استيقظ غريغور سامسا في فراشه ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحوّل في فراشه إلى حشرة هائلة الحجم.
يقول الكاتب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز إن هذه الافتتاحية الروائية بالذات هي التي جعلته يتخذ أهم قرار في حياته: أن يصبح كاتبًا.
البداية
ولد فرانز كافكا عام 1883 في الثالث من يوليو/تمّوز، لأب شبه أميّ عاش الفقر الشديد في صغره وأم من أسرة أرستقراطية. التحق كافكا بمدرسة ألمانية في براغ- عاصمة التشيك، وتخرج منها عام 1901 ثم درس الأدب لمدة فصل دراسي واحد. انتقل بعده لدراسة الحقوق في جامعة كارل في براغ. ولد الأب في قرية في شمال براغ وعمل منذ صغره جزارًا لدى أبيه (جد كافكا).
عام 1906 حصل كافكا على الدكتوراة في الحقوق، ثم أمضى وقتًا على سبيل التدريب القضائي لدى محكمة جنائية في براغ. وفي 1908 عُيّن كافكا موظفا في مؤسسة تأمين حوداث العمل، التي أوكلت إليه مهمة تقدير تعويضات العمّال المصابين.
في ليلة 13 أغسطس/آب عام 1917 بزغ فجر موت كافكا حين بصق الدّم من فمه للمرة الأولى، إيذانًا بوصول السُلّ الذي أنهى حياته. ومنذ تلك الليلة بات الموت هو الموضوع الأكثر إلحاحًا في حياة كافكا. وفي الثالث من يونيو/حزيران عام 1924، أفل نجم كافكا، بعد أن أصاب المرض حنجرته، فمات جوعا بعد أن فقد القدرة على الأكل. وأُحضِرَت جثة الكاتب الأبرز من فيينا حيث كان يتلقى العلاج، ليدفن في براغ بمقبرة تجمع الآن شمل والديه وأخواته.
أربعون سنة وأحد عشر شهرًا، هي المدة التي عاشها كافكا، وغادر بعدها وقد ترك إرثًا أدبيا ثقيلًا يبلغ 40 نصًّا. تسعة منها يمكن تصنيفها كقصص: كالحلم، والوقاد، الانمساخ (المسخ)، في مستوطنة العقاب وغيرها. وبلغ مجموع ما كتبه من تدوينات، وروايات 3400 ورقة. حملت صيغة أذهلت العالم لهدوئها المعلن وفضائحيتها في آن.
في العادة يشار إلى الكاتب الذي لا يحتاج إلى اسم أول باعتباره كاتبًا فائق العبقريّة، استطاع أن يحصد مكانة مميزة في عالم الكتابة. كافكا لم يحصد هذه المكانة فحسب، بل انشقت عن اسمه تعبيرات ومصطلحات لغوية خلَّدت ذكره في لغات العالم. منها مصطلح الكافكاوية- Kafkaesque وتعنى الحالة السوداويّة التي تعج بها روايات كافكا.
السينما العالميّة لم تبخل على فرانز كافكا، الذي كان حاضرا برواياته وقصصه التي تحول معظمها إلى أعمال سينيمائية، أهمها المسخ التي أخرجت عام 2012، والقلعة التي أخرجها مايكل هينيكي تحت الاسم نفسه في عام 1997. هينيكي الذي يعد واحدا من أكثر المخرجين تأثرًا بكافكا في كثير من أعماله التي من أبرزها Amour و The piano teacher رائعة هينيكي التي أطل فيها وجه كافكا بقوة، وHidden الذي يجعلنا نقول إن هينيكي استغرق في كافكا، حتى أصبح أكثر كافكاويةً منه هو ذاته.
أخرج أورسون ويلز لكافكا المحاكمة، بطولة ويلز نفسه وأنتوني بيركينز في 1962. ثم أعيد إنتاج القصة في فيلم من بطولة أنتوني هوبكينز وإخراج دافيد جونز عام 1993. العديد من المخرجين اهتموا بنقل عالم كافكا إلى السينما؛ من أهمهم وودي آلين وديفيد لينش وستانلي كوبريك الذي يقال إنه أبدع The shinning بإلهام من عفريت آخر هو كافكا.
الأسرة.. ولادة الاغتراب
شكلّت أسرة كافكا جانبًا كبيرًا في شخصيّة الطفل الذي حمل على عاتقه حملًا أوديبيًا منذ الصغر، انعكس على أدبه وحياته وعلاقاته بالنساء.
في عام 1919، بلغ كافكا السادسة والثلاثين، وفيها كتب رسالة لوالده فيها عتاب، وتفسير لتصرفاته تجاه أبيه. وقال فيها:
الوالد الأعزّ..
"كانت كتابتي كلها تدور حولك. والحق أنني كنت أشكو فيها ما كنت لا أستطيع أن أشكوه على صدرك*".
كان كافكا يحمل لوالده خليطًا من الإعجاب والحنق. فهو من ناحية كان معجبًا بقوته وضخامة بنيته وإصراره على النجاح، ومن ناحية أخرى كان يلقى منه معاملة لا تليق بمعاملة أب لابنه.
يقول كافكا لأبيه: "كنت بالنسبة لي مقياس الأشياء. كنت تحكم العالم وأنت تجلس في كرسيك ذي المسند. وبالنسبة لي أصبحت تتصف بالغموض الذي يحيط بجميع الطغاة الذي يقوم حقهم على شخصهم، وليس على التفكير".*
انسحب هذا الاضطراب بين كافكا ووالده على علاقته بالأسرة كلها. كتب عن شعوره تجاه أسرته في عام 1912: "إنني أكرههم جميعا واحدا بعد الآخر".
كان لهذا أثر في شعوره المقيم بالغربة والنبذ، للدرجة التي تجعله يصف نفسه باعتباره «دخيلا» أو غريبا تماما؛ كغريغور سامسا، بطل "المسخ" روايته الأشهر على الإطلاق. وتؤكد يوميات كافكا على هذا المعنى إذ يقول: "أتراح وأفراح أقاربي تثير الملل في أعمق أعماق نفسي."*
من علامات رغبة كافكا الشديدة في سلوك طريق مغاير تمامًا لوالده وأسرته؛ اختياره لأن يكون نباتيًا في عائلة تعتاش من مهنة الجزارة وتتوارثها. يقول كافكا ساخرا من نباتيته: "إن الأمر سهل بالنسبة للنباتيين كونهم يقتاتون على لحومهم!*".
البحث عن امرأة
في رحلة بحثه الشاقة عن امرأة تنتشله من عالم والده، اتخذ كافكا عدة هيئات دارت في فلك: السيكوباتي، المتلصص الشهواني، الباحث عن القذارة، سيد الانسحابات الوقحة.. والتوّاق إلى امتلاك جميع نساء العالم.
ورغم أنه لم يكن إباحيًّا وفق المعنى الشّائع، فقد بلغ كافكا درجة عالية من الشبق في حياته النسائية التي بدأها بارتياد بيوت الدعارة، واستكشاف مواطن القذارة بين أحضان العاهرات ذوات الفساتين غير اللائقة، والخادمات، والطّباخات، والزوجات الخائنات.**
أراد كافكا أن يشيد نفقًا يبتعد فيه عن أنظار والده المتسلط، في هذا النفق اتخذت المرأة أيقونة العاهرة طيلة الوقت. لكن المفارقة أن والده هو الذي دفعه بيده دفعًا إلى تلك الأماكن منذ الصغر، ما يجعلنا أن نفكر في أن انغماس كافكا في التعاطي مع هذا المحيط ربما يكون نوعًا من العقاب لتربيته على هذا النحو، أوفرارًا من الخيالات المثلية التي تلاحقه.
في العالم الفوقي طغت المراسلات على علاقاته بالنساء، تلك الوسيلة ساعدته على الإبقاء على وضع الامتلاك المؤجل-عن بعد- الذي يعطيه التفوق الكامل من أجل تشكيلهن دائما وفق مخيلته. إنه يعيد صناعتهن، تهيئتهن- بعيدًا عن صورة العاهرة- بما يتفق مع عالمه برسائله التي تغذي في الواحدة منهن "كافكاويتها" التي تحتاج إليه هو كي يوقظها.
فيليس باور- الفتاة الأولى في حياة كافكا لم تفهم أنه أحبها لأنه اعتقد خاطئا منذ البداية أن فيها شيئا منه، أنها ربما تصلح كي تكون واحدة من شخصيّات رواياته. التقى بها في منزل صديقه ماكس برود في ليل 13 آب/ أغسطس 1912. وللوهلة الأولى شعر حيالها بالشفقة رغم أن أحدا لم يمسها بسوء؛ لكن جاء هذا بسبب اعتقاده أنها الخادمة.
بدأ الكاتب اصطيادها برسالة كتبها في 20 أيلول/ سبتمبر من العام ذاته، جاء فيها: "أدعى فرانز كافكا، وأنا ذاك الذي سّلم عليك لأول مرة، ذات مساء في بيت السّيد برود ببراغ، ثمّ بعد ذلك جعل يمرّر إليك من فوق الطاولة، واحدا وراء الآخر، صورًا لأحد الأسفار، وانتهى المطاف بيده، التي تضغط الآن هذه المفاتيح، إلى إمساك يدك، التي أكدت بها وعدك بأنك مستعدة لمرافقته في السّنة القادمة في رحلة إلى فلسطين.**
يقول لويس غروس في كتابه ما لايدرك عن خُطة كافكا للإيقاع بها: "بعد الاتّصال الأوّل ستبدأ عبر الرّسائل وظيفة مصّاص الدّماء. كان كافكا بحاجة إلى أن يغذي لياليه بدم فيليس وشبحها".
قبل ذلك حاول كافكا اصطياد فتاة أعجبته حين كان في زيارة إلى منزل غوته في فايمار بألمانيا عن طريق المراسلة، بعد أن فشل في ترتيب موعد معها. كتب كافكا إلى صديقه ماكس برود يسأله: "هل من الممكن الاستيلاء على فتاة بالكتابة؟".
توالت بعد ذلك المراسلات بين براغ وبرلين (حيث كانت فيليس تعيش) نشأت عنها علاقة استثنائية، أًصبحت فيها فيليس باور أعز إنسانة بالنسبة لفرانز كافكا، رغم أنهما لم يريا بعضهما سوى مرة واحدة. خلال هذه الفترة كتب الحكم والسكتة، وبعض فصول من أمريكا، والمسخ.
في الرسالة الخامسة يبدأ كافكا في استلاب الفتاة بأسئلة كثيرة كي يغوص في التفاصيل. يقول إلياس كانيتي في كتابه محاكمة كافكا الأخرى: "يسأل ألف سؤال، يريد معرفة كل شيء عنها. يتمنّى أن يكون في وضع يتخيّل فيه بالضّبط ما يجري في المكتب حيث تعمل، وكذلك في منزلها. يسألها أن تجيبه متى وصلت مكتبها، ماذا تناولت من إفطار.. ما هي أسماء أصدقائها.. من المسئول عن إتلاف صحتها بالحلويّات. هذه هي الأسئلة الأولى فقط...لا يدع أي تناقض يمر دونما ملاحظة، ويطلب تفسيرًا سريعًا".
كان يتأمل كل صورة لها من وراء عدسة مكبرة، حتى يستطيع الإطّلاع على أدق التفاصيل لسد الفراغات التي تغيب عنه. يملأ رأسها بأحاديث عن نفسه، يطلب منها رأيها بخصوص كتابه «تأملات»، فترد بقائمة من كتابها المفضلين، ولا تمنحه رأيا جادًا بخصوص الكتاب، فيثور كاتبًا إليها: "أنا غيور من كل النّاس في خطابك، رجالا ونساء، رجال أعمال وكتابا".***
في الأول من حزيران/يونيو 1914 وبعد لقاءات محدودة عقد فرانز كافكا خِطْبَته على فيليس باور في برلين بحضور أسرتيهما. ولكن بدأت الاضطرابات بينه وبين خطيبته منذ اليوم الأول. يقول كافكا عن مراسم الخطوبة: "لو قيدوني بأصفاد حقيقية ووضعوني في زاوية، ووضعوا رجال شرطة أمامي، وتركوني أُشَاهَد بهذه الطريقة فقط، لما كان الأمر أسوأ. وهذه كانت خطوبتي".***
يشير مترجم فرانز كافكا إبراهيم وطفي إلى أن حب كافكا لفيليس باور كان يقوم على كونها بعيدة عنه، حيث هي تقيم في برلين وهو يعيش في براغ. فإذا ما اقتربت منه بعد الخطوبة، شعر بالعبء الذي يثقل كاهله ويضيق عليه عالمه الواسع.
أراد كافكا أن يعيش متقدما على العالم بساعة ونصف الساعة، بسبب طبيعته المترددة التي تحتاج إلى مدة كافية لاتخاذ قرارات من شأنها أن تكون حاسمة. ما حدث هو أن خطيبته أعادت ضبط الساعة وفق ساعات الآخرين، مما أعده كافكا انتهاكا للنظام الذي وضعه لنفسه، وجعله يفكر في القيود الأسرية التي تلوح بالأفق.
تم فسخ الخطبة بعد ستة أسابيع فقط، في محكمة أقامتها عائلة فيليس لكافكا، تلك المحكمة التي ألهمته كتابة "المحاكمة".
بعد مراسلات أخرى بينهما أعاد الاثنان خِطْبَتهما في تموز/يوليو عام 1917 لكن دون مراسم أو احتفالات رسمية. واستمرت العلاقة بينهما دون وجود ما يعكر صفوها سوى تردده الذي يدعوه إلى التخوف من حدوث الأسوأ دائما.
في 27 كانون الأول/ديسمبر انفصل كافكا عن فيليس باور نهائيا. معللا هذا الانفصال بقوله: إنه لا يستطيع أن يجمع بين الكتابة وبين فيليس باور، فكان عليه أن يختار بين أحدهما.
ويشير راينر شتاخ، أحد مفسري كافكا إلى أن السبب الأساسي لامتناع كافكا عن الزواج- الذي هو مقبرة الأدب بالنسبة له- هو رغبته لأن يمتلك هويته، بمعنى ألا يؤثر شخص دخيل على حياته.
الفتاة الثانية في حياة فرانز كافكا هي جريت بلوخ الفتاة التي أوقعها في شباكه أثناء علاقته مع فيليس باور، بحكم كونها الوسيطة في تلك العلاقة. كانت بلوخ تمنحه السند في هذه العلاقة حتى وجد نفسه في أمس الحاجة إليها. توطدت العلاقة بينهما بخطابات جعلته يتقرب إليها أكثر فأكثر ويناقشان أسرارًا عن فيليس.
تحوّل موقف بلوخ نحوه بعد فترة من إتمام الخطبة حيث تنتهي مهمتها. لكنها ظلت مدفوعة بالغيرة نحو فيليس. ورغم طبيعة هذه العلاقة فإن بعض الادّعاءات تشير إلى أن غريت بلوخ أنجبت من فرانز كافكا ابنه الوحيد، وظلت محتفظة بهويته سرًا.
يكتب: "أشعر بالتعاسة الفائقة حيال الأذى الذي سببته، لكنني لا أعرف كيف يمكنني التصرف في شكل آخر".
في عام 1919 تكتب إليه شابّة متزوجة تُدعى ميلينا تقترح عليه ترجمة أعماله إلى التشيكية فيبدي ارتياحه. وتبدأ هي في امتصاص كافكا من خلال أعماله شديدة الوطأة. كانت ميلينا بالنسبة له صيدًا صعبًا، أو هكذا ظن. يراها كإلهة: متمرّدة، حرّة، مثقّفة، بائسة، وقبل كل شيء متزوجة.
يقول عنها: "لا أستطيع أن أحب إلا ما هو فوق مستواي. ميلينا بالنسبة لي لا يمكن الوصول إليها، ويجب أن أذعن لذلك".**
تنتشله الحياة مع ميلينا من وحل علاقاته السابقة بالعاهرات وشغفه بالخادمات، وتنزع عن الجنس قذارته التي صنعها خياله. لقد استطاع أن يجمع مع ميلينا بين الجنس والحب في آن، الأمر الذي جعله يتلبّس شخصيّة رومانسية: "وجهك فوق وجهي في الغابة. وجهي فوق وجهك في الغابة. ورأسي يرتاح على أحد نهديك الذي يكاد يكون عاريا". **
كانت ميلينا قادرة خلال أربعة أيام عاشاها معا في فيينا أن تشفي كافكا من أمراضه. بعد العودة؛ يمطرها بالرسائل، يقول إنه لا يغار من زوجها، ويكتفي أن يكون فأرة في بيتها.
يعود كافكا إلى كافكاويته مرة أخرى عندما يثنيها عن زيارة براغ كلما أشارت هي إلى ذلك، يرغب فيها هذا صحيح، لكن عن طريق الرسائل، فتصاب الفتاة باليأس.
ميلينا، أو الأم ميلينا كما يحب أن يناديها، لا تسلم هي الأخرى من انسحاباته، ويؤلمه أنه لا يستطيع أن يفعل شيئا حيال الأمر: "أنا قذر يا ميلينا، ولا حدود لقذارتي، لذلك أثير الكثير من البلبلة حول النقاء. لا أحد يملك صوتا أنقى من أولئك الذين يعيشون في أسفل درك من الجحيم".**
ظلت ميلينا – رغم وجعها من تصرفاته- على وفائها وحبها له، فبعد أن مات كافكا نعته ميلينا في جريدة قائلة: "لقد توفي قبل أمس فرانز كافكا.. قلةٌ هم من يعرفونه هنا. لأنه كان منعزلا، رجلا حكيما يهاب الحياة. كان خجولا وطيبا، لكن الكتب التي كتبها كانت قاسية وموجعة... هو أحكم من أن يعيش، وأضعف من أن يقاوم. لكن ضعفه هو ضعف أولئك الأشخاص المرهفين الذين يعجزون عن مواجهة الخوف وسوء الفهم وعدم التقدير والخداع".
الفتاة الأخيرة في حياة كافكا هي دورا ديامنت، فتاة بولندية تعرّف إليها كافكا في مركز للاستجمام. أدهشه ما قالته عن نفسها وأشعل فيه الحماسة: "أنا مخلوق غامضٌ، مملوءٌ بالأحلام والتوقعات. أبدو وكأنني خرجت مباشرة من رواية لديستوفسكي".
هي العلاقة الأكثر اكتمالا في حياة كافكا، إذ أن الموت هو الذي أنهاها. خططا معا للهجرة إلى تل أبيب حيث بإمكانهما أن يتشاركا في إنشاء مطعم تكون فيها دورا الطبّاخة ويكون فيه صاحب الانمساخ نادلا.
تتبدد الأحلام بالفقر والمرض، ويجد كافكا نفسه يبعث برسالة إلى والد دورا كي يقبل بزواجه منها. يستسلم كافكا للموت الذي يحيق به، بعد أن استلم رسالة من الأب يرفض فيها هذه الزيجة.
الكل في كافكا
يقول ناقد إن كافكا هو قارة أدبية هائلة، ويقول آخر إن كافكا هو كاتب القرن العشرين، بينما يقول ثالث إن كافكا أسس دينا أدبيا جديدا. وعلى نفس المعنى يؤكد باحث آخر يرى أن كافكا أقرب ما يكون إلى شخصية أسطورية تنطوي على شيء مقدّس.****
في البحث عن شكل للمشروع الأدبي عند كافكا يفاجئنا هو بقوله في رسالة إلى فيليس باور: "هل تجدين في الحكم أي مغزى؟ أعني أي مغزى يمكن تتبعه؟ أنا لا أعثر عليه ولا أستطيع أن أفسر شيئا في القصة".* مما يعني أنه يكتب ما يشعر به دون الحاجة إلى ضرورة وجود هدف يخدم بناء القصة أو يبعث برسالة ما إلى القارئ.
وربما هذا ما يفسر الافتتان بكافكا إلى الآن، فالكاتب استطاع أن يضع يده على مواطن الضعف في الوجود الإنساني، وأن يمزج بين ما هو معقول وما هو غير معقول في قالب واحد دون أن يكون باستطاعة أحد- وهنا تكمن المفارقة أو لنقل اللذة- أن يميز في إطار كتاباته بين هذا أو ذاك. ويقول ناقد أدبي عن هذا الأمر: يرفع كافكا ما يسمى اللاواقعي إلى مرتبة الواقعي. وبهذا يرغمنا على أن نرى عالمنا من جديد.
رغم ذلك نجد الفيلسوف الألماني غونتر أندرس يصف كافكا بأنه كاتب واقعي، يصف العالم المتوحش اللإنساني.
يشير بعض الكتاب إلى الكتابة باعتبارها لعنة تصيب الكاتب، لكن كافكا يستخدم طريقة أخرى ربما أكثر قسوة. يقول عن كتابته للحكم: "القصة خرجت مني- كولادة حقيقية- وهي مغطاة بالوسخ والبلغم. وأنا وحدي أمتلك اليد التي بوسعها أن تدخل إلى الجسد وتستشعر ذلك".*
يقول أيضا عن الكتابة: "الكتابة مكافأة عذبة. على ماذا؟ على خدمة الشيطان. والشيطاني فيها يبدو لي واضحا للغاية".*
رغم هذا نراه في موضع آخر يتحدث عن الكتابة بوصفها شكلا من أشكل الصلاة رغم أنه لم يكن يهوديا متدينا. ما يجعلنا نتساءل: ما الكتابة بالضبط عند كافكا؟
أية محاولة للفصل بين كافكا وأدبه هي محاولة غير مجدية، لأن الرجل لم يكتب إلا عن نفسه: "قصصي هي أنا". ويقول أيضا: "حياتي هي محاولة للكتابة". ويعاود التأكيد على المعنى ذاته: "ليس لدي اهتمام أدبي، وإنما أتألف من كلمات. لست شيئا آخر. ولا أستطيع أن أكون شيئا آخر". ويؤكد إبراهيم وطفي مترجم أعمال كافكا على ذلك بقوله: "الكتابة هي موضوعه الوحيد. وهو نفسه مدار الكتابة، إنه لا يكتب عن شيء، وإنما يكتب عن نفسه في شخوصه".
كافكا كان يدرك جيدًا ما يقوم به، ويعرف أنه خُلق ليثير الغبار، ليطرح الأسئلة، ليساء فهمه- رغم كل شيء- بالطريقة التي هو عليها الآن. إن كافكا هو أن تقول الكثير دون أن تحرّك لسانك، أن تعيد لملمة الأشياء كي تبعثرها من جديد. لنقرأ ما قاله عن كاتب امتدح كتابه التأملات: "يكتب هو عني لكن بجهل تام، جعلني أعتقد أن الكتاب متميزا. لأن الكتاب يخلق نوعا من سوء الفهم يستحيل توقعه بالنسبة للكتب".***
يدعم هذا القولُ الاتجاه الذي يشير إلى أن كافكا كان يعلم أنه يستودع أعماله رجلا- ماكس برود- لن يخاطر بتدميرها.
في 1962، أقيم مؤتمر عالمي بمبادرة من جان بول سارتر لمناقشة ونشر أعمال كافكا في العالم الشيوعي. بعدها بسنوات؛ لم يعد أدب كافكا في حاجة إلى هذه المبادرة، إذا أن أدبه غزا العالم بعد 1994، حين سقطت حقوق الملكية الأدبية عن أعماله، ليصير بعدها وعن جدارة أيقونة القرن العشرين الذي جعل العالم يتهوّس بمقتنياته، حتى لو كانت سدادة قطن كان يضعها في أذنه ليمنع عنه ضجيج العالم.*
المصادر
(*)- فرانز كافكا: الآثار الكاملة مع تفسيراتها، الأجزاء(1،2،3،4)، إبراهيم وطفي، دار الحصاد، سوريا.
(**)- ما لايدرك: النساء في حياة وأعمال فرانز كافكا وفرناندو بيسوا وتشيزاري بافيزي، تأليف لويس غروس، ترجمة: زينب بنياية، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة.
(***)- محاكمة كافكا الأخرى: رسائل كافكا إلى فيليس، إلياس كانيتي، ترجمة: نعيمان عثمان، دار جداول للنشر والتوزيع، بيروت.
(****)- فرانز كافكا-الآثار الكاملة، الجزء الأول- مقدمة المترجم ابراهيم وطفي.
مراجع أخرى:
--فرانز كافكا: رسائل إلى ميلينا، ترجمة الدسوقي فهمي، الهيئة العامّة لقصور الثّقافة.