هناك فترة تتغير فيها نوعية القراءات لكلٍّ منا، تحدث فيها طفرة، تبعًا لنظرة جديدة بدأنا نرى بها الحياة، كأن ستارًا نُزع، لتكشف عن طبقات جديدة بداخلها. في تلك الفترة، لازمتني عادة؛ كنت أنسخ الجمل والفقرات والحوارات التي تمسني شخصيًا في كل ما أقرأه، التي تدعم ذلك التحول النفسي وتلك النظرة الجديدة، في قصاصات بيضاء صغيرة.
بالطبع كنت أركز على رصد نقاط التشابه بيني وأبطال السير الذاتية التي كنت أدمن قراءتها. كثيرًا ما كنت أعيد على الأصدقاء سرد نسخة شخصية من رواية المكان لآني إرنو، وسرد حكايتها مع أبيها، ربما تكفيرًا عن حكايتي مع أبي، فقد اشتركنا، أنا وهي، في ذلك الاعتراف المتأخر بالجانب الآخر والمغمور للأب، لكن للأسف جاء الاعتراف بعد موتهما.
مقاطع كاملة استقطعتها من الرواية وحولتها إلى قصاصات بيضاء صغيرة كانت تخص علاقتها بالأب، بجانب الفقرات الأخرى التي توجه فيها إرنو إصبع الاتهام تجاه الطبقة البرجوازية التي انتمت لها عند التحاقها بالجامعة، وسط موجات تمرد الطلاب عام 68، وبسبب هذه الطبقة الجديدة، بدأت تنظر لأبيها البقال نظرة متعالية مشبعة بالنقد. كانت تحاول الناقدة أن تتبرأ من سلوكياته أمام ذلك "الضمير البرجوازي" الذي اكتسبته وسط مجتمع الجامعة. لهذه الدرجة كانت الثقافة تقوم برحلة اغتراب عنيفة ضد العائلة، بل ضد كل ما يحيط بنا.
الوسواس الثقافي
كنت أعلق تلك القصاصات على جدران غرفتي في بيت العائلة قبل زواجي، كما تعلق صور العائلة، والآيات القرآنية. كانت الغرفة شبيهة بكتاب مفتوح على الدوام، يشبه الكتابات على جدران المعابد في مصر القديمة. لم أكن مؤلف ذلك الكتاب المفتوح، بل الناسخ. وذلك لا يلغي دوري الشخصي في الاختيار، أو في أحقيتي في تلك الكتابات، فالناسخ ربما يقف، أحيانًا، على قدم المساواة مع الكاتب، كونه المكتشف له ولكتاباته، والذي يعيد إنتاجها في صيرورة جديدة عبر تجربته الشخصية.
تحولت حوائط غرفتي إلى حوائط اعتراف، أقف أمامها صباحًا ومساءً، مثلما أطالع وجهي في المرآة. كانت تلك القصاصات مثل صورة دقيقة من نفسي، أتحقق من ملامحها حتى لا أنسى. كنت فرحًا بنظرتي الجديدة للحياة، وبكل ما يدعم ويقف مع تلك النظرة، وأحزن كثيرًا لو نسيت إحدى المقولات أو المعاني التي تقف وراءها، أو لو ضبطت نفسي أفعل عكسها. كان ذلك الفرح ينسيني قليلًا القيد الذي بدأت أنسجه حول نفسي، وتلك الشرنقة الجديدة التي بدأت أتقوقع بداخلها.
كان هناك نوع من "الوسوسة" الثقافية، مثل أي مؤمن، يعيد ويزيد ويكرر، إلى ما لا نهاية، حتى لا يفقد الخيط مع إيمانه. ثم جاء الزواج، فنزعت المقولات لأقوم بطلاء الغرفة، ومع الوقت نسيت المقولات وطويت الجدران في دوسيهات دخلت في أدراج المكتب، كملخص لتلك المرحلة.
كانت الحياة سائلة مثل النهر تذيب أي اختيارات أو أفكار، مهما كانت درجة قوتها. بعكس الفترة التي حدث لي فيها التحول، كانت الحياة حجرية كحوائط المعابد، أو مثل نقوش ذاكرة الطفولة، أي كلمة ستأخذ طريقها وتخلَّد وتكون شاهدًا ضدك أو معك يوم توزن الكلمات.
صار النسيان أقوى
مع سيولة تيار الحياة والزواج، صار النسيان أقوى من التذكر، وحلت أفكار جديدة، ربما أكبر من قدرتي على تلخيصها في جملة واضحة لها غرض محدد. لم أعد أشعر بالذنب لو نسيت أيًا من نصوص قصاصاتي. صار النسيان نجاةً. ومع الوقت أصبح النسيان نفسه فعلًا خلاقًا، كونه يتيح مكانًا جديدًا لمعرفة جديدة، ومعها ينضج "الوسواس الثقافي"، ليتسع ويتعدد، ولا يعد يطاردني بنصوص الماضي فقط، أو يفرض علي طريقة واحدة للنجاة. كان ذلك العالم الجديد من القوة أن يظل لا مرئيًا، ذائبًا وسط عقلي، ومجاورًا لأشباهه من الأفكار، بدلًا من أن يتحول لصورة مادية تسجنني داخل إطارها.
يمكنك أن تتشارك مع الآخر، ليس بالحب بل بالوحدة، أو أن تتسع وحدتك أيضًا لآخرين، مثلك، وحيدين.
متحف النجاة
عندما كان أصدقائى يزورونني في البيت، كانوا يتوهون داخل أفكار قصاصات الحائط، يستغرق كل منهم في قراءة ذلك الكتاب المفتوح، وعادة كنت أضع بجواري على المكتب سبرتاية وأدوات الشاي والقهوة، حتى أوفر لتلك الغرفة الكونية كل ما تحتاجه، كأنها البداية لخروجها رمزيًا، عن مدار العائلة.
كانت الغرفة مثل متحف يشبه "متحف البراءة" في رواية أورهان باموق، لكنه مجرد تمامًا لا تشغله رموز مادية تؤرخ لتاريخ حقبة من التحول كما يشغل باموق متحفه، ولا يشغله أيضًا التوثيق لحكاية حب فاشلة بين كمال وفاسون. ربما كان الحب أو الآخر من ضمن أولويات متحفي الشخصي، لكنهما "حب" و"آخر" لا زالا داخليين، غير مرئيين، في حاجة لاكتشاف. كان متحفًا لفترة محددة ولحب محدد يقف وراءه رغبة في النجاة. إنه "متحف النجاة" وليس البراءة، فالأشياء والمعاني كانت تقف على حافة خطرة.
كنت أبحث عن نفسي وسط القصاصات، كأني أوجه ضوءًا قويًا منبعثًا من كل الحوائط على جسمي، ليتجمع في مركز الغرفة حيث القلب. لكن يظل السؤال مما كنت أريد النجاة بهذه القصاصات المختارة؟ ربما كنت أريد النجاة من نص أكبر له سطوة ولا يعيرني اهتمامًا، فاخترت نص النجاة الخاص الذي يناسب إحساسي بالخطر. كانت أغلب أفكار القصاصات تقف عند الحد الفاصل بين عالمين، كتابات تجمع رحيق تلك المرحلة من جذرية ورغبة لا نهائية في التحرر، وعتق لذلك الإنسان الذي يعيش بداخلي، وتعريته حتى النخاع.
كان أول وآخر متحف للنجاة، كونته في حياتي، بعدها لم أعد أبحث عن نجاة، ربما لتداخل الحدود بين النجاة والفناء، لم تعد هناك ثنائيات تحكم الحياة، كما كنت أراها من قبل. أصبحت هناك متاحف زمنية مؤقتة تقيمها الذاكرة وسرعان ما تهدمها لتقيم أخرى، عبر طيف واسع من الممارسات الحياتية الجديدة، والقراءات المتنوعة، التي لا ترتبط بغرض معين، سوى الرغبة في البقاء، وليس النجاة. ربما "البقاء" فعل أكثر ارتباطًا بالأرض، بالتمسك بها وبالحياة، بعكس النجاة، التي تجعلنا أحيانًا ننفلت من قانوننا الأرضي، ومن الحياة نفسها.
المشاركة بالوحدة
أتذكر اليوم الذي تم فيه هدم "متحف النجاة"، عند زواجي. كان إيذانا بمرحلة جديدة من النسيان كأني وضعت طلاءً جديدًا على الطبقة النادرة من ذاكرتي. برغم حزني فإنني كنت أريد التخلص من سجن ذلك المتحف والغرفة وحميميتها، لأنها لا تسع إلا لشخص واحد، مهما كان عمقه لكنه لن ينقسم لاثنين.
من القصاصات التي لازلت أتذكرها جملة للشاعر الألماني ريلكه عن الزواج "الزواج تعزيز لوحدتين ثريتين". يمكنك أن تتشارك مع الآخر، ليس بالحب بل بالوحدة، أو أن تتسع وحدتك أيضًا لآخرين، مثلك، وحيدين.
كانت الصورة التي تبزغ في خيالي عند قراءة الجملة صورة قضيبي قطار ينظران لبعضهما البعض. هناك استحالة في التوحد بينهما إلا عبر هذه المسافة، بالرغم من وجود حميمية في ذلك التجاور. كانت من الجمل التي أفهمها بقلبي، لذا كنت أسأل ريلكه، هل أنت أيضًا مثلي خائف من الزواج، لذا تلبِس الوحدة قناع الثراء؟
إن لم تستطع تشكيل حياتك كما تريد/ فحاول -على الأقل- بقدر ما تستطيع ألا تبتذلها
بعض قصاصات متحف النجاة
أتذكر جملة أخرى من رواية ماركيز الحب في زمن الكوليرا، عندما يقول أحدهما للآخر، الذي يملك استديو للتصوير، عندما عثر عليه منتحرًا "أيها الأحمق الأسوأ قد مضى". هذه الجملة جعلتها تصديرًا لكتابي خطوط الضعف، كأني كنت أوجهها إلى نفسي، واستنطق فيها الحياة مقابل الموت، فكان يمكن أن أكون مكان ذلك الآخر المسجى.
عبر تمثل هذه الجملة انقسمت لاثنين، أحدهما يوجه اللوم للآخر، لكن قبل فوات الأوان. حتى ولو لم أشعر بزوال ذلك "الأسوأ"، في وقتها، هناك "آخر" داخلي كان يرى زواله في المستقبل، فانتفض لينتصر للحياة، بعكس بطل ماركيز، الذي لم ير ذلك الآخر المتفائل، الآتي من المستقبل.
كان للتفاؤل قصاصات عدة، مثل جملة الروائي الأمريكي هنري ميللر في رواية مدار الجدي، ولا أعرف هل هي بالنص نفسه أم أني حورتها عبر الزمن "أملك تفاؤلًا ميتافيزيقيًا لا أعرف مصدره"، كأن الوصول للتفاؤل يصاحبه رحلة للوصول إلى ما وراء النفس، للعثور على "الذات الأخرى" التي ترفع راية النجاة.
وجملة توفيق الحكيم المواسية في سجن العمر، "أملي أكبر مِن جَهدي، وجَهدي أكبر مِن موهبتي، وموهبتي سجينة طبعي، لكنّي أقاوم".
"هنالك أمر واحد أخشاه: وهو ألاّ أكون جديرًا بمعاناتي"، ربما جملة دوستويفسكي هذه، لم يكن بيني وبينها شبه، لكني كنت أخلق شخصًا آخر سيعاني في المستقبل، أو هكذا كنت أتخيله.
أما قصيدة كفافيس بقدر ما تستطيع، التي تخص التقشف النفسي الذي كنت أطمح إليه داخل حياة اجتماعية يمكن أن تسرق أرواحنا، سواء كانت حياة فقيرة أو غنية "إن لم تستطع تشكيل حياتك كما تريد/ فحاول -على الأقل- بقدر ما تستطيع ألا تبتذلها/ بالاحتكاك الزائد بالعالم/ بالحركة والكلام الزائد/ بجرجرتها هنا وهناك/ بالطواف بها وتعريضها -كثيرًا- للسخافة اليومية/ للأحداث والحفلات الاجتماعية/ إلى أن تصبح حياتك ضيفًا ثقيلًا عليك".