عادة ما أجد صعوبة في التعامل مع القوانين الخاصة بالسياسات الاقتصادية والمالية، فألجأ للمختصين لشرحها وتفنيدها، خصوصًا إذا ما كان للقانون المقترح تأثيرات مباشرة أو غير مباشرة على الأعباء المتزايدة، أو يفتح بابًا على قروض جديدة. وهذا ما حدث في مشروع قانون الإجراءات الضريبية، الذي وافق عليه البرلمان أمس.
في البداية، أحال رئيس المجلس حنفي جبالي المشروع للمناقشة، بالتزامن مع تصاعد تظاهرات المحامين ضد تطبيق الفاتورة الإلكترونية، وتقديم عدد من النواب طلبات إحاطة لوقفه، فتوقع البعض أن التعديلات مرتبطة بتلك الاعتراضات، لكن حكومتنا لا تلين أمام التظاهرات والاعتراضات، فسرعان ما اتضح أن التعديلات تتعلق بتبادل المعلومات الضريبية مع الدول الأخرى.
ويسمح تعديل القانون رقم 206 لسنة 2020، لمصلحة الضرائب تبادل المعلومات لأغراض الضريبة مع الدول التي بينها وبين مصر اتفاقيات ضريبية دولية، ويعد إجراءً ضروريًا لاستيفاء المتطلبات التشريعية اللازمة لاجتياز تقييم منتدى "الشفافية وتبادل المعلومات" لمكافحة التهرب الضريبي على مستوى العالم.
مع نشر التعديلات في وسائل الإعلام، تحدث بعض النواب عن تخوفات من مساسها بسرية الحسابات البنكية، ما يؤثر على الاستثمار المحلي والأجنبي، وكأن الحكومة تضع مزيدًا من التعقيدات التي تؤدي لاستمرار الأزمة اقتصادية ونقص الدولار، قبل أن ينفي وكيل محافظ البنك المركزي شريف عاشور، ونائب وزير المالية رامي يوسف تلك التخوفات خلال اجتماع للجنة الخطة والموازنة لمناقشة المشروع، الأسبوع الماضي، موضحين أن المشروع يرتبط بتبادل معلومات ضريبية مع الدول الشريكة في المنتدى العالمي للشفافية. وأمام تلك التأكيدات لم أسلم بمبررات الحكومة.
غياب الشفافية
عدم التسليم برواية الحكومة نابع من تجارب مع قوانين سابقة، عادة ما تكون وراءها أهداف مستترة لا تفصح عنها، وهو ما سنكتشفه لاحقًا بالفعل مع ذلك التعديل، الذي يرتبط بالقدرة على الحصول على قروض جديدة، وهو أمر لم تصيغه الحكومة بشكل صريح، وواضح.
مرر البرلمان القانون بعد يومين فقط من موافقة صندوق النقد الدولي على إقراض مصر 3 مليارات دولار. التوقيت كان أول مؤشر على أن ثمة ارتباط بين المشروع الجديد وسياسة الاقتراض، ثم انكشف ذلك أكثر خلال الجلسة العامة أمس، التي تطرقت لسياسات الحكومة بشكل عام وسياستها الاقتصادية بشكل خاص، وسط مطالب برحيلها من نواب المعارضة، فيما التزم نواب الأغلبية بالصمت.
لم يتطوع أي من نواب الموالاة للدفاع عن سياسات الحكومة، اكتفوا بتمريرها، مع التركيز على الحديث عن القانون، وأهميته.
وكانت أكثر الكلمات وضوحًا ومباشرة من جانبهم كلمة وكيل لجنة الخطة والموازنة ياسر عمر، وهو نائب عن حزب مستقبل وطن، الذي ربط بين القانون المرتبط باتفاقية ترعاها مجموعة العشرين وقدرة مصر على الحصول على مزيد من القروض "وش كده".
قال "نحتاج الاتفاقية للحفاظ على قدرة مصر على الاقتراض الخارجي من هذه المؤسسات، كلام وش كده على طول، الأيام دي مزنوقين ووصلنا لمرحلة ما نقدرش نتأخر"، معتبرًا أن التعديل "سينقذ مصر، يجيب لنا ما لايقل عن 14 مليار دولار"، لافتًا إلى أزمة نقص العملة "البضائع محجوزة لأن مافيش دولار، لو حصلت الحاجات دي الدولار اللي بيعلى هينزل والاستقرار يحصل".
ووصف الانتقادات الموجهة للحكومة بـ "المزايدة"، قائلًا "لا يجوز المزايدة على مصر، ونقول حكومة ومش حكومة، إحنا كلنا إيد واحدة ومع مصر لصالح الشعب المصري، لو كل الناس ملتزمة ضريبيًا لن يكون هناك عجز موازنة في مصر، لا يجوز الدفاع عن المتهربين بأي حال من الأحوال".
المناقشة
قال رئيس المجلس قبيل المناقشات "إن التعديل المقدم يقتصر مجال إعماله على تبادل المعلومات بين الدول فقط لمكافحة الضرائب وإخفاء المتهربين لثرواتهم على مستوى الدول.. هذه التعديلات لا تمس العمليات المصرفية للمواطنين أو الأسرار التجارية أو المصرفية أو المهنية".
وأعلن زعيم الأغلبية البرلمانية أشرف رشاد، موافقته على مشروع القانون قائلًا "مصر حكومة ومجلس نواب يحترمان سرية التعاملات المصرفية".
أما رئيس الهيئة البرلمانية لحزب النور أحمد خليل خير الله، فألقى كلمة انفعالية مهاجمًا الحكومة وسياستها، ولكنه كعادته اختتمها بالموافقة على المشروع. وقال "حسوا بالناس، التضخم وصل 21%، عملة بلدي قلت بنسبة 56% اتكلموا اطلعوا قولوا للناس حاجة"، وطالب باختيار متحدث رسمي "كاريزما يطلع يفهم الناس حاجة".
وكسر سيل الموافقة النائب ضياء الدين داود، الذي أشار إلى المأزق الاقتصادي الذي تسببت فيه الحكومة، وقال "متى تعترف الحكومة بالخطأ وتقول أخطأت التقدير، نحن أمام حكومة لا تعتذر ولا تعترف بخطأ".
واستطرد كلمته منفعلًا "حكومة أخطائها المركبة فرضت علينا أن نكون أمام نصوص بهذا المستوى ونكون مجبرين على التوقيع". واختتم كلمته موجهًا سؤالًا للنواب "متى تجبرون الحكومة على الاعتذار للشعب المصري"، ثم عقب النائب مصطفى بكري "هذه الحكومة عليها أن ترحل لا أن تعتذر".
أما النائب عبد المنعم إمام، أمين سر لجنة الخطة والموازنة فلفت إلى انضمام مصر إلى الاتفاقية (المنتدى الدولي للشفافية) منذ 2016، وتعطيل تطبيقها حتى الآن، "مضطرين نطلع دفاترنا القديمة وأي حد يدينا دولار نروح له".
وأضاف "الحكومة وعدت بإصلاح مالي يجعل المصريين في رخاء، اليوم بعد ست سنوات من الإصلاح المواطن المصري الطبقة الوسطى واقف يشحت في الشارع يقولك فلوسي راحت في الاصلاح". وبشأن مشروع القانون، أكد عدم وجود ضوابط تُطمئن المصريين والشركات في مصر وخارج مصر بشأن قواعد تبادل المعلومات الضريبية.
واقترح النائب إيهاب رمزي عن حزب الشعب الجمهوري، إرجاء الموافقة على مشروع القانون "غير المدروس"، الذي اعتبره يهدد المصريين في الخارج ويصرفهم عن إيداع الأموال في البنوك المصرية، لكن المجلس رفض الاقتراح.
تعديلات مهمة ولكن
عند تلك المرحلة، ورغم قراءة النصوص والاستماع إلى آراء النواب بين الموافقة والرفض، لم أكن استوعبت تمامًا طبيعة الاتفاقيات الدولية الضريبية التي تستند لها الحكومة، ولم يشرحها أحد، كالمعتاد، فاتجهت لرئيس مصلحة الضرائب المصرية السابق، دكتور مصطفى عبد القادر.
أخبرني عبد القادر أننا نخضع لنظام ضريبي عالمي، بدأ ينمو ويتشكل في أمريكا، ثم تطور من خلال مجموعة العشرين، والتعديل القانوني الذي قدمته الحكومة لتطبيق التزاماتها الدولية يتعلق بذلك الشأن.
يحكي عبد القادر في ندوة لجمعية الضرائب المصرية أتاح لنا تسجيلًا منها، عن بداية النظام الضريبي الدولي عقب الأزمة المالية العالمية في 2008، والتي كان من أسبابها، بحسب رأيه، ضعف الرقابة على المؤسسات المصرفية، وما يعرف بالملاجئ أو الملذات الضريبية.
كما ربط بين تطور النظام الضريبي الدولي ورقمنة الاقتصاد، "كل هذا أدى إلى محاولة البحث عن نظام ضريبي دولي جديد، السلطة الضريبية فيه: منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومجموعة العشرين لأن النظام الضريبي العالمي يتم إدارته من خلال هذه الكيانات".
وبشأن تبادل المعلومات الضريبية التي تتيحها الاتفاقيات والمنظومة الدولية، قال عبد القادر إن "مكافحة الفساد والتهرب الضريبي ليس له إلا وسيلة واحدة، هي تبادل المعلومات"، مضيفًا "قديمًا كان الاتجاه أن الحفاظ على الاستثمار يتضمن التستر عليه".
وأوضح عبد القادر أن الهدف مكافحة التهرب الضريبي، وفي الوقت نفسه لا يمس سرية الحسابات، "ليس من حق أحد التعرف على السحب والإيداع، والاتفاقية لا تنال من الملكية الخاصة أو تتبع حجم الأموال في البنك".
وتابع للمنصة "لا أعرف أساس الهلع، الاتفاقية لا تتناول الملكية الخاصة، دورها تتكلم عن أي مبالغ قد تؤثر على تحديد الوعاء الضريبي"، واعتبر أن القلق الذي حدث عقب إحالة القانون لمجلس النواب "يعكس دولة ضعيفة تخاف من مجتمع الأعمال".
كما أشار عبد القادر إلى أن الاتفاقية تشدد على سرية المعلومات المتبادلة، قائلًا معلومات طلبتها الدولة "أ" من الدولة "ب" لا يجوز منحها لدولة "ج" إلا بعد الرجوع للدولة التي حصلت منها على المعلومات.
وبشأن توقيت التعديل القانوني، أوضح عبد القادر "في الفترة الأخيرة قررت مجموعة العشرين عدم إبرام اتفاقيات جديدة أو تحديث اتفاقيات قديمة مع الدول الشريكة في الاتفاقية إلا إذا فعلت الفقرة الخامسة من المادة 26 من الاتفاقية التي تضمن إعطاء المعلومات الضريبية دون التقيد بالسرية".
وقال "لما وجدوا أن ردود أفعال الحكومات التي يديرها مجتمع الأعمال تعطل التطبيق، بدأوا يعملوا من خلال منتدى الشفافية والمعايير ومدونة السلوك، موعد نهائي للتطبيق كان نهايته في 2022 والدول التي لا تلتزم توضع في قائمة سوداء".
مر التعديل، ولن توضع مصر في قائمة سوداء قد تعرقل قروضها المقبلة، وربما نعرف قريبًا عن اتفاقيات قروض جديدة، بينما سنظل أمام مجلس يمرر التعديلات، ويبارك السبل التي تطرحها على أنها حلول، وربما تكون سببًا في مزيد من التعقيدات، والديون.