خمسة أمتار في خمسة أمتار هي مساحة تلك الغرفة التي تقبع في زاوية من زوايا "جراج" عمارة كبيرة في حي يدعى "تلاع العلي" في العاصمة عمّان، تحيط بها من الخارج سيارات السكان وخزانات المياه، ومن الداخل تكسو الرطوبة الجدران، مخلفة تشققات تنبئ بكم شتاء مرَّ على هذه الغرفة، المأهولة بثلاثة من المصريين.
يعمل عبده وزكريا وأبو أحمد حراس عمارات في منطقة "تلاع العلي" غربيّ عمّان، وهي المنطقة التي تضم أرقى أحياء العاصمة الأردنية. في نهاية اليوم، يأوي الثلاثة إلى هذه الغرفة الضيقة ذات الجدران المتشققة، التي تتكدس فيها ملابس الثلاثة فوق بعضها على شكل جبل يحمل أمتعة، يستظل بالستارة التي اشتراها أبو أحمد ليغطي بها الحمام كبديل عن بابه المكسور، ناهيك عن مدفأة الكيروسين التي تتوسط الغرفة، وتكاد أن تحجب شاشة التليفزيون التي تعرض قناة إم بي سي مصر.
ومع كل مرور جديد لفصل الشتاء من كل عام، يتذكر عبده، الذي يفتخر بأن أصله من محافظة البحيرة في مصر، كم أن "الغربة مُرَّة"، ليس لأنه بعيد عن زوجته وأبنائه وأمه الأرملة فقط، بل لأن فصل الشتاء كما يقول "يكشف الستارة عن فقرنا"، قالها وهو يشير إلى جالون الكيروسين الذي كاد أن ينفد، بالتالي فهو على موعد مع عبء مادي جديد، لتعبئته تفاديًا لبرد عمّان القارص، ويسأل مع ضحكة تحمل كثيرًا من الألم "وتسألين ليه نعيش ثلاثة في غرفة ضيقة؟".
ينفي عبده أنه يتعرض لأية مضايقات سواء من صاحب العمل أو من سكان العمارة، لكن الخوف الذي يلازمه هو وزميليه "كابوس أن يضبطنا رجال الأمن في الشارع"، ذلك لأنهم لا يملكون تصاريح عمل تمنحهم شرعية التجول بأريحية خارج "أسوار" الشارع المتواجدة فيها العمارات التي يحرسونها، والسبب كما يقول "مصيرنا بين يدي صاحب العمل السابق الذي كنا نعمل في مزرعته".
ويفسر ذلك بسرده، أنه وزكريا وأبو حمد كانوا يعملون قبل ثلاثة أعوام في مزرعة شمالي الأردن، وحصلوا على تصاريح عمل عن طريق صاحب المزرعة، لكنه كان يستغل حاجتهم الملحة هذه بساعات عمل طويلة كانت تتجاوز أحيانًا الـ 13 ساعة في اليوم، وهو ما يخالف قانون العمل الأردني الذي يمنع أن تتجاوز ساعات عمل أي عامل سواء أردني أو وافد ثماني ساعات.
لم يتوقف الأمر عند ساعات العمل الطويلة، بل كان صاحب المزرعة يتأخر في صرف الرواتب، "كان يقطر علينا الراتب حسب مزاجه" كما يقول عبده، فضلًا عن أن الراتب كان أقل من الحد الأدنى للأجور العمالية في الأردن، حيث كان يعطيهم مقابل 13 ساعة عمل يومية وأحيانًا حرمان من العطلة الأسبوعية حوالي 180 دينارًا (253 دولارًا أمريكيًا)، فيما ينص القانون على ألا يقل الحد الأدنى للأجر عن 260 دينارًا (366 دولارًا).
يشكل العمال المصريون النسبة الأعلى من نسبة العمال الوافدين في الأردن، وتصل إلى 67%.
"كل ذلك هم وإهاناته لينا همّ تاني" يقول أبو أحمد، وهو يتابع سرد قصته وزملائه، مبينًا أن صاحب المزرعة كان يتعامل معهم بـ"حيوانية"، ولا يقدر أي ظروف إنسانية لهم حتى لو كانت طارئة، ضاربًا المثل بإصابته بفيروس كورونا، ومع ذلك حرمه صاحب المزرعة من أخذ إجازة مرضية ولو ليوم واحد.
"الشغل صحيح ضرورة لكن الكرامة أهم"، يقول عبده في ختام حديثه، مبينًا إلى أنه وزكريا وأبو أحمد تركوا العمل في تلك المزرعة "علشان كرامتنا"، لكن كسلوك انتقامي حرمهم صاحب المزرعة من منحهم تصاريح عملهم بطريقة جعلت شرعية تواجدهم في الأردن معلقة بين يديه، وهو ما يقول عبده إنه يفسر تكدسه مع زميليه داخل غرفة تنهشها الرطوبة، وتعد ملاذهم الآمن، ويختم "الله كبير قوي، وأنا متأكد أن حقنا هيرجع ونرجع نتحرك بحرية".
"علشان ولادك يا وائل"
قصة عبده وزميليه تشبه كثيرًا قصة العامل المصري وائل ذو الثلاثة وثلاثين سنة، الذي كان يعمل في واحدة من المزارع أيضًا، وتخلى عن عمله بسبب وصول انتهاك صاحب العمل له حدَّ الضرب كما يسرد في حديثه معنا، "كنت أقول معلش، استحمل، كل دا عشان لقمة عيش ولادك يا وائل".
ويضيف "كنت أتحمل ساعات العمل التي كانت تصل إلى 11 ساعة في اليوم، وأتحمل صوت صاحب المزرعة وهو يشتمني ويهينني، لكن لما وصل الحد لأنه يضربني بالحزام، هنا قلت ستوب خلاص"، وأضاف أنه وبفضل صديق أردني له، استطاع أن يقدم شكوى بحق صاحب المزرعة إلى وزارة العمل التي وكلت بدورها محام للدفاع عنه و"بفضل الله وبفضل القضاء انتصرت على صاحب العمل وأخذت حقوقي المادية وحتى المعنوية"، وعندما ختمنا الحديث معه سألناه عن عدد ساعات عمله في اليوم، كحارس عقار، وأجاب "حسب آخر رنة تليفون من أحد سكان العمارة التي أحرسها، فطلبات السكان لا تنتهي ولا تعرف عطلات نهايات الأسبوع، لكن معلش كل دا عشان لقمة العيش".
ويشكل العمال المصريون النسبة الأعلى من نسبة العمال الوافدين في الأردن، وتصل إلى 67% وفق دراسة لمركز "تمكين" للعمالة المهاجرة، ويتجه أغلبيتهم في العمل في القطاعات الإنشائية والزراعية وحراسة العمارات وترى المديرة التنفيذية لمركز تمكين، ليندا كلش، أن أكبر انتهاك يتعرض له العمال المصريون في الأردن هو "التبعية"، ويعني نظام الكفالة.
وتوضح كلش، أن نظام الكفالة يجعل من "استقرار العامل المصري في الأردن بيد صاحب العمل، الأمر الذي يمنحه صلاحيات واسعة لممارسة الاستغلال الوظيفي بحقه، بحيث يمنح لنفسه صلاحية بحرمانه من الإجازات، ومن السفر أو حتى تغيير عمله، فضلًا عن أن جواز السفر يحتجز عند صاحب العمل".
وبيّنت مديرة المركز وهو واحد من مؤسسات المجتمع المدني المعني برصد الانتهاكات الواقعة على العمال الوافدين ، أن الانتهاكات التي تقع على العمال المصريين، تبدأ حتى قبل وصولهم إلى الأردن، حيث يحصلون على تصاريح عمل عن طريق سماسرة، ويصل سعر التصريح إلى أكثر من 2800 دولار أمريكي، وكثيرًا ما يُفاجأ عمال مصريون عند وصولهم الأردن أن السماسرة الذين تعاملوا معهم ليسوا أصحاب العمل، بل أشخاص وهميين.
أما عن القطاع الزراعي "حدثي ولا حرج" كما تضيف كلش، بدءًا من الفجوة التشريعية، وذلك بسبب عدم وجود نظام لعمال الزراعة حتى للأردنيين منهم، ما يعني أنهم غير مشمولين بقانون العمل، كما أنهم يتعرضون لزيادة في ساعات العمل، معاملة مهينة وتهديد، وما يسهل ممارسة تلك المعاملة بحقهم أنهم يعملون في مناطق ريفية، أي مجتمعات صغيرة أغلب سكانها يعرفون بعضهم بعضًا، الأمر الذي يجعل العامل يخشى تقديم شكوى بسبب ما يتعرض له من إهانات، تحسبًا لتعرضه لنبذ جماعي من سكان المنطقة، في بلد يتميز بنظامه الاجتماعي القبلي.
وبحسب وزارة الخارجية الأردنية يصل عدد المصريين المقيمين في الأردن إلى حوالي 800 ألف نسمة، يشكّلون إحدى أكبر الجاليات المصرية بالعالم.
وفقًا لوزارة العمل الأردنية، يعمل المصريون في قطاعات مسموح للعمال المهاجرين العمل فيها، كالإنشاءات والمطاعم، ويستأثر قطاع الزراعة بالنسبة الأكبر منهم، ويعمل فيه 86 ألف عامل، يليه قطاع الخدمات الاجتماعية والشخصية ويعمل فيه 26 ألفًا.
"الله الحامي"
في ميدان الواحة الذي يقع أيضًا في عمّان الغربية، يجلس العامل المصري خالد ممدوح على الرصيف بجانب عشرات العمال المصريين، مرتديًا بنطالًا وقميصًا ملطخين بألوان مختلفة من الدهان المخلوط ببقايا الأسمنت، ينتظرون شاحنة أو سيارة يبحث صاحبها عن عمال بناء، وعند سؤالنا له كم مضى عليه وهو ينتظر أجاب "بقالي أكتر من أربع ساعات".
يعمل خالد عاملًا للبناء ويحمل تصريحًا من صاحب عمل أردني منحه صلاحية البحث عن مصادر رزق مختلفة، إضافة إلى عمله عنده بشكل متقطع في شركته، ولكنه لا يعدم المخاوف. يعود خالد بالذاكرة معنا إلى قصة المصريين الثلاثة الذين توفوا في حفرة امتصاصية قبل عام خلال عملهم بالإنشاء هناك، ويقول "الموت يحيط بنا باستمرار أثناء عملنا كعمال بناء، وكل مرة أحصل فيها على فرصة، أستودع نفسي إلى الله حتى لا أموت وأبنائي يصبحوا أيتامًا".
فبحسب قول خالد، تغيب ظروف العمل اللائقة والآمنة في مهنة الأعمال الإنشائية، وما حدث مع العمال المصريين الثلاثة الذين توفوا، مؤشر قوي على المخاطر في مهن عمليات البناء والتي قد تصل إلى الوفاة، لكن وكما يختم "الله هو الحامي".
عن ظروف العمل غير اللائقة؟ يوضح خالد "يكفل قانون العمل الأردني توفير سبل السلامة في المهن الخطرة، والقطاع الإنشائي يعتبر واحدة من المهن الخطرة وفق تعريف قانوني العمل وقانون الضمان الاجتماعي، لكن للأسف لا تترجم تلك الحقوق على واقع الأرض، فمهندسي العمارات التابعة للقطاع الخاص لا يوفرون دائمًا سبل السلامة، بدليل ما نسمع عنه من وفيات لعمال ومن انهيار عمارات مثل انهيار عمارة اللويبدة قبل شهور، ما أدى إلى وفاة عشرة أشخاص".
ويختم "في كل مرة أحصل فيها على فرصة عمل إنشائية ينتابني شعوران: السعادة بأنني على موعد مع رزقة من الله، والآخر الخوف من السقوط عن رافعة".
ووفق دراسة صادرة عن مركز تمكين للمساعدة القانونية يتعرض العمال الوافدون خلال عملهم في الأردن لانتهاكات عدة، تتمثل بطول ساعات العمل لمدد تزيد عن 10 ساعات في اليوم، وقد تمتد إلى 14 ساعة يوميًا، ومنهم من لا يحظى باستراحة أو بيوم إجازة.
ووفق الدراسة ذاتها، هناك عمال يعملون في قطاعات العمل المنزلي وحراسة البنايات وفي الزراعة، ويُمنعون من مغادرة المنزل أو مكان العمل، كون طبيعة عملهم تقتضي العمل عند الطلب على مدار 24 ساعة، ويُحرمون من عطلات نهايات الأسبوع والإجازات السنوية، فضلًا عن الانتهاكات التي يتعرضون لها والتي تصل إلى حجز وثائقهم الرسمية، ناهيك عن تعرض بعض العاملين لاعتداءات جسدية مثل الضرب واعتداءات نفسية مثل السب.
وفي عام 2010 توفي أربعة عمال مصريين بالأردن، اثنان منهم نتيجة الإصابة بضربة شمس شديدة جراء موجة طقس حارة تعرض لها الأردن، أثناء قيامهم بأعمال إنشائية في واحدة من مناطق جنوبي البلاد، التي تراوحت درجة الحرارة فيها بين 45 و50 درجة مئوية.
ووفق أحدث الأرقام الصادرة عن المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي، يقع حوالي 14 ألف حادث عمل سنويًا تتسبب في إصابات، منها متوسط 200 حالة تتوفى بسبب الإصابة، بمعدل إصابة عمل كل 37 دقيقة، ووفاة واحدة كل يومي.
نختم هذا التقرير، والأردن يشهد موجة انخفاض شديد في درجات الحرارة ودخوله بما يعرف بـ "المربعانية" أي أربعين يومًا من الطقس الشتوي المصاحب لانخفاضات عالية لدرجات الحرارة؛ وهنا يقول عبده وهو يحمل "قشاطة" لسحب ما أمكن سحبه من مياه الأمطار التي فاضت في المكان "أتمنى أن تتذكر سفارتنا المصرية في الأردن أن لها أبناء هنا، لا نطلب منهم أن يصرفوا علينا، كل ما نطلبه أن تحمينا من ظروف عملنا التي تهدد صحتنا وأوراحنا وتجعلنا نكره الغربة". وأضاف في ختام حديثه "سنصبر يا أستاذة، فليس بيدنا إلا الصبر".