يكاد النسيان أن يطوي "عَالِم الدين" الذي يتدفق الدم إلى وجهه، وينضح العرق من كل مسام جلده غزيرًا، حين يأتي على ذكر أمر يخص ثقافة الجنس وممارسته، مستجيبًا لسؤال مباغت من أحد المتحلقين حوله، وينصتون في إمعان إلى عظته، ويلملمون كل ما يجود به لسانه من تأويلات وتفسيرات وسرد حكايات وإسداء نصائح وإرشادت عن العقيدة والعبادات والمعاملات.
لا يعني هذا أن كل منتجي الخطاب أو الرسالة الدينية كانوا في الماضي يقطرون حياءً في مواقف كهذه، لكن عيش أغلبهم في مجتمعات محافظة مغلقة أوصد نوافذ عدة أمامهم للحديث البراح والمستريح في هذا الشأن، وجعل الطلب عليه شحيحًا لدى أناس يعتبرون الجنس سرًا دفينًا، وهم إن تجاذبوا أطراف الحديث حوله في التجمعات الذكورية فلا يحتاجون في حديثهم ذلك رأي الدين إنما إطلاق العنان للخيال في عرض مظاهر الفحولة، وإن تناولته الإناث في جلساتهن الخاصة فمن قبيل المباهاة بالقدرة على الغواية واصطياد الرجال وإمتاعهم.
لكن ثورة الاتصال الرهيبة نقلت ما كانت مجتمعاتنا تتهامس به عن الجنس إلى مجال مفتوح بلا حدود ولا سدود للتداول بجرأة بالغة، ورغبة محمومة في تحطيم التابو المتعلق به، وفضح المسكوت عنه في كل ما يخصه. وأتاحت الفضائيات والمواقع الإلكترونية، التي تتناسل بلا هوادة، لكثيرين، رجالًا ونساءً، أن يطرحوا ما عَنَّ وطاب لهم من أسئلة عن الجنس من دون خجل، مستترين خلف أسماء مستعارة أو ناقصة لا تدل على هوية المتكلم أو عنوانه. ولم يكن هناك مفر أمام علماء الدين وفقهائه من الاستجابة لذلك التحدي، الذي خلقته أسئلة واستفسارات واستفهامات موجهة إليهم، شأنهم في ذلك شأن الأطباء والأخصائيين النفسيين والاجتماعيين.
الحديث عن الجنس يفتح بابًا وسيعًا للشهرة، التي يسعى إليها كثير من شيوخ الدين
وعلى الوجه الآخر أصبح لدى منتجي الرأي الديني والفتوى وسيلة توفر لهم اتصالًا غير مباشر بجمهورهم العريض، ويتلقون الأسئلة حول الجنس ويجيبون عليها، عبر الأثير، الأمر الذي يحميهم من أي خجل قد يترتب على علاقة "الوجه للوجه"، ولديهم في الوقت نفسه ثلاثة أسباب ظاهرة تجعلهم يقبلون على الخوض في ذلك الموضوع، يمكن ذكرها على النحو التالي:
مبرر فقهي؛ ينطلق من أنه "لا حياء في الدين" ويحيل إلى أن الرسول كان يتحدث عن الأمور التي تخص المعاشرة والنكاح مع أصحابه إن سألوه عنها، وكان يحيل ما تريد النساء أن يستفهمن عنه في هذا الشأن إلى زوجته السيدة عائشة، التي نقلت إليهن الرأي الديني الصائب، ومن هنا جاء الإسناد دومًا إلى حديث منسوب للرسول يقول "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء" قاصدًا بها أم المؤمنين عائشة.
مبرر إنساني؛ فالسؤال عن الجنس والانشغال به مسألة لا مفر منها لأنه غريزة طبيعية، ولولا ذلك ما حافظ الإنسان على وجوده في الحياة. والدين مصدر أصيل للمعرفة عند الأغلبية الكاسحة من البشر، لا سيما في بلاد الشرق، ولأن مساره يجمع بين الروحي والمادي، وبين الدنيوي والأخروي، فإن الإجابات عن أسئلة الجنس من خلال الدين تصبح أكثر إقناعًا للقاعدة العريضة، أو بمعنى أدق أكثر طمأنينة لنفوسهم، حين يرومون الالتزام بـ"الحلال" والابتعاد عن "الحرام".
مبرر تجاري؛ فالفضائيات ليست مشروعًا رساليًا خاصًا، لا سيما المملوكة لأفراد، إذ يسعى أصحابها إلى الربح، أو على الأقل تغطية نفقاتها من دون زيادة ولا نقصان، ومن ثم فإن الإعلانات التجارية تشكل أهمية قصوى بالنسبة لها. ويحتاج جلب أكبر عدد من الإعلانات إلى برامج جاذبة للجمهور، حتى يمكن لمنتجي السلع والخدمات أن يطرحوا إعلاناتهم فيها وهم مطمئنون إلى أنها ستصل قاعدة شعبية عريضة، وذلك وفق قاعدة "العرض والطلب" الراسخة. وبالطبع فلا يوجد ما هو أكثر جاذبية من الحديث في الجنس. ويمتد ذلك المبرر التجاري إلى مقدمي البرامج أو ضيوفها أيضًا، إذ إن الحديث عن الجنس يفتح بابًا وسيعًا للشهرة، التي يسعى إليها كثير من الشيوخ، الأمر الذي يدل عليه افتعالهم لمشكلات عويصة أحيانًا، أو انخراطهم في أي جدل يحظى بإقبال اجتماعي عميق وواسع النطاق.
مبرر اجتماعي؛ فالمجتمعات العربية تعاني من زيادة معدلات تأخر الزواج لأسباب اقتصادية في الغالب الأعم، وكذلك ارتفاع نسب الذين يعانون من العجز الجنسي نتيجة إدمان المخدرات. ويحدث هذا في ظل انفتاح على العالم من خلال السفر الدائم للسياحة والتسوق والبعثات التعليمية كذلك الإنترنت والفضائيات التي حولت العالم برمته إلى "حجرة صغيرة". وهذا الأمر خلق وضعًا ضاغطًا بشدة على أعصاب المجتمع، مما أدى إلى وقوع انفجارات جنسية متوالية تتراوح بين التحرش والاغتصاب والبحث عن طرق تحايلية مشرعنة لتصريف الطاقة الجنسية الحبيسة كالزواج العرفي وزواج المسيار، وطرق أخرى غير مشرعنة مثل البغاء.
وأمام إلحاح المشاهدين على طرح الأسئلة في لهفة وبكل ثبات ورباطة جأش، لم يعد هناك أي سبيل أمام علماء الدين وفقهائه سوى تقديم الإجابات لهم بكل ثبات أيضًا
وهذا الوضع الاجتماعي الصعب يفتح بابًا لتدخل الدين من زاويتين، الأولى هي خوف علماء الدين من الانحلال واعتباره ترجمة لفشل مهمتهم في الحياة، والثاني سعي الناس أنفسهم إلى ما يرطب ضمائرهم أو يرضيها من ناحية التفكير في الجنس أو محاولة إشباعه، إذ يحتاجون إلى من يرسم لهم الحدود التفصيلية والفرعية بين "اللمم" و"الحرام". حتى لو كان كل هذا "بَيِّن" ولا يحتاج إلى نقاش وجدل، فإن أغلب الناس، لا سيما في حال الاستهواء، يصبحون بحاجة ماسة إلى رأي شخص يثقون فيه، أو يستعملونه أداة لترضية أنفسهم، أو تعزيز وجهتهم أو قرارهم الذي اتخذوه بالفعل، لذا يلجؤون إلى منتجي الخطاب الديني، لعل لديهم الفتوى والسلوى.
لكل ذلك وجدنا بعض الفضائيات تخصص برامج كاملة للحديث عن القضايا الجنسية، مثل تلك التي تقدمها المصرية الشهيرة هبة قطب، وهي إن لم تكن عالمة دين، فإن جزءًا من جرأة طرحها ودخولها إلى مناطق غير مأهولة في الحديث عن الجنس راجع إلى إسناد ديني يؤكد أن ما تفعله ليس حرامًا ولا مكروهًا؛ إنما ضروري وواجب.
وهناك برامج دينية تخصص حلقات للحديث في هذه المسألة، لعل من أولها وأشهرها تلك الحلقة الشهيرة في برنامج الشريعة والحياة على قناة الجزيرة، وقت أن كان يقدمها أحمد منصور واستضاف فيها الشيخ يوسف القرضاوي وتحدث باستفاضة وتفصيل ومن دون حواجز ولا خطوط حمراء عن "الممارسة الجنسية الشرعية".
وعلى القنوات الدينية الشهيرة مثل الناس والحافظ والرحمة والرسالة واقرأ، وغيرها طالما يستقبل الشيوخ أسئلة واستفسارات من المشاهدين حول الجنس، ويجيبون عنها بإحالات إلى تأويل لآيات والاستعانة بأحاديث أو آراء للفقهاء القدامي أو قصص وحكايات تراثية. وهناك أيضًا مواقع دينية على الإنترنت تتلقى أسئلة مفتوحة من المتابعين ويأتي الشيوخ ليجيبوا عليها، ثم ينقل الشباب هذه الإجابات على مدوناتهم الخاصة، والمنتديات، واتسع الأمر بعد انطلاق فيسبوك وتويتر.
وأمام إلحاح المشاهدين على طرح الأسئلة في لهفة وبكل ثبات ورباطة جأش، لم يعد هناك أي سبيل أمام علماء الدين وفقهائه سوى تقديم الإجابات لهم بكل ثبات أيضًا. وهكذا بدأت حواجز الخجل تنهار شيئًا فشيئًا، عند منتجي الخطاب والفتوى الدينية، تحت لافتة عريضة تقول "لا حياء في الدين ولا في العلم".