في مايو/ أيار الماضي، أطلقت الناشطة اليمنية أمة الله عبد الله، مبادرة للتوعية بطرق مواجهة الابتزاز الإلكتروني في مدينة تعز جنوبًا، بمشاركة 5 شباب و7 شابات، تحت اسم "معًا ضد الابتزاز الإلكتروني". بعدها بشهور أعاد سقوط ضحيتين للابتزاز، إحداهن حاولت الانتحار والأخرى انتحرت بالفعل، لفت الأنظار لخطورة الظاهرة.
و تظهر أهمية الحملة في ظل الثقافة المتشددة للمجتمع اليمني، لدرجة الامتناع عن ذكر أسماء النساء خارج المنزل، والتعامل عند الأطباء ومحلات الخياطة والأسواق بالكنية أو اسم الزوج أو الأخ أو الأب، وتسجيل الرجال زوجاتهن على الموبايل بإسم "المنزل" أو "البيت"، إضافة إلى منع الكثيرات من امتلاك موبايل أو التواجد على السوشيال ميديا.
وسط مجتمع كهذا، لم يكن سهلًا أن تخرج امرأة في أواخر العشرينيات، لتشجيع النساء على الإفصاح عما يتعرضن له من ابتزاز إلكتروني، وتتجول في مناطق عدة لعقد ندوات داعية إلى التصدي لسياسة لوم الضحية.
ولدت أمة الله لأسرة متعلمة في محافظة الحديدة غربي اليمن، وهي حاصلة على القبالة القانونية/مساعدة النساء في الولادة. بدأت نشاطها النسوي في العام 2015 من خلال الاستشارات والدعم النفسي للنساء من المنزل، وتطوعت لدى أحد فروع اتحاد نساء اليمن في العام 2020، ثم أطلقت منظمة For Her للحقوق الرقمية والسلام في العام نفسه، وذلك في ظل شعورها "بأهمية أن تقف بجانب النساء اللواتي يعانين مثلها" على حد قولها للمنصة.
أما حملة مواجهة الابتزاز فأطلقتها بعد معايشتها لقصص سمعتها من فتيات تعرضن للابتزاز، ولم يجرؤن على الافصاح عنها بسبب خوفهن من أسرهن والمجتمع.
وتقع حوادث الابتزاز في اليمن عبر طرق عدّة، منها اختراق الموبايلات، والعلاقات العاطفية، والتقاط الصور خلال مكالمات الفيديو باستخدام تطبيق إيمو، وأثناء صيانة الموبايلات في المحال، بحسب تقرير أمني صدر عن إدارة شرطة تعز في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
ويشير التقرير، الذي حصلت المنصة على نسخة منه، إلى أن الكسب المادي غير المشروع والابتزاز الجنسي والابتزاز لغرض سياسي أو عسكري من أبرز الدوافع خلف حوادث الابتزاز. ولكن حتى هذا التقرير لم ينشر إعلاميًا، لأنه أعد للإطلاع الداخلي في الإدارة بغرض متابعة تلك القضايا.
زيادة ملحوظة
لا توجد إحصائية محددة بعدد حوادث أو قضايا الابتزاز الإلكتروني في اليمن، غير أن مؤشرات عدة تعكس تزايد الظاهرة في الفترة الأخيرة، أو على الأقل الحديث العلني عنها، ومحاولة مواجهتها.
يقول العقيد أسامة الشرعبي، مدير الإدارة العامة لشرطة تعز، إنهم تلقوا حوالي 14 بلاغًا عن قضايا ابتزاز خلال عام 2021، جرى ضبط 12 منها، ووصل عدد المضبوطين فيها 13 شخصًا، فيما ظلت قضيتان رهن التحري، لافتًا في حديثه إلى المنصة إلى أن الكثير من وقائع الابتزاز لم يجر الإبلاغ عنها بسبب تكتم الضحايا أو أسرهن تحت وطأة القيود الاجتماعية أو بسبب قلة الوعي. أما أمة الله، صاحبة حملة مواجهة الابتزاز، فقالت إنها تلقت مؤخرًا نحو 20 شكوى من فتاة تفيد تعرضها للابتزاز.
وتحاول المبادرة رفع عدد تلك القضايا، من خلال تشجيع الضحايا على التقدم ببلاغات. وفي مسار موازٍ تدعو إلى تعديل القانون اليمني الذي يعاني من قصور، فلا يغطي تشريعيًا قضايا الابتزاز بشكل منفصل.
وتخضع مثل هذه الجرائم للمادة 313 من قانون الجرائم والعقوبات اليمني، التي تنص على أنه "يُعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز 5 سنوات، أو بالغرامة، كل من يبعث قصدًا في نفس شخص الخوف من الإضرار به أو بأي شخص آخر يهمه أمره". ولهذا جاء أحد شعارات الحملة "القانون يحميني من الابتزاز.. معًا لنفعل المادة 313".
ويستبعد خالد الشميري، المحامي المهتم بقضايا الابتزاز الإلكتروني، إمكانية سن قوانين جديدة حاليًا، "اليمن تعيش حالة حرب، وإصدار القوانين من مهام مجلس النواب المعطل، لذا فيمكن الاستفادة من المادة 313 في مواجهة الظاهرة في الوقت الحالي".
وأوضح الشميري للمنصة أن الأزمة تقع في تعامل السلطات مع الابتزاز بتراخٍ كبير، وذلك جزئيًا بسبب عدم إلمامها بتلك القضايا باعتبارها من الجرائم الجديدة على المجتمع، وعدم توفر كوادر مؤهلة للتعامل معها، وتقديم الدعم اللازم من أجهزة وتقنيات في إدارات الأمن.
ويأمل أن عملية الردع ومكافحة الابتزاز بإنزال العقوبات والإعلان عنها سيمنع آخرين من التفكير في ممارسة مثل هذه الجرائم.
ولكن العوائق لا تقتصر على التعامل الأمني مع البلاغات، بل إن بعض الأهالي يضغطون على بناتهن لسحب الشكاوى بعد تقديمها، بحسب أمة الله "تلقينا في الحملة معلومات من فتيات يؤكدن أن أولياء أمورهن سحبوا الشكاوى من إدارة الأمن، خوفًا من الفضيحة".
وبسبب تلك الأجواء التي تلوم الضحايا، ولا تردع الجاني، تكررت محاولات الانتحار إثر عمليات ابتزاز خلال الشهور الماضية.
قبل أن تنتحر أخريات
بعد شهور من إطلاق أمة الله حملتها، فجرت الناشطة اليمنية سارة علوان القضية على نحو أكثر صخبًا، بعدما حاولت الانتحار بإطلاق النار على نفسها للتخلص من أحد المبتزين، وذلك في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. لكنها نجت بعد نقلها إلى المستشفى، وساندتها عائلتها وآخرون بينهم شاب تقدم للزواج منها وعقد قرانه عليها، في موقف عده ناشطون رد على المجتمع الذي يلقي اللوم على الضحية، كما جرى توقيف المتهم.
لكن على عكس سارة، كانت بشرى أقل حظًا، وهي فتاة في الثامنة عشر من عمرها، انتحرت بعد تعرضها للابتزاز. يقول مصطفى حزام والد بشرى للمنصة، إن ثلاث فتيات نشرن صورها ووزعنها على شباب آخرين، وضغطوا عليها للحصول على مبلغ مالي كبير، وحينما رفضت الدفع أرسلوا الصور لخطيبها فتوترت العلاقة بينهما وتشاجرا في آخر مكالمة بينهما، ثم أنهت حياتها.
خاض والد بُشرى مشوارًا طويلًا للحصول على حق ابنته، ساعدته فيه أمة الله ومبادرتها بعدما نشرت عن قضيتها. يعمل مصطفى حزام في مطعم مقابل أجر متواضع، ومع ذلك حرك قضية ابنته منذ اللحظات الأولى، لكنها كلفته أكثر من 800 ألف ريال يمني، ما يعادل نحو 700 دولار أمريكي، "في صورة رشاوى لرجال الأمن حتى يحركون القضية" على حد قوله. لكن حدث التفاعل الأكبر بعد نشر الحملة عن القضية، التي تُنظر الآن أمام النيابة، وجرى القبض على مشتبه به.
نشطاء يضيقون الفجوة
إلى جانب مبادرة أمة الله التوعوية، ثمة مبادرات أخرى فردية يقوم بها نشطاء في الأمن الرقمي، في محاولة لسد الفراغ الرسمي، بحسب ما رصده تقرير الابتزاز الإلكتروني في اليمن.. الظاهرة والحل، والصادر في 7 ديسمبر/ كانون الأول الماضي عن مشروع الحقوق الرقمية التابع لمنظمة سام للحقوق والحريات، وهي منظمة يمنية مستقلة مقرها جنيف.
ولفت التقرير إلى أن الدور الحكومي أو المؤسسي في مكافحة الابتزاز الإلكتروني باليمن غائب، وفي أحسن الأحوال غير فعال، مضيفًا أن "شبابًا يمنيين في داخل اليمن وخارجها يقومون بجهود تطوعية لتعزيز الحماية الرقمية للفتيات وتمكينهن من الوقاية من الابتزاز والتوعية حوله ومحاربة أسبابه".
تحدثت المنصة مع أحد هؤلاء، وهو عزمي غالب، مسؤول مؤسسة يودت المتخصصة في الأمن الرقمي في مدينة تعز، وهي منظمة غير ربحية تسعى إلى تمكين الشباب وتأمين وصولهم لمصادر المعلومات بأمان وفاعلية.
يدرب غالب فتيات من بينهن صحفيات وناشطات يمنيات على الاستخدام الآمن للإنترنت وأساليب الحماية الرقمية لتأمين حساباتهن على السوشيال ميديا، مشيرًا إلى وجود تزايد ملحوظ في حوادث الابتزاز، فـ"خلال العام 2021 ساعدت 36 امرأة تعرضن للابتزاز، وذلك في مدينة تعز ومديرية التربة التابعة لها فقط، فيما ارتفع عددهن خلال العام 2022 إلى 43 أو 44 حالة".
ويقول غالب "نحن لا نتعامل مع المبتز بل نتعاون مع الضحايا لأننا لسنا جهة رسمية، وعملنا يتمثل في إقناع الفتاة لتخبر أسرتها أو أحد أقاربها. وهذا الأمر صعب جدًا ويتطلب جهودًا كبيرة لأن الخوف من اﻷهل شديد".
لدى منظمة يوديت مراكز طوارئ في أربع محافظات يمنية، كما توفر خدمة المساعدة الرقمية مع ضمان الحفاظ على خصوصية الضحايا "نمنح الضحية التي تتحاشى التعريف عن نفسها فرصة التواصل عبر الإيميل الخاص بالخدمة أو حسابنا على فيسبوك أو موقعنا على الإنترنت، ثم التواصل مع المساعد الرقمي الذي يعطيها الخطوات اللازمة من البداية حتى انتهاء المشكلة".
ورغم جهود غالب وأمة الله، لا يزال الطريق أمام اليمنيات طويلًا، في ظل بيئة منغلقة تفرض على المرأة قيودًا عدّة، فيما تحاول جهود أمة الله طمأنة الضحايا بأنهن لسن وحدهن، وأن إفصاحهن سيصب في صالح اليمنيات ككل.