"نشرت القنبلة بودرة غريبة تحرق كل ما تلمسه، تحرق الأبنية، الملابس والناس، كل ما تلمسه يحترق". تقول المراهقة ذات الوجه المغلف بضمادات واسعة بعد عودتها من موعدها اليومي في مشفى تركي على الحدود السورية، انتقلت إليه مع والدها بعد أن ألقت طائرة تابعة لقوات النظام السوري قنبلة حارقة على مدرستها في حلب في 21 أغسطس/ آب الماضي.
"لدينا عدد كبير من المحترقين، على ما يبدو، لست متأكدة حقًا، لكن يبدو أنه نابالم أو شيء من هذا القبيل". في ذلك التقرير الذي أذاعه التلفزيون الفرنسي في 2013، وبينما تتحدث الطبيبة الميدانية "رولا" ناطقة بكلماتها تلك في انزعاج شديد، كان العالم لا يزال لديه الأمل في إنقاذ سوريا من جحيم العنف المتصاعد.
صباح الإثنين الماضي، نقلت الصحف ووكالات الأنباء الدولية تقريرًا جديدًا عن منظمة هيومان رايتس ووتش، يؤكد استخدام القوات النظامية السورية وحليفتها الروسية للقنابل العنقودية المحرمة دوليًا على نطاق واسع في قصف مناطق عامرة بالمدنيين.
وثّقت هيومن رايتس ووتش في تقريرها 47 هجمة بالذخائر العنقودية، أسفرت عن مقتل وجرح عشرات المدنيين في الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة في 3 محافظات منذ 27 مايو/أيار 2016. وذكر التقرير في نصه: "العدد الفعلي لهجمات الذخائر العنقودية على الأرجح أكبر من ذلك".
لم يكن التقرير الذي أصدرته المنظمة هو الأول من نوعه بشأن سوريا، التي وثقت المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية وعدد من لنشطاء الأفراد داخلها في عشرات التقارير والفيديوهات المنقولة منذ 2013، ما يثبت دأب الأطراف المتصارعة -وعلى رأسها النظام السوري- على استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا ضد مدنييها.
في تقريرها المعنون "سوريا، مستقبل مشوه" بمناسبة اليوم العالمين للاجئين، تحدثت منظمة هانديكاب الدولية Handicape عن الخسائر البشرية للقصف الذي تتعرض له المناطق السورية. بحسب التقرير فقد تعرض 15% من الضحايا لبتر أجزاء من أجسادهم، بينما يعاني 80% من الصدمة والتوترات النفسية.
استخدام الأسلحة المحرمة في العالم العربي لا يقف عند سوريا التي تستعر فيها حربٌ أهلية، أغلب ضحايها من المدنيين غير المحسوبين على الأطراف العديدة المتصارعة. فإلى الجنوب، يشهد اليمن انتهاكات مستمرة تتعامى عنها المنظمات الدولية الحكومية، وعلى رأسها الأمم المتحدة التي أصدرت تقاريرًا مضللة تبرئ فيها السعودية من استخدام الأسلحة المحرمة في اليمن.
وليد ابن 11 عامًا فقد ثلاثة أصابع وانكسر فكه وفقد أخيه الأصغر بسبب انفجار ذخيرة عنقودية وجداها أثناء رعيّهم للغنم بالقرب من صعدة. يحكي وليد: "بدأت في سحب الخيط الأحمر بيدي اليمنى، وسحب أخي سميح الطرف الآخر، ثم حدث انفجار ووقعت على ظهري. سميح أصيب في معدته ووقع مثلي. لم نكن نعرف أن ما نفعله خطأ".
كان عمر سميح ثمانية أعوام عندما مات بسبب القنبلة العنقودية، وأصبح واحدًا من ستة أطفال على الأقل يموتون يوميًا في اليمن، منذ بدء الطلعات الجوية التي تقودها السعودية ضمن "عاصفة الحزم". أما وليد البالغ أحد عشر عامًا فقد أصيب بكسر في الفك وجروح مختلفة في قدميه وصدره، بالإضافة لفقد أصابع ثلاثة من يده، بسبب القنبلة ذاتها التي قتلت أخيه.
بمجرد الإعلان عن اختيار السعودية لرئاسة إحدى لجان مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة؛ ثارت الانتقادات الحقوقية الدولية من المنظمات غير الحكومية. فالسعودية التي تملك واحد من أسوأ الملفات في مجال حقوق الإنسان؛ هي قائدة التحالف الذي يخوض حربًا مفتوحة في اليمن تحت اسم "عاصفة الحزم". حيث قامت منظمات إنسانية عالمية في السابع والعشرين من يونيو/ حزيران الماضي، من بينها منظمتا العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، بإعلان بيان طالبوا فيه بتعليق عضوية السعودية في مجلس هيئة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة.
واتهم البيان السعودية باستغلال موقعها في المجلس "لتحصن نفسها في وجه المساءلة عن انتهاكاتها في اليمن". وجاء في نص البيان: أنه منذ 26 مارس/آذار 2016 "شن هذا التحالف (عاصفة الحزم) هجمات عديدة خرقت أحكام القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك هجمات جوية عشوائية غير متناسبة، قتلت وجرحت العديد من المدنين. ودأبت [السعودية] وبصورة متكررة، على استعمال الذخائر العنقودية المحرمة دوليًا، بما في ذلك في المناطق المأهولة بالسكان المدنيين".
تلا إعلان ذلك البيان إشارات لتقارير سابقة حول حقيقة ترأس المندوب السعودي في الهيئة الأممية لإحدى الجلسات لاختيار الاستشاريين، وخروج التحالف الذي تقوده السعودية من اللائحة الأممية لقتلة الأطفال، بعدما مارست السعودية ضغوطًا، وهددت بوقف مساعداتها للفلسطينيين ووقف تمويل برامج أخرى للأمم المتحدة.
و لكن أهم ما يثير الانتباه في كل ذلك، وما أسماه البيان بالصدمة؛ هو "الصمت المطبق من المجتمع الدولي، والذي تنازل بشكل متكرر [أمام] لضغوط المملكة العربية السعودية"؟
اتفاقات وبروتوكلات وضحايا
المشهد "المسكوت عنه" في اليمن تشهد به تقارير المنظمات الدولية المعنية بضحايا الاقتتال. ففي تقريرها الأخير الصادر 23 مايو/ أيار 2016، عن استخدام التحالف الدولي بقيادة السعودية للأسلحة العنقودية في اليمن؛ تحصي العفو الدولية شهادات مرعبة عن ما تسببه بقايا الأسلحة غير المنفجرة. "النازحون العائدون لبيوتهم يواجهون حقول ألغام حقيقية".
لكن، ما هي الأسلحة المحرمة دوليًا؟ علام يعتمد تحريمها بينما يُسمح بالاقتتال والصراع؟ وما هي الاتفاقات المنظِّمة لاستعمالها؟
تاريخيًا، ورغم أن أول نص عن حظر استعمال أسلحة بعينها كان في بروتوكول جنيف عام 1925، فإن جذور المحاولات تعود للقرن التاسع عشر، وتحديدًا كود ليبر عام 1863، المعروف أيضا باسم "تعليمات لقيادة جيوش الولايات المتحدة في الميدان- الفقرة 100"، الذي وقعه الرئيس الاميركي أبراهام لنكولن، والذي يحدد ما يجب على قوات الاتحاد القيام به خلال الحرب الأهلية الأميركية، ويعد أول محاولة لتدوين قانون حرب. وضع هذا الكود فرانسيس ليبر، وهو فيلسوف أمريكي- ألماني، وأستاذ في جامعة كولومبيا. ورغم أن هذا التشريع لم ينص على تجريم استخدام أسلحة بعينها؛ إلا أنه عُدّ بمثابة أساس لمشروع اتفاقية دولية بشأن قوانين الحرب، قُدمت في مؤتمر بروكسل عام 1874. كما كان له أثر كبير في إقرار مواثيق لاهاي فيما بعد.
من ضمن بنوده ال157، نجد البند 23 ينص على "عدم قتل المواطنين أو استعبادهم أو تهجيرهم". أما البند 68 فينص على أن "الحروب الحديثة ليست حروب إبادة هدفها قتل العدو. هزيمة العدو في الحرب الحديثة يكون بتحقيق الهدف الذي تسعى له الدولة المحاربة، بغض النظر عن الحرب. فكل قتل غير مفيد أو حدث بهدف الانتقام هو عمل غير قانوني".
فيما بعد، تم توقيع اتفاقيتي لاهاي عامي 1899 و1907، اللتان كانتا نتيجة لمفاوضات سلام. وتُعدّ وثيقة 1899 أول اتفاقية متعددة الأطراف تتناول السلوك في الحرب.
هواء محمَّلٌ بالكراهية
قد تبدو بعض المبادئ التي أعلنتها الاتفاقيات الدولية التي تعتمد على مبادئ حقوق الإنسان مجرد خيال رومانسي بعيد عن واقع الحرب والصراعات؛ إلا أن استمرار عقد الاتفاقيات الدولية حول ممارسات الحرب، والمطالبات المستمرة باحترامها، ليسا إلا دليل على واقعيتها وأهميتها للمجتمع البشري. إذ أن وراء كل بند حالة أو مشهد مرعب أو شهادات مأساوية. ونبدأ باستعراض بروتوكول جنيف 1925، الذي كان أول اتفاق لمنع استخدام سلاح بعينه، حيث نص على حظر الاستعمال الحربي للغازات الخانقة أو السامة، أو غيرها والوسائل البكتريولوجية.
تاريخيًا، يعود استخدام السلاح الكيميائي للعصور القديمة: فخلال حرب بيلوبنيز في اليونان القديمة، قام الاسبرطيون باستعمال بخار الزرنيخ (431-404 قبل الميلاد). لكن التطور المهم بدأ مع تطور علم الكيمياء والتقنيات المعملية. ويعدّ الفرنسيون أول من استخدم الغاز في الحرب العالمية الأولى، حيث استعملوا قنابل الغاز المسيل للدموع، ثم استبدلوها بغاز كلوراسيتون. لكن الاستعمال الأخطر؛ كان في معركة إيبر الثانية عام 1915، عندما استعملت القوات الألمانية قنابل الكلور للمرة الأولى.
كانت تلك القنابل تشكل غيمة رمادية مخضرة عند انفجارها، تقتل فور استنشاقها. فوُجّهت الاتهامات لألمانيا بخرق الاتفاقيات الدولية، لكن الرد الألماني كان جاهزًا: "لقد منعت الاتفاقيات استخدام المواد الكيميائية، لا الغازات"، واستمرت في استعماله حتى معركة على جبهة فارسوفي في بولونيا، قُتل فيها ألف جندي روسي، ما فتح الباب مجددًا لإعادة النظر في استعمال الغاز في الحروب.
التطور الكبير في استعمال الغاز كان أيضا في اعتماد تقنيات الاستهداف، فلم يعد الاعتماد على تكوين غيمة تتحرك ببطء ويتحكم الهواء في اتجاه سيرها، بل استخدام قواذف العبوات التي تقلل من احتمالات المصادفة وترفع من نسبة التأثير، كما بدأ استعمال غاز الخردل. في نهاية الحرب، كان قد تم استعمال 125 ألف طن من المواد الكيميائية السامة، تسببت في موت أكثر من 100 ألف شخص، وسببت إعاقات دائمة لأكثر من مليون شخص. وشهدت مدن أوروبا صفوفًا طويلة من الشباب المصابين بحروق، المشوهين أو العميان ينتظرون الحصول على الإعانة أو العلاج.
هذه المشاهد أثارت الرأي العام الأوروبي ورسّخت الكره لهذه الأسلحة. وأدت الضغوط لتوقيع اتفاقية 1925. لكن كان يشوب هذه الاتفاقية نقص الكثير من النقاط: إذ لم تحدد الأسلحة ولا العوامل الكيميائية الممنوعة، كما أن البروتوكول منع الاستعمال أثناء الحرب، دون تحديد ما يقع تحت هذه التسمية: فهل المقصود الصراع بين الدول فقط، أم أن الصراع الداخلي أيضًا تُحَرَّم فيه هذه الأسلحة؟ إضافة إلى أن الدول المُوقِّعَة كانت غير ملتزمة بالاتفاقية لو كان العدو دولة لم توقِّع على البروتوكول. ولم تُخضِع الاتفاقية استخدام الأسلحة الكيميائية لأي نوع من الرقابة.
رغم ذلك وبسبب ثغرات في الاتفاقية، استمر إنتاج الأسلحة الكيميائية، وتم استعمالها في حرب إثيوبيا الثانية 1935-1936، تحت ذريعة التحرر من ممارسات بدائية، ومحاولة دفع إثيوبيا للانفتاح على المجتمع العالمي. فاستعملت القوات الايطالية وبأوامر مباشرة من بينيتو موسوليني 60000 قنبلة معبأة بغاز الزرنيخ، و1000 طن من قذائف غاز الخردل، ألقيت فوق مدنيي إثيوبيا في سبيل "تحريرهم من التشويه وتجارة الخصيان، وممارسة أكل لحوم البشر، تعذيب الأطفال، وكراهية الأجانب، والقسوة، [بالإضافة لتحقيق] الاحتياجات الحيوية للشعب الإيطالي".
دومًا ما وجدت السلطات مبررات تبدو إنسانية لممارسة أعمال غير إنسانية كاستخدام أسلحة الدمار الشامل، خصوصًا في الصراعات البعيدة عن الاهتمام الدولي، حتى أن اليابان في حربها ضد الصين1937-1945، وبتصريح مباشر من الإمبراطور شووا استعملت الغاز السام 375 مرة، وذلك ضمن ممارسات أخرى أدينت في وقتها كجرائم حرب.
عرب ضد عرب
عربيًا، قامت مصر أثناء حربها في اليمن 1963-1967، باستعمال غاز الخردل في حربها ضد الملكيين. حيث سُجِّل هجوم مصري بغاز الخردل في عام 1963 ضد قرية الكومة. ثم استخدمته العراق خلال حرب الخليج الأولى التي خاضتها ضد إيران خلال معركة استرجاع الفاو من إبريل- إلى يوليو 1988 (عمليات توكلنا على الله). وقبلها بشهر في الهجوم على حلبجة في يوم الجمعة الدامي عام 1988، والذي راح ضحيته أكثر من 5000 شخص. ولا يزال الأخير يُعتبر أكبر هجوم مباشر بالأسلحة الكيميائية ضد مناطق مأهولة بالمدنيين في التاريخ.
"في البداية كانت الرائحة سيئة، مثل القمامة. بعد ذلك أصبحت طيبة كالتفاح الحلو. ثم كالبيض...ثم الطير(الحجل في قفص ابيها) كان يحتضر". نسرين عبد القدير محمد في شهادتها عن المذبحة في النيويوركر.
كان على العالم الانتظار حتى عام 1993 لتوثيق معاهدة منع الأسلحة الكيميائية، التي نصَّت على منع تطوير وتصنيع وتخزين واستعمال الأسلحة الكيميائية، ووضعت أسس للتخلص منها.
يومها؛ اعتبر البعض هذه الوثيقة انتصارًا لجهود العمل الإنساني، فهل كان الأمر كذلك؟
الإجابة تظل عند العرب أيضًا، فيمكن القول مجازًا؛ أن مذبحة الغوطة بسوريا حدثت تحت أنظار وأسماع العالم. ليس المقصود بذلك هو نقل وقائع الحرب عبر الإنترنت وغيرها من وسائل الاتصال؛ بل أن المذبحة تمت أثناء زيارة خبراء من الأمم المتحدة لدمشق في 18 أغسطس/ آب 2013، لفحص اتهامات المعارضة للجيش النظامي السوري باستعمال أسلحة كيماوية ضد المعارضة، في مناطق مأهولة بالسكان في حمص وخان العسل وجوبر. إذن، وفي الغوطة التي تقع شرقي دمشق العاصمة في الساعة الثالثة صباح يوم 21 أغسطس 2013، نفّذ النظام -تحت أنظار الأمم المتحدة- قصفًا بغاز السارين، أدى إلي وفاة 1300 بحسب المعارضة السورية.
السلاح البيولوجي.. الظل الأسود
قد يخطر لذهن القارئ أن اعتماد الأسلحة البيولوجية/ البكتيرية بدأ مع الثورة العلمية في القرن العشرين، وأنه وليد خيالات علماء مهووسين بالعظمة؛ إلا أنه في الحقيقة أقدم بكثير مما نعتقد. ورغم أن اكتشاف البكتيريا كمسبب للأمراض المعدية، والتعرف على وسائط ناقلة لها هي معارف حديثة؛ إلا أن الاعتماد على نشر المرض لقتل العدو كان معروفًا لدى الإنسان قبل 3500 عاما على الأقل.
"ليس هناك شك في أن هذا كان أول أسلحة الدمار الشامل"، يقول سيرو تريفيسانتو، وهو دكتور متخصص في الكيمياء العضوية، قبل أن يكمل حديثه عن الوباء الغريب الذي انتشر في فترة القرن الرابع عشر قبل الميلاد في منطقة سوريا ولبنان وفلسطين والعراق، تزامنًا مع حرب الحثيين على المدن الفينيقية: "لقد كانوا (الحثييون) يعتمدون الإرهاب البيولوجي. كانوا يتركون جثث أغنام نافقة قرب أسوار المدن المستهدفة".
عمل الدكتور تريفيسانتو كثيرًا على دراسة "البلاء الحثِّي" بحسب ما وردت أعراضه في الوثائق القديمة، وقارنه بأعراض حمى التوليرمي Tularemia أو حمى الأرانب، الذي يسبب الطفح الجلدي وضيق التنفس ويؤدي لموت 15% من المصابين به. وهو مرض ينتقل من الحيوانات إلى الانسان. أما العامل البيولوجي المحفز للإصابة فهو عضيات "الفرنسييلا تولارنسيس" التي أدرجتها القوات الأميركية ضمن البكتيريا التي يمكن استخدامها كسلاح بيولوجي.
يقول تريفيسانتو: "الكثير من الوثائق القديمة تتحدث عنه [الوباء الحثّي]، ومنها رسالة للفرعون المصري الملك إخناتون عن منع دخول الحمير لبعض المدن الفينيقية، لأنها أيضا كانت ناقلة للعدوى". لقد نجت مصر من الوباء بسبب سياسات الحجر الصحي التي كانت تُتَبع على حدود المملكة.
في الصراعات وفي محاولة للتخلص من الخصم تستباح كل المحرمات، فلا يتوقف الأمر على استعمال جثث الحيوانات النافقة؛ بل تسميم الآبار بالفضلات، أو حتى رمي الجثث البشرية وراء أسوار المدن المحصنة، كما كان يحدث خلال حروب العصور الوسطى. ففي عام 1346، وأثناء حصار التتار لكافا الواقعة في أوكرانيا الحالية، انتشر وباء بين المهاجمين، فتراجعوا عن الحصار. ثم جاءت لقائدهم فكرة جهنمية بحق، فأمر بقذف جثث جنوده الموبوءة بالمقاليع لداخل أسوار المدينة، لينتشر الطاعون في أنحائها ويخلف الكثير من القتلى، ثم ومنها -كما يعتقد المؤرخون- نحو أوروبا، حيث حصد الطاعون الأسود في تلك الحقبة -وخلال خمس سنوات من تقدمه البطيء- نصف سكان القارة، أي ما يعادل 25 مليون نسمة.
والطاعون الأسود هو عدوى تسببها بكتريا يرسينا العصوية وناقلها للبشر هم البراغيث.
لم يكن هنري بوكيت مجرد مقاتل مرتزق يسعى لكسب عيشه من القتال. كان أكثر من ذلك. كان يحمل إلى جانب سلاحه كرهًا ومقتًا لمن سماهم بالمتوحشين. مراسلاته مع كل من الحاكم العسكري لفرنسا الجديدة، والظابط سيمون إيكويه عام 1763 خلال حرب بونتياك بين القوات البريطانية والسكان الأصليين الثائرين، تُعد من أهم الوثائق لما يعتبر أول استعمال لسلاح بيولوجي في أميركا الشمالية.
أثناء حصار حصن "بيت" بمقاطعة بنسلفانيا شمال شرق الولايات المتحدة، اقترح بوكيت تقديم أغطية ملوثة للسكان الأصليين. لازالت الطريقة غير معروفة حتى الآن، حيث يقترح بعض المؤرخين، أن ما حدث كان مجرد تبادل لأغطية مستعملة من المستشفى العسكري، بينما يتحدث آخرون عن تقطيع الأغطية ووضعها في علب محكمة الإغلاق وإهدائها للسكان الأصلين. مهما تكن الطريقة، فقد انتشرت العدوى بين السكان الأصليين وأدت لموت أعداد كبيرة منهم.
وقد تتمثل سخرية القدر هنا، أنه بعد ترقيته كجنرال لكل القوات البريطانية في المستعمرات الأميركية؛ يموت بوكيه متأثرا بعدوى الحمى الصفراء.
و بالرغم من الاتفاقيات؛ إلا أن معظم الدول الكبرى، كانت ولا تزال تمتلك مختبرات بحث حول الأسلحة البكتريولوجية وطرق الحماية منها، أو بهدف دراستها فقط. لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك مع حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
دكتور الموت والسلاح العرقي
في عام 1996 وخلال أعمال لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا التي شُكِّلَت بهدف تعزيز الوحدة الوطنية والمصالحة، خلال المرحلة الانتقالية بعد نهاية حكومة الفصل العنصري؛ تم الكشف عن الأنشطة البيولوجية والكيمياوية للوحدات السرية التي يديرها الدكتور "ووتر باسون" أخصائي القلب، ليُكشَف الغطاء عن مشروع كوست Coast 1981-1993 الذي أنشأته ومولته حكومة الفصل العنصري، والذي يهدف للتحكم بالتطور السكاني لأصحاب البشرة السوداء.
تعددت الشهادات حول حقيقة الأسلحة التي تم تطويرها أو إجراء التجارب لها، كما تعددت النظريات والخيال؛ فمن حبوب تغيّر لون الجلد وتسهل تسرب العملاء في منظومات المعارضة المسلحة الإفريقية، إلى مواد سامة قاتلة لا تترك أثرًا ويتم تحميلها على مواد استهلاكية وتوزيعها على أبناء البشرة السوداء، أو موانع حمل تحدث خللاً جينيًا في النساء وتمنع تقبل البويضة لأي تزاوج مع مُخصِّب من أصل إفريقي، حتى محاولة الوصول للقنبلة السوداء، بتطوير بكتريا قاتلة تستهدف ذوي الأصول الإفريقية دون غيرهم.
تطول اللائحة والاتهامات ولكنها لا تصل لشئ. فبعد ثلاثين شهرًا من سماع 153 شاهد ودراسة لائحة من 46 اتهام ودراسة 40 ألف وثيقة تتحدث عن أساليب تسميم وحوادث قتل، تمت تبرئة "دكتور الموت" ووتر باسون، والسماح له بمزاولة عمله في منصبه الحكومي كمستشار للدفاع الوطني أو في عيادته الخاصة.
فهل فشلت الاتفاقيات؟
تنصّ اتفاقية ccac 1980 على حظر بعض الأسلحة التقليدية، والمقصود هنا هو أسلحة كان من التقليدي استعمالها في الحروب، وعادةً ما يتم الاستعانة بها. إلا أنها مُنعت بسبب ما تنتجه من أثار مفرطة الضرر.
تضم هذه الاتفاقية خمسة بروتوكولات:
أولاً: منع الأسلحة المسببة لشظايا لا يمكن تحديدها: والمقصود استعمال كل سلاح يكون من أثاره الرئيسية إحداث جرح بشظية لا يمكن العثور عليها باستعمال أشعة إكس، كالشظايا الزجاجية أو البلاستيكية. وذكرت لجنة الصليب الأحمر الدولية أن جميع الدول وافقت على هذا البند لدى عرضه في مؤتمرها الدولي السادس والعشرين.
ثانيًا: منع أو تحديد استعمال الألغام، الأفخاخ وغيرها: وعليه يجب أن يكون في اللغم آلية لتعطيله، ويمكن تحديد مكانه، وأن تكون المناطق المزروعة بالألغام معروفة ومعرّفة بلوحات. كان هناك انقسام حول هذا البروتوكول بسبب انه لم يكن يغطي الصراعات الأهلية التي يتم فيها اللجوء كثيرا لهذا السلاح. وتم في عام 1997 التوقيع على اتفاقية منع الألغام ضد الأفراد، والتي منعت حيازة أو تصنيع أو تخزين أو استعمال هذه الألغام.
رغم ذلك ففي تقريرها السنوي عن عام 2015، أعلنت الحملة ICBL أنه بين عامي 2014 و2015 تم استعمال الألغام ضد الأفراد من قبل حكومات كوريا الشمالية، ميانمار وسوريا. وهي بلدان غير موقعة على اتفاقية 1997 . كمان أن هناك قوات غير حكومية تقوم بتصنيع هذه المتفجرات في بلدان عديدة منها سوريا. وأنه في عام 2014 تم إحصاء 3678 ضحية بسبب الألغام ضد الأفراد وبقايا المتفجرات.
ثالثًا: الحد من، ومنع استعمال الأسلحة الحارقة: ويشمل ذلك القنابل الفسفورية والنابلم سواء ضد الأهداف المدنية أو العسكرية الموجودة داخل مجمعات مدنية. رغم أهميته فالبروتوكول لا يغطي سوى الأسلحة التي تُستعمل تحديدًا لحرق هدف بعينه، ولا يشمل تلك التي تؤدي للحرق كأثرٍ جانبي وهكذا فالأسلحة التي تستعمل الفوسفور الأبيض لخواصه الدخانية او للإنارة لا تقع تحت هذا البند.
أما الفوسفور الأبيض فليس سلاحًا غريبًأ عن المنطقة العربية للأسف، فقد تتبع الملايين عبر شاشات التلفاز تلك القذائف الدخانية البيضاء التي تكاد تشبه الألعاب النارية في أثرها أيام الاعتداء الأمريكي على الفلوجة عام 2004. كما استخدمته اسرائيل بكثافة في عدوانها على قطاع غزة عام 2009. فقد ذهب ضحية القصف بالقنابل الحارقة على مدرسة تابعة للأونرو في يناير ٢٠٠٩ فقط ٤١ شخص معظمهم أطفال.
وعندما اتهمها تقرير الهيومن رايتس واتش بأن استعمال الفسفور لم يكن لأهداف حماية قواتها، بل تم في أماكن مأهولة بالسكان لم يكن للقوات الاسرائيلية أي تواجد فيها، وكان "طريقة عمل وأسلوب"؛ كان الرد الإسرائيلي الرسمي: أن استخدام الفوسفور الأبيض كان لأهداف تقنية محددة، ولم يتعارض مع القوانين الدولية. وأنها (القوات) اضطرت للقصف ليلاً لمفاجأة عناصر حماس، ولذلك فقد تم استعمال الفوسفور بهدف الإضاءة.
للأسف؛ إسرائيل لم توقع على معاهدة منع الأسلحة الفوسفورية ومن غير الممكن ملاحقتها قانونيًا. وحاليًا تستخدمه القوات الروسية الحليفة للنظام السوري لقصف مناطق من حلب.
رابعًا: منع استعمال الأسلحة التي تعتمد أشعة ليزر، والتي تؤدي للإصابة بالعمى الدائم. وما يميز هذا البروتوكول؛ هو منعه لسلاح لم يتم بعد استعماله في أي معركة. تم التوقيع على هذا البروتوكول في عام 1995.
خامسًا: آخر بروتوكول تم توقيعه عام 2003، وينظم مسألة البقايا المتفجرة للحرب كالذخائر العنقودية أو القذائف غير المنفجرة بعد انتهاء العمليات المسلحة. ونص على أن على البلدان أطراف النزاع عليها وضع إجراءات للتقليل من وجود هذه البقايا. ويعتبر إعلان ويلنجتون في عام 2008 ردًا حاسمًا على ضعف هذا البروتوكول. إذ ينص إعلان ولينجتون الموقع في أوسلو على منع استعمال وتصنيع وتخزين هذا النوع من الأسلحة.
رغم ذلك وبحسب منظمة هانديكاب المهتمة بالمعاقين والعمل الإغاثي، فما نشهده من ازدياد عدد الضحايا المدنيين في مناطق الصراع المسلح، لا يرجع إلى قصف التجمعات السكنية والأهداف المدنية؛ بل بسبب ازدياد الاعتماد على أسلحة محرمة دوليًا. ففي تقريرها الصادر في يونيو/حزيران بمناسبة اليوم العالمي لمنع الألغام والأسلحة العنقودية؛ أعلنت المنظمة أن استعمال الأسلحة المحرمة وصل لرقمٍ قياسي غير مسبوق منذ عام 2010. وأن ضحايا هذه الأسلحة ازدادوا في مناطق وقعت اتفاقيات حظر الأسلحة المحرمة.
للأسف، فاستعمال الأسلحة المحرمة دوليًا لم يقتصر على الألغام والقنابل العنقودية؛ فقد أعلنت الجمعية الطبية الأمريكية السورية في تقرير لها في العام الماضي من مقرها في نيويورك؛ أن النظام السوري استعمل الأسلحة الكيميائية أكثر من 31 مرة بين شهري مارس ويونيو فقط، واستشهد التقرير بالأرقام والصور الفيديوهات. كما وثّق التقرير حالة لاستعمال غاز الكلور.
مؤخرًا ومع دخول القوات الروسية بشكل رسمي في الصراع بدأت تنتشر دلائل عن استعمال الأسلحة الحارقة. وتم تسجيل أول حالة لاستعمال الروس القنابل الفسفورية في نوفمبر/ تشرين ثان 2015، عند قصف بلدية بينين في ريف أدلب.
قد يبدو إنهاء هذا المقال بما قالته بيترا شروتر مديرة منظمة هانديكاب الدولية، أمرًا سوداويًا تظلله نزعة تشاؤمية؛ إلا أنه أيضا قد يكون كالترياق المكون من أصل المرض. صادم بعض الشئ لكنه حقيقي. إذ أنه علينا نحن كمواطنين عالميين، وخصوصًا كأبناء للشرق، الوعي للأثار المترتبة على الصراعات، وخصوصًا تلك التي تقودها نزعةٌ ضاريةٌ لزرع الموت. إن الاستمرار والاجتهاد لفرض العمل بالاتفاقيات المحرمة لهذه الأسلحة، بل ومحاولة التوصل لما هو أنجع؛ هو نضال حقيقي وصعب قد تبدو معه صورة عالم من غير حروب مجرد سراب، إلا أن التخاذل والصمت عن إيذاء "الآخر" لن ينقذ أحدًا.
[1]- أبيات للداعية السعودي عائض القرني ألقاءها احتفالا بـ"عاصفة الحزم"
[2] - من نفس القصيدة السالف ذكرها.