كاتاباسيس.. رحلة في الجحيم لاستعادة البروفسور المستبد
سخرة وردية في الأوساط الأكاديمية
الجحيم أن تكسب كل شيء وتخسر نفسك؛ تعبِّر هذه الكلمات عن جوهر رواية كاتاباسيس (2025) للأمريكية من أصول صينية ريبيكا إف كوانج، التي تدور أحداثها في كواليس حياة طلاب الدراسات العليا في الجامعات.
"كاتاباسيس" كلمة يونانية قديمة تعني حرفيًا "الهبوط إلى عالم الموتى"، وهذه الرواية هي الثانية لريبيكا عن الحياة الأكاديمية بعد روايتها الأكثر مبيعًا بابل أو ضرورة العنف (2022) بما حملته من نقد قاسٍ لواقع الحياة الأكاديمية؛ التنازلات الأخلاقية، إلى التضحية بكل ما يخص الحياة الشخصية، فقط من أجل نشر بحث، أو الحصول على اعتراف في مؤتمر، أو الظفر بمكانة عليا في المسار الوظيفي.
ريبيكا ذات الـ29 سنة مترجمة بالأساس وحاصلة على منحة مارشال المخصصة للباحثين الموهوبين من البريطانيين والأمريكان، وحازت عددًا من الجوائز، وتصدرت أعمالها قائمة نيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعًا، وحصلت على ماجستير في الدراسات الصينية من جامعة كامبريدج، وماجستير في الدراسات الصينية المعاصرة من جامعة أكسفورد، وحاليًا بصدد دراسة الدكتوراه في لغات وآداب شرق آسيا في جامعة ييل الأمريكية.
ضد سردية الاستعمار
في "بابل"، تكشف كوانج عن تواطؤ الجامعة مع مشروع الاستعمار الأكبر، مبرزة أن استخراج الموارد والسلع ارتبط باستخراج المعرفة والمخطوطات والعقول الشابة من الأطراف إلى مركز الإمبراطورية.
أما في كاتاباسيس، فتطرح سؤالًا أكثر مباشرة على طلاب الدراسات العليا؛ إلى أي حد قد تذهب لتأمين خطاب توصية لوظيفة أكاديمية مرموقة؟ بالنسبة لشخصيتيها الرئيسيتين، أليس لو وبيتر مردوخ، الإجابة واضحة؛ سيفعلان أي شيء حتى لو كان الهبوط إلى الجحيم.
من النادر ألَّا يعاني طالب دراسات عليا في رحلته الأكاديمية
"أنا أليس لو. أنا طالبة دراسات عليا في كامبريدج. أدرس السحر التحليلي"، بهذه الكلمات تعرّف بطلة رواية كوانج نفسها وحولها تتمحور تجارب حياتها وقيمتها الذاتية أنها طالبة دراسات عليا في كامبريدج. لذلك، ليس مفاجئًا أن تقرر في بداية الكتاب النزول إلى الجحيم لاستعادة مشرفها، البروفيسور جرايمز، بعد أن لقي حتفه أثناء تجربة مخبرية في الجامعة.
أليس في سنتها الأخيرة من الدكتوراه في كامبريدج، وبعد سنوات من المعاناة تحت إشراف أستاذها المستبد جرايمز الذي يتعمد إهانة الطلاب وشتمهم، كانت تعتقد أن كل ذلك سيؤدي بها في النهاية إلى التخرج، والحصول على خطاب توصية لامع من هذا الأستاذ الأسطوري المعروف، بما يفتح أمامها باب وظيفة مرموقة في التدريس بجامعة مشهورة.
لكن جرايمز يموت، تاركًا أليس وطالبَه الآخر بيتر، الذي هو أيضًا خصمها الأكاديمي اللدود، بلا أي فرصة للدفاع عن رسالة الدكتوراه أو الحصول على توصية. تتبع الرواية الرحلة القاسية التي يخوضها أليس وبيتر عبر الدوائر التسع للجحيم من أجل استعادة جرايمز/ فقط من أجل خطاب توصية.
هذا الهوس بخطابات التوصية وبموافقة المشرف ليس أمرًا جديدًا على الوسط الأكاديمي. فحياة طالب الدراسات العليا تبدو وكأنها تدور بالكامل حول الاستغلال، والهشاشة المالية، والثقافة الأكاديمية التي تلتهم ذاتها.
أليس لو، بطلة كاتاباسيس، ليست مجرد شخصية خيالية، بل هي انعكاس لمعاناة يومية يعيشها آلاف الطلاب؛ السهر من أجل أستاذ لا يتذكر اسمك، انتظار بريد إلكتروني يحدد مصيرك، والركض وراء وهم الاستقرار في بيئة لا تعِد سوى بالمزيد من الضغوط.
تأتي أصالة شخصيتي أليس وبيتر من تجربة كوانج نفسها في الوسط الأكاديمي. فإلى جانب كونها روائية حققت نجاحًا واسعًا بسلسلة الفانتازيا حرب الخشخاش (2018)، ورواياتها بابل (2022)، والوجه الأصفر (2023)، والآن كاتاباسيس (2025)، فإنها أيضًا طالبة دراسات عليا.
وكما قالت شخصيتها أليس "لحسن الحظ، كانت الدراسات العليا قد هيّأتها لهذا، التطبيع مع اليأس بشكل مستمر. كل شيء كان ينهار؛ لا شيء يسير كما ينبغي في المختبر؛ لم يكن بوسعك شراء حاجياتك من الطعام؛ كوخك يعاني من مشكلة الفئران؛ جميع أساتذتك يكرهونك؛ كنت دائمًا على بُعد خطوة واحدة من أن تُلقي ثمرة حياتك كلّها في المرحاض. كنت تدفع كل ذلك إلى زاوية في عقلك، وتنام، وتؤجل المواجهة إلى الغد، لحين أن يتعافى دماغك في اليوم التالي، فتجد نفسك تتظاهر من جديد".
عجز أليس عن إدراك أن بيئة الأكاديميا في كامبريدج كانت سامة جعلها غير قادرة على التمييز بين ما يسمح به الأستاذ جرايمز، وما يرفضه. ومع رحلة البطلين إلى الجحيم لاستعادة جرايمز، يجد القارئ، خصوصًا غير الأكاديمي، نفسه يتساءل عن مدى اتزانهما العقلي: لماذا يرضى أي منا بأن يمر بكل ذلك من أجل شخص أفسد عليه حياته؟ لكن الأمر، بطريقة ما، ضروري.
من النادر ألّا يعاني طالب دراسات عليا في رحلته الأكاديمية. حاليًا أنا باحثة في جامعة برلين الحرة وأسعى لنيل درجة الدكتوراه، شخصيًا اضطررت إلى اجتياز اختبارات جنونية لمجرد أن يُقبل مقترحي البحثي، أو أن أقنع مشرف الرسالة بتخصيص جزء من وقته لقراءة فصل جديد كتبته، أو لأظفر بلقاء معه للحصول على توجيه منه أو إرشاد.
مأساة حضرة المحترم
تتشابه الفكرة الرئيسية لكاتاباسيس مع رواية حضرة المحترم (1975) لنجيب محفوظ، عن عثمان بيومي الموظف الصغير بقسم المحفوظات في إحدى الإدارات الحكومية، الذي يحلم بالوصول إلى أعلى المناصب في السلم الوظيفي، فيعطي الأولوية للترقي المهني على حساب حياته الشخصية والحب والسعادة.
تتابع الرواية صراع البطل بين طموحه والواقع، وتضحياته التي تشمل الحب والعلاقات الإنسانية، ليجد نفسه في النهاية وقد حقق حلمه، لكنه يواجه المرض والعزلة في لحظة اقترابه من منصبه المنشود، ليصبح مصيره الفراش وانتظار الموت دون الاستمتاع بثمار حياته المهنية.
بعضنا قضى بعد الظهر في مجالسة أطفال الأستاذ حين كان من المفترض أن يمارس الأستاذ دوره كأب، أو يجد وسيلة للتنقل إلى الساحل الشمالي حيث يقضي الأستاذ عطلته لمجرد أن الأستاذ يرفض قراءة ملف PDF "هذه ليست طريقتي"، كما يقولون لنا.
بعضنا اضطر إلى تتبّع جدول تدريس الأستاذ ونصب كمين له أمام باب قاعة المحاضرة فقط ليحصل على اجتماع معه، أو إلى قضاء ليالٍ بلا نهاية لإعداد PowerPoint للأستاذ من أجل مؤتمر مرموق سيلقي فيه كلمة، من دون أن يخطر ببال المشرف أن يقترح أسماءنا كمتحدثين. بل وكان علينا أن ننشر بلا توقف على LinkedIn و X إنجازاته الهزيلة، فقط كي يتذكر أسماءنا في اجتماع هيئة التدريس المقبل، ونأمل أن يُطرح اسمنا كمدرسين غير متفرغين.
كطلبة دراسات عليا كنا نعتقد، كما اعتقدت أليس لو، أنه "لم يكن عليك سوى بذل جهد أكبر، أن تتحمل ليالي بلا نوم، أن تفي بكل معيار مستحيل، حتى يرون أنك أهل للاحترام. هذا عادل. أليس هكذا تعمل الأكاديمية".
الكثير من الباحثين في مصر لا يسعون وراء توصية أو تمويل أو وظيفة مرموقة بقدر ما يحاولون فقط النجاة من فراغ مؤسسي يلتهم أعمارهم
الرواية تفتح بوابة إلى جحيم أكاديمي، لكن القراءة من مصر تغيّر المشهد: الباب لا يقود إلى متاهة تنافسية، بل إلى فراغٍ بطيء يأكل السنوات. وبينما يتقاتل أليس وبيتر من أجل نيل اهتمام أستاذهما للحصول على وظيفة أفضل، أو توصية أقوى، أو تمويل أكبر، يجد الباحث العربي نفسه في جحيم من نوع آخر.
فعندما تنظر إلى حال البحث الأكاديمي، خصوصًا في العلوم الاجتماعية والإنسانيات، تجد غيابًا واضحًا للاهتمام الحكومي والمؤسسي، وانعدامًا لهيئات تمويل محلية (إلى جانب الريبة والشك تجاه الهيئات الأجنبية الممولة للبحث الأكاديمي)، فضلًا عن التهميش المستمر لمكانة العلوم الاجتماعية والإنسانيات.
هذا التهميش وعدم الاكتراث قد يتجلى على المستوى المؤسسي، حيث تُضخ الأموال بشكل حصري تقريبًا في أقسام إدارة الأعمال والاقتصاد، ومن المؤسف أن يتفشى تحقير العلوم الاجتماعية بين الناس حتى رأس السلطة. والنتيجة أن سنوات كاملة تُهدر في صراع مع الإجراءات بدلًا من أن تُستثمر في تطوير الأفكار أو إنتاج المعرفة.
هذا الوضع لا ينعكس فقط على الباحث نفسه، بل على صورة العلوم الإنسانية والاجتماعية برمّتها في المجتمع. إذ يُنظر إليها كترفٍ أو مضيعة للوقت، لا كحقول قادرة على مساءلة الواقع أو المساهمة في صنع السياسات. وهكذا يتكرّس وهم أن المستقبل في الأعمال والهندسة والطب وحدها، بينما تبقى الفلسفة والتاريخ والأنثروبولوجيا بلا جدوى عملية أو مردود مادي مباشر.
لذلك يصبح السؤال الذي تطرحه كوانج "إلى أي حد ستذهب لتنال توصية أستاذك؟"، سؤال غير مطروح أصلًا عندنا. فالكثير من الباحثين في مصر لا يسعون وراء توصية أو تمويل أو وظيفة مرموقة، بقدر ما يحاولون فقط النجاة من فراغ مؤسسي يلتهم أعمارهم. إن جحيم الأكاديميا عند كوانج يقوم على شغفٍ مفرط بالمعرفة، أما جحيم الأكاديميا عندنا فمبني على نفي هذا الشغف من جذوره.
وما هو الحل المتوقع؟ السفر للخارج بالطبع. والمفارقة المبكية المضحكة هي مثل ما حدث حينما وصل دانتي في الكوميديا الإلهية إلى الدائرة التاسعة والأخيرة في الجحيم (دائرة الخيانة) ليجد لوسيفر أو الشيطان هناك. فيسافر الباحث العربي ويجد هذه الدائرة البائسة تأخذ دورة لا تنتهي من خيانة الذات. فلأول مرة تتوافر له الأموال والوقت للبحث، لكنه سرعان ما يكتشف أنه عالق في مفارقة جديدة.
وسط خطابات دراسات "ما بعد الاستعمار"، يجد نفسه مهدَّدًا بأن يتحوّل عمله إلى صدى للخطاب الاستعماري والاستشراقي القديم نفسه. ينحني أمام القيود التي تمنعه من مجرد الإشارة إلى أن هناك إبادة جماعية تقع في غزة، ويصبح استقراره أو هشاشته المهنية مرهونًا بمدى قبوله كباحث "حديث" و"علماني" لون بَشَرته بُنّية، يُنظر إليه بوصفه جديرًا باهتمام الأكاديميا الغربية.
إنه تمامًا كما قال فرانز فانون في كتابه بشرة سوداء، أقنعة بيضاء: كلما تحدثتَ لغة المستعمِر أكثر، كلما أصبحتَ "أبيض" أكثر، وقُبلت داخل مجتمعه.
ختامًا، فإن ترشيحي لقراءة كاتاباسيس وترجمته إلى العربية ليست ترفًا أدبيًا، بل ضرورة فكرية، كونها تعرّي آليات الاستغلال داخل الجامعات وتضعنا أمام مرآةٍ قاسية نسائل من خلالها أوضاعنا المحلية، فنفهم أن معارك المعرفة ليست حكرًا على الغرب وحده، هي جحيم مشترك علينا أن نواجهه ونعيد صياغته بلغتنا وتجاربنا.

