Pixapay- برخصة المشاع الإبداعي

خديعة اﻷمومة

منشور الاثنين 26 ديسمبر 2022 - آخر تحديث الاثنين 26 ديسمبر 2022

تناولتُ، في مقال سابق، كيف أن مفهوم الأمومة احتاج مسارًا معرفيًا وجهدًا فكريًا في الدراسات الغربية لينتقل من كونه مجرد غريزة إلى سؤال نظري. حولت الثقافة الغربية الأمومة، كمفهوم وفعل، إلى مجال بحثي يرتبط بالواقع وبالتجربة المعيشة وكشفت عن الثغرات التي يتم من خلالها توظيف المفهوم لإقصاء النساء وتحجيم ذاتيتهن وقصرها على أدوار محددة. ساعد على ذلك تطور النظرية النسوية في مجالات العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية التي لم تهمل الجوانب الاقتصادية والسياسية المؤثرة على تشكل العائلة.

أما في الثقافة العربية، فيختلف موقع مفهوم ومصطلح الأمومة عن نظيره في الثقافة الغربية، إذ لم يمر  بالرحلة ذاتها في مجال الفكر العربي، بل اتخذ مسارًا مختلفا أملًا في الوصول إلى الغاية نفسها.

ربما يشكل تطور النظرية النسوية جوهر الاختلاف الذي أدى إلى عدم البحث في مسألة الأمومة في الثقافة العربية، وإن كنت في الواقع لا أود الخوض في أسباب ضعف الإنتاج المعرفي النسوي في ذلك المجال، لكن ذلك لا يمنع عن ذكر بعض الأسباب العامة التي قد تبدو سببًا ونتيجة في آن وتنسحب على كل أشكال الإنتاج المعرفي ولا تقتصر على النظرية النسوية.

"الإسلام كرم المرأة"

بداية لا يمكن تجاهل الاستعمار الذي ظل كائنا في العالم العربي حتى منتصف القرن العشرين، ومن المعروف في الأدبيات أن النساء في ظل الاستعمار هن مؤشر الحفاظ على الهوية من أي اختراق أو تأثير قد تمارسه الثقافة الأخرى، أما بعد الاستعمار فالمسألة تزداد صعوبة ويجري إهمال القضايا النسوية باعتبارها ليست أولوية في بناء المجتمع الجديد.

السبب الثاني مرتبط بالأول ونتيجة له، فبفعل موجات الاستعمار المتعاقبة على العالم العربي كان الفكر الديني هو سلاح المقاومة والمواجهة الأقوى بما لم يدع أي مكان لأشكال معرفية أخرى. فيما يتعلق السبب الثالث بالفكر النسوي ذاته، الذي تم وصمه كفكر مستورد من الغرب، يهدف إلى هدم القيم والمبادئ الإسلامية وبالطبع مفهوم العائلة، وبالتالي كلما يتم طرح قضية من منظور نسوي تجيء عبارة "الإسلام كرم المرأة" كحائط صد عنيف، والتهمة الكامنة بين السطور واضحة. أدى ذلك كله إلى تبني نبرة اعتذارية في أغلب الأحوال خاصة أن السلطة على استعداد لمقايضة حقوق النساء مقابل الحصول على مكاسب أخرى ذات أهمية من وجهة نظرها.

في ذلك السياق الشائك لم يكن من الوارد أن يحدث أي نقاش حول مسألة الأمومة، الأرضية المعرفية جدباء، كما أن الخطابات التي تُشكل مفهوم الأمومة حاضرة بقوة في تشكيل الرؤية المجتمعية، بل والرؤية الفكرية لأعتى المفكرين، فالخطاب الديني (الإسلامي والمسيحي) يعلي من شأن الأم عبر آيات صريحة وواضحة بما يمنحها قدسية وهالة تمنع المساس بوضعها، وفي الوقت ذاته، يلجأ الخطاب اليميني إلى ترسيخ فكرة الأمومة بوصفها تلبية لغريزة.

في كتابه المرأة في خطاب الأزمة (1994)، تناول المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد تحول الخطاب الخاص بالمرأة إلى خطاب مأزوم يتظاهر أنه خطاب صحوة، وفي تحليله لتجليات ذلك الخطاب في التاريخ الحديث أشار أبو زيد بشكل خاص إلى نكسة 1967 ومظاهرات 1977 التي أطلق عليها أنور السادات اسم "انتفاضة الحرامية"، مستخلصًا أن التراجع عن كل المنجزات قد بدأ عشية هزيمة يونيو 1967 وظل في تصاعد، حتى تحول خطاب "النهضة" إلى خطاب "أزمة". وهذا الأخير أعلن أن جل همه هو الحرص على كرامة المرأة "وعلى حمايتها مما تتعرض له من إهدار لآدميتها إذا خرجت للعمل واختلطت بالرجال في وسائل المواصلات العامة المزدحمة".

يورد أبو زيد مثالًا صارخًا على بذور ذلك الخطاب، ففي نهاية السبعينيات طرح عضو مجلس الشعب الفريق سعد الشريف، لأول مرة فكرة بقاء المرأة العاملة في المنزل على أن تُمنح نصف الراتب، مؤكدًا أن ذلك الاقتراح مبني على ملاحظته لمدى ما تعانيه النساء من محاولة التوفيق بين البيت والعمل وهو ما يؤدي إلى توترها بشكل ينعكس على الأسرة بأكملها، ويستطرد"إن رسالة المرأة الأولى هي الأمومة، والأمومة معناها واسع، ولا يعني ذلك مجرد الإنجاب، إنها التربية الشاملة التي تخلق المواطن السوي الصالح، في رأيي أن الظروف التي تعيشها المرأة لا تمكنها من إتمام رسالتها على الوجه المطلوب".

اللافت للنظر في كل ذلك الجدل هو تطابق المنطقين- السياسي والديني- في أن الأمومة هي الدور الأساسي للنساء. ويؤكد أبو زيد أن "مناقشة أهمية هذا الدور خارج إطار مسؤولية المجتمع ككل- وخاصة في المجتمعات الحديثة التي تعتمد على بناء مؤسسي يتدخل كثيرًا في عملية التنشئة والتربية- يعد إهدارًا لدور تلك المؤسسات، وتعاميًا عن أثرها الخطير الذي يكاد يكون أعمق من دور الأسرة والأم".

الأم الغائبة

منذ ذلك الوقت لم يحدث أي تغير سوى في بعض الأمور الشكلية. في كل وسائل الإعلام هي دائمًا الأم نفسها: الحنون، المعطاءة، الصبورة، المضحية، المتفانية، الراضية، الطيبة، الكريمة، المتسامحة، المتحققة في سعادة الأبناء، المتوارية من أجل الأبناء، باختصار هي الأم الغائبة من أجل حضور الأبناء. فالأم الحقيقية من وجهة النظر السائدة هي التي تتسم بالغياب الكامل ولا يتجلى حضورها إلا في تطور الأبناء، وفي حالة فشلهم (بمعايير المجتمع أيضًا) عليها أن تتحمل اللوم.

يظهر ذلك في كل المقالات الصحفية والملفات الخاصة التي تظهر دائمًا في عيد الأم وليس على القارئ سوى البحث على محرك جوجل ليقرأ الكثير من تلك الكتابات النمطية التي تُشيد بدورها في تحقيق الابن أو الابنة لنجاح ما في الحياة، ومن هنا تكون الأم قد نجحت هي الأخرى في تحقيق واجبها.


هناك أيضًا نموذج أم الشهيد الذي انتقل بكل دلالاته الدينية إلى الأدبيات الفلسطينية، وكجزء من المقاومة سادت صورة الأم التي تطلق الزغاريد عند سماع خبر استشهاد الابن، حتى أن الشاعر اللبناني الراحل حسن عبد الله كتب قصيدة أجمل الأمهات التي غناها مارسيل خليفة، وجاء فيها "أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها/ أجمل الأمهات التي انتظرتهُ/ وعادْ/ عادَ مستشهدًا/ فبكتْ دمعتين ووردة/ ولم تنزوِ في ثياب الحداد". يموج الأدب العربي- شعرًا ونثرًا- بنماذج أم الشهيد لكن على حد علمي لم يجر تناول الأمر من خلال دراسة نقدية أو نفسية، فالنموذج في حد ذاته لديه من القدسية ما يمنع تفنيده.

ترتبط بنموذج الشهادة مسألة تأنيث الوطن، التي أوجزها أحمد فؤاد نجم في قصيدته الشهيرة "مصر يا امّه يا بهية يا أم طرحة وجلابية/ الزمن شاب وانتي شابة هو رايح وانتي جاية/ جايه فوق الصعب ماشية فات عليكي ليل ومية". يترسخ مفهوم الوطن بوصفه الأم، فهناك كل أشكال الفنون التي تروج لذلك الأمر مثل الأغنية الشهيرة مصر هي أمي، تأليف عبد الوهاب محمد وألحان كمال الطويل، ناهيك عن كل الاستعارات التي تحول الوطن واللغة إلى أم.

وبالرغم من اندراج الأم والأمومة تحت مظلة المقدس لا يكاد يخلو عمل من الإتيان على ذكر الأم، فهي شخصية رئيسية في السرد الروائي والأفلام السينمائية والمسلسلات التليفزيونية، وهي حاضرة بقوة في السير الذاتية، والتواريخ الشخصية، وهي ذات متعددة في أروقة المحاكم الجنائية ومحكمة الأسرة، وهي الأصل في قانون الأحوال الشخصية، والإرث، والتي تربط العائلة بالمنزل وهي المحرض الأول على الختان، وتردد الدعوات دائمًا في صلاة الفجر لكل أبنائها.

بكل هذا الحضور القوي تبقى الأمومة من المسلمات التي لا تستفز العقل البحثي ولا تصيغ السؤال. وهو ما جعل صدور كتاب إيمان مرسال "كيف تلتئم" عن الأمومة وأشباحها بمثابة الحجر الذي حرك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة. ولأنّ ما كتبته مرسال يُعيد المصداقية للشخصي في ارتباطه بالعام، فقد فتح كتابها احتماليات التئام كثيرة بسبب قدرته على تضمين السرديات المهمشة عن الأمومة والبنوة. وهو ما مهد الطريق لظهور أصوات تقدم سرديتها التي تسعى إلى الالتئام. 

لكن الأهم من وجهة نظري هو أن الكتاب فتح أفقًا إبداعيًا شخصيًا في الكتابة عن الأم، والكتابة هي أحد وسائل الإعلان عن تشكل الذاتية. وكأن الكتاب قد أخرج المسكوت عنه والجاثم على الصدور فساهم في إعادة النظر في العلاقة مع العالم والعلاقة مع الذات، سواء كانت الكتابة تحمل اعترافًا ما أو تتلمس طريقًا جديدًا في وسط شبكة علاقات قوى حولت الأمومة والبنوة إلى مقدسات لا يمكن الاقتراب منها. نجح كتاب مرسال في إعادة الأمومة إلى المدار الإنساني وهو ما يجعلنا قادرين على إعادة قراءة الفعل الأمومي بشمل منهجي في سياقات تقاطعية.