نهاية أكتوبر/ تشرين اﻷول الماضي، ثار جدل بعد بوست نشرته الصفحة الرسمية لمجمع اللغة العربية بالقاهرة على فيسبوك، حول إجازة استعمال الفعل الدارج بين العامة "استعبط" بحُجة وروده في معجم الوسيط. وتحول الأمر إلى تريند من خلال تناول المواقع الإلكترونية، قبل أن يضطر المجمع إلى توضيح إجازته للفظ منذ 22 سنة، وليس اﻷمر بجديد. [1]
ليلة زرقاء
لعلها المرة الأولى التي يقترن فيها اسم مجمع اللغة العربية بكلمة "تريند" التي استخدمها المجمع في بوست توضيحي، قبل أن يعود ليعدلها، بعد انتقاد كثير من المعلقين لها، مما يستدعي البحث في كيفية تفاعل المجمع مع الألفاظ التي تبدو أعجمية أو غير عربية ونتداولها في حياتنا اليومية، وما ضوابط الإجازة؟ وماذا يحدث إن لم يجز المجمع استخدام لفظ أعجمي "أصلًا"؟
عن كواليس مجمع اللغة العربية عند إجازة استخدام الألفاظ الأعجمية أو تعريبها، تشرح أستاذة علم اللغة في جامعة القاهرة وفاء زيادة، أنه "عند شيوع كلمة أعجمية على ألسنة الناس ومن ثم تدخل إلى نطاق الأدب والكتابات الرسمية أو العلمية، تجد طريقها فجأة إلى أذن أي خبير لغوي أو عضو بالمجمع، فيلتقطها وهي طائرة، ويبحث عن أصلها في أدغال الكتب والمعاجم القديمة والحديثة "وتصبح ليلة هذه الكلمة زرقاء" حتى تقول الكلمة: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا".
يلجأ الخبير في بداية الأمر إلى محاولة إيجاد أصل عربي للكلمة، مثل كلمة "شفرة" التي قيل إن أصلها "الصفر" العربي الذي يدل على اللاشيء، ثم انتقلت إلى اللغة اللاتينية في العصور الوسطى ولم يكن لديهم مفهوم الصفر، وتحولت من cifra إلى "تشيفرا" عندما وصلت إلى اللغة الإيطالية، وصارت مع الفرنسية chiffre، وعندما عادت إلى العرب أصبحت شفرة. [2]
وفي كتاب لجنة الألفاظ والأساليب الصادر عن المجمع عام 2000، ورد رأي آخر، بأن الكلمة من أصل إنجليزي cypher بمعنى الرمز أو الطلسم، وهذه الحالة تصبح الكلمة مجازة مثل "شفرة"[3]، وقد يكون ذلك التحليل غير منطقي للبعض ونحن منهم طبعًا؛ ما كل هذا اللف والدوران، و"أصلا" كلمة "طلسم" لا تعني "صفر" أو لا شيء!
أحيانًا يجد أصلًا عربيًا للكلمات غير العربية، بتحليل مقنع مثل كلمة "مَلاك" التي أجاز المجمع استخدامها عام 1976 في كتاب الألفاظ والأساليب، هنا يوضح المتحدث الإعلامي للمجمع مصطفى يوسف في حديثه للمنصة، أن كلمة ملاك أصلها من اللغة السريانية "ملائك"، لكن سُهِّلت وتحولت إلى ملاك، أو أن يكون هذا اللفظ نتيجة اشتقاق من الفعل "لاك" الذي هو صورة مسهَّلة للفعل "لأك" كما يحدث في الفعل "سأل" ويُسهل إلى "سال"، وهذا يسمى مبدأ القياس في اللغة.
رأى المجمع إمكانية اشتقاق المصدر "فَسْبَكَة" من فيسبوك، بمعنى عملية استخدام موقع التواصل الاجتماعي، والفعل "يُفَسْبِك" و"أُفَسْبِك"
"فَسْبك يُفَسْبِك فَسْبَكَة"
تستكمل زيادة شرحها للمنصة أن الخبير اللغوي إذا لم يجد أصلًا عربيًا للكلمة مثل كمبيوتر الإنجليزية يحاول أن يقترح بديلًا عربيًا لها مثل حاسوب وحاسب آلي وذلك عن طريق الترجمة، وحال عدم توفر البديل العربي يُقر استخدام الكلمة ويبدأ عملية الاشتقاق وهي استخراج صيغ صرفية عربية للكلمة بما يناسب اللغة العربية، مثل كلمة فيسبوك التي قدم فيها أستاذ علم اللغة والخبير بمجمع اللغة إبراهيم ضوة ورقة بحثية إلى المجمع ذاته.
وأوضحت زيادة أن المجمع رأى إمكانية اشتقاق المصدر "فَسْبَكَة" بمعنى عملية استخدام موقع فيسبوك، والفعل "يُفَسْبِك" و"أُفَسْبِك"، ويمكن أن تدخل في جملة مفيدة للتوضيح مثل "إني أحب الفسبكة، وقرأت منشورًا لمجمع اللغة عن التريند وأنا أفسبك، حقًا إنه شعور رائع".
يعني حديث زيادة أن هناك فرقًا بين تعريب لفظ أعجمي وإجازة استخدامه كما هو، فالتعريب مثلًا كأن تقول "لقد سرق الموظف الحاسوب العهدة وسنسلمه للشرطة"، أما إجازة الاستخدام كأن تقول "اشتريت كمبيوتر ووضعته بجوار حوض سمك فأفسده الماء"، ولا يجب هنا إعراب كلمة "كمبيوتر" لأنها ستصبح "اشتريت كمبيوترًا"، اﻷمر الذي يبدو عبثًا.
ويبين المتحدث الإعلامي للمجمع أنه بعد أن يقدم الخبير مقترحه إلى لجنة الألفاظ والأساليب بالمجمع، وحال الموافقة على المقترح تعتمد اللجنة اللفظ الجديد، وعادة يحدث ذلك بعد أن يصبح اللفظ قديمًا في الواقع حتى مله الناس وبحثوا بالفعل عن لفظ جديد.
ويرى يوسف أن التعريب وسيلة لتحديث وتطوير اللغة العربية من خلال زيادة عدد ألفاظها، لتظل قادرة على استيعاب الألفاظ الأعجمية الجديدة وتطويعها لاستحداث اشتقاقات عربية، مثل كلمة "كهرباء" التي اشتق منها الفعل "يكهرب" واسم الفاعل "كهربائي" واسم المفعول "مكهرب"، فيما يتفق أغلب اللغويين أن التعريب يصون هوية اللغة ونسيجها العربي ويقاوم "التغريب".
حتمية التطور
بعيدًا عن مفردة التغريب ودلالتها التي باتت بفضل كثير من المحافظين "سُبة" واتهامًا، ماذا سيحدث إن لم يجز المجمع استعمال مفردة ما؟ تؤكد زيادة هنا "أن السماء لن تسقط على الأرض إذ لم يجز المجمع لفظة أعجمية نستخدمها في حياتنا اليومية، فهناك الكثير من الألفاظ يستخدمها الكتاب في كتاباتهم مثل سوشيال ميديا بدلًا من مواقع التواصل الاجتماعي، وموبايل بدلًا من هاتف أو جوال، لأن قوة الاستعمال اللغوي في حياتنا اليومية لها الغلبة أمام قرارات مجمع اللغوية".
وتشدد زيادة على أن الاستعمال هو السُلطة الحقيقية، إذ أن المجمع لا يمثل سلطة رقابية على ألسنة الناس، فعندما أقر المجمع استخدام كلمة "مدرة" للدلالة على مهنة المحاماة بدلا من كلمة "أفوكاتو" لم يلتزم الناس بذلك وشاعت كلمة "أفوكاتو" إلى أن اختفت هي الأخرى وأصبحنا نستخدم "محامي".
سواء وافق المجمع وأجاز استخدام الألفاظ الأعجمية التي نستخدمها أو وضع لها المقابل العربي أو لم يوافق، وإذا زاد عدد الكلمات المجازة أو قلّ، في نهاية الأمر الألفاظ ملك المجتمع ولا سلطة تعلو فوق سلطة وشرعية الاستخدام اليومي بيننا في أحاديثنا اليومية وكتابات الأدباء والمفكرين، وإن كان المجمع يرى أن كثرة إجازة استخدام الألفاظ الأعجمية قد يفسد نسيج اللغة ويضر بهويتها، فتطور وتغير اللغة قد تختفي الألفاظ العربية الأصلية التي يريدون الحفاظ عليها، أي أن تطور اللغة لا يمكن السيطرة عليه ولا يمكن التنبوء بتحركاته.
1- كتاب لجنة الألفاظ والأساليب الصادر عن مجمع اللغة العربية عام 2000، ص 112.
2- المرجع السابق ص 14.
3- المرجع السابق ص 224.