه كان مع ابننا في تعبه، يطمئنني هذا ويكفيني.

(8)

لم أسافر كي لا أبقى وحيدًا، لكنني أقف الآن وحيدًا.

أطل على ما لا أريد، أكتب ما لن يُنشر، أناقش بقايا المهتمين بالشأن العام في مصر، وألتقي ببقايا أصدقاء، لكن معي ذكريات كاملة.

توقفت عن التطلع إلى رسائلنا، فلماذا أسمع رسائل صوتية وتومض أمامي كلمات وقلوب وضحكات.

بدأت كتابة هذا المقال قبل شهرين لأرسله لابننا وأستشيره. لم أكتب، ثم كتبت جملًا مبعثرة. الآن المقال كامل، فلمن أرسله؟

 ما بدأت بكتابته لأتذكر انتهى بالكتابة لأتجاوز، أقلب في صورنا فأجد ندوة عنوانها هل ستنتصر الثورة، غالبًا أجبنا حينها بأننا لا نعرف، الجديد الآن أنني لا أهتم، ما يهمني أن يكون صاحبي الآن في مكان أجمل يستمع لأغاني محمود الليثي ويقرأ لكتابه المفضلين، ويكتب روايته الأولى.

اسعدوا بكل يوم طبيعي، أنا سعيد بيومي الطبيعي، فقط لا أريد أن أكون وحدي.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.