في الوقت الذي تموت فيه الصحافة في بعض الدول، ويتراجع دورها وتأثيرها في أخرى، تخرج علينا هوليوود كل عام تقريبًا بفيلم أو أكثر يتناول صفحة مشرقة من تاريخ تلك الصناعة، أو يمنح البطولة لصحفي يقوم بأفضل ما يمكن أن يفعله أي بطل، وهو كشف الحقيقة. وكأن السينما تسعى إلى الاحتفاء بمهنة توشك على الانقراض، أو كأنها تستعير من الصحافة قدرتها على تسجيل الواقع بطريقة صادقة وجذابة.
في تاريخ الصحافة والسينما لا يكاد يوجد أشهر من فضيحة ووترجيت، التي أطاحت برئيس أكبر دولة في العالم، وكان وراءها صحفيان شابان هما كارل بيرنستاين وبوب وودورد، نشرا سلسلة من التحقيقات حول تجسس الرئيس ريتشارد نيكسون، على أعضاء في الحزب الديموقراطي المنافس. وهي معركة استمرت نحو عامين من 1972 إلى 1974، وتوثيقها في كتاب بعنوان كل رجال الرئيس جرى تحويله إلى فيلم شهير من بطولة روبرت ردفورد وداستن هوفمان وإخراج آلان باكولا، 1976.
بعد نصف قرن على ووترجيت، التي تزامنت مع صعود هائل لحركات الشباب والحقوق المدنية ورفض حرب فيتنام ومناهضة الاستعمار والاهتمام بالسياسة العالمية، يبدو أن طموحات الشعوب تضاءلت كثيرًا، وأصبحت القضايا المحورية الآن هي حقوق النساء والمثليين والمهمشين والبيئة والمناخ. والسؤال هل هذا طيب أم سيئ؟ وهل هذه القضايا أقل شأنًا من الحروب والمجاعات وظلم الرأسمالية وفساد السياسة، أم أنها لا تقل عنها أهمية؟
للنساء فقط
نعيش الآن في حقبة وينستاين جيت، المنتج الذي تربع ملكًا لأكثر من ثلاثين سنة في هوليوود، قبل أن تكشف صحفيتان شابتان فضائحه الجنسية واعتدائه وتحرشه؛ بل اغتصابه عشرات الفتيات والنساء من اللواتي عملن تحت قيادته، ومنهن نجمات شهيرات مثل آشلي جود وجونيت بالترو.
تعود القصة إلى خمس سنوات مضت، عندما أجرت كل من جودي كانتور وميجان تويهي، الصحفيتان بجريدة نيويورك تايمز، تحقيقًا استغرق شهورًا للوصول إلى بعض ضحايا واينستاين وإقناع بعضهن بالحديث. وهو التحقيق الذي تمخضت عنه الحملة العالمية "أنا أيضًا" Me Too التي أحدثت نقلة في تشجيع النساء على مواجهة المتحرشين والمعتدين.
كذلك تحول التحقيق إلى كتاب في 2019، من تأليف الصحفيتين نفسيهما، نالتا عنه جائزة بوليتزر، قبل أن يتحول إلى فيلم شهد عرضه الأول في مهرجان نيويورك، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وجال عددًا من المهرجانات، قبل أن يبدأ عرضه التجاري في الأسبوع الماضي.
الفيلم، مثل الكتاب، يحمل عنوان She Said (ويمكن ترجمته بـ"قالت")، وهو فيلم نسوي بامتياز، يأتي ضمن حالة غير مسبوقة من صعود النساء في السينما (فازت امرأتان بجائزتي أوسكار أفضل إخراج في العامين الماضيين، بجانب عشرات الجوائز الكبرى في معظم المهرجانات العالمية).
وبشكل ما يمثل "قالت" ذروة ما يطلق عليه أفلام المرأة. موضوع نسوي عن تحقيق صحفي وكتاب لامرأتين، وفريق عمل كامل من النساء: سيناريو وتصوير وإخراج، وطبعًا البطولة ومعظم الأدوار . ومن الطريف أن الرجل الوحيد المهم في الفيلم وهو هارفي واينستاين لا يظهر على الإطلاق، كما لو كان شبحًا، أو وحشًا لا يسمح بتصويره، وبالكاد نسمع صوته على الهاتف يرغي ويزبد ويهدد الصحفيين.
مخرجة الفيلم ماريا شريدر ممثلة ألمانية معروفة، عمرها 57 سنة، اشتهرت في شبابها بجمالها وأداءها التمثيلي الرفيع، وحصلت على العديد من الجوائز المهمة عن أدوارها منها أفضل ممثلة من مهرجان برلين، ومخرجة متميزة، من أعمالها فيلم الحب الحياة الحاصل على جوائز عدّة، ومسلسل غير تقليدي Unorthodox من إنتاج نتفليكس، المأخوذ أيضًا عن قصة حقيقية وكتاب، وحصلت عنه على جائزة إيمي لأفضل مسلسل قصير، أما قالت فحصل كذلك على عدد من الجوائز، وربما يصبح منافسًا قويًا في موسم الجوائز المقبل.
خجل وكتمان
مثل كل رجال الرئيس، يتتبع تحقيق نيويورك تايمز الصحفي منذ بدايته؛ معلومة صغيرة تصل إلى جودي كانتور (زوي كازان) حول ممثلة اسمها روز ماجوان تعرضت للاغتصاب من قبل واينستاين منذ عدة عقود. تتواصل معها، ورغم أن ماجوان تعترف باغتصاب واينستاين لها، عندما كانت في الثالثة والعشرين من عمرها، فإنها ترفض التعليق رسميًا.
تتواصل كانتور مع نجمات عملن مع واينستاين منهن جونيت بالترو وأشلي جود، اللتين تعترفان بتعرضهما لتحرش ثقيل من قبل واينستاين، لكن ترفضان ذكر اسميهما في التحقيق. تحبط كانتور من عدم الحصول على أدلة أو اعترافات، فتطلب مساعدة زميلتها ميجان تويهي (كاري موليجان) وتبدأ الاثنتان في رحلة استقصاء وبحث طويلة في اتجاهات مختلفة، وتواجهان في البداية بحالة من الخجل والكتمان من قبل النساء الضحايا، خاصة أن عددًا منهن وقعن عقدًا بعدم البوح بأي شيء عما حدث لهن مقابل تعويضات دفعها واينستاين من أموال شركة الإنتاج التي يديرها، لكن جهود كانتور وتويهي تكلل في النهاية بالنجاح، وتوافق إحدى الضحايا، وهي لورا مادن، والنجمة أشلي جود على نشر اعترافاتهما حول واينستاين (تظهر أشلي جود بنفسها في الفيلم لتروي حكايتها)، وبعد نشر المقال في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول 2017 تتوالى الاعترافات وتصل إلى أكثر من 80 امرأة.
امرأتان.. مثل كل النساء
يرسم الفيلم صورة بسيطة لبطلتيه تويهي وكانتور. كل منهما زوجة وأم، تؤديان عملهما بالصحافة بجدية وإخلاص. وكل منهما لديها متاعبها الخاصة: موليجان تعاني من اكتئاب ما بعد الولادة، وكانتور تحاول التوفيق بين عملها وبيتها. ليس هناك بطولات "ذكورية" خارقة هنا، أو مواصفات نادرة للبطولة. هما فقط صحفيتان شاطرتان وامرأتان عاديتان، مثل كل النساء.
بجانب الرسم البارع للشخصيات يحتوي الفيلم على بعض اللمسات السينمائية البديعة، مثل عدم ظهور واينستاين، وتصوير مشاهد الاعتداء، إذ لا نرى شيئًا مما يحدث، وتكتفي الكاميرا بالسير في الممرات بين غرف الفنادق، أو تركز على الملابس المعلقة، أو صوت المياه تحت الدش. يكتسي الجنس هنا بشعور منفر، مخيف، يعكس وجهة نظر صانعات الفيلم في التعرض للاعتداء والجنس غير المرغوب فيه، وهي وجهة نظر يندر أن نجدها في أعمال صناع الأفلام الرجال.
أفلمة ما لا يؤفلم
رغم الجهد الهائل للمخرجة والممثلات وبقية فريق العمل، فإن الفيلم يخلو تقريبًا من الحركة والتشويق، ويصعب تذوقه من قبل الجمهور العادي، ورغم الإشادات النقدية الكثيرة التي حظي بها لكنه فشل في شباك التذاكر، وهو ما يطرح أسئلة جديرة بالتأمل.
هل تم استهلاك الموضوع الذي يطرحه الفيلم على مدار شهور وسنوات من النشر؟ لقد أدين هارفي واينستاين وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، وهناك قضية أخرى تنظر في دعاوى جديدة ضده بدأت منذ أسابيع، والجمهور المتابع للدعاوى القديمة والحديثة قد لا يجد جديدًا في الفيلم، خاصة في عصر يتسم بسرعة انتشار الترند، وسرعة الملل منه أيضًا.
يطرح الفيلم سؤالًا آخر: هل هناك موضوعات تصلح للسينما وأخرى لا تصلح؟ الفيلم، بشكل ما، يحاول أفلمة ما يصعب أفلمته: ذلك أن معظم الأحداث تقتصر على تصوير صحفيتين تقضيان وقتهما في إجراء المحادثات الهاتفية وقراءة وكتابة الرسائل الإلكترونية. وربما كان من الأفضل لو أن مخرجة الفيلم اختزلت تلك المشاهد وركزت مع اعترافات الضحايا وتحولهن من موقف الخجل والإنكار إلى الشجاعة والمواجهة.
ملحوظة أخرى تتعلق باختلاف الأذواق: رغم فشل الفيلم تجاريًا، فقد أحبه جمهور المهرجانات، بدليل فوزه بجائزة الجمهور لأفضل فيلم في مهرجان كولورادو، وهو ما يعني أنه يناسب "المثقفين"، المهتمين بالقضايا النسوية وحقوق الإنسان أكثر من الجمهور العادي، الذي يحاول الهرب من مواجهة تلك القضايا الشائكة، التي قد تكون مزعجة بالنسبة له.
في المجمل هذا فيلم يوثق قصة مهمة، ساهمت في تشكيل أفكار ومزاج عصرنا، وفي دفع الحركة النسائية خطوات للأمام، وفي التشديد على موضوع مؤلم وخطير، تعاني منه نسبة هائلة من نساء العالم. وهو عمل يجب أن يراه كل من لم يسمع أو يتابع "واينستاين جيت" وتوابعها.