
خدعة Ripley.. المشاهد شريك القاتل
كيف يحولنا ستيفن زيليان إلى شهود متواطئين؟
كيف يمكنُ استعادةَ قصةٍ معروفةٍ وتقديمها في تجربةٍ جديدةٍ؟ لماذا يحتاج الجمهور إلى نسخة أخرى من عمل سبق وشاهده؟ لا بد أن ستيفن زيليان وقفَ طويلًا أمام هذا التحدي حينما قرر إعادة تقديم The Talented Mr. Ripley في مسلسلٍ، فالرواية شهيرة، والفيلم الذي أخرجه أنتوني منجيلا عام 1999 قدم معالجة قوية رسخت في الذاكرة.
يروي المسلسل الذي عرضته Netflix في عام 2024 قصةَ توم ريبلي الذي يعيش حياةً فقيرةً في مدينة نيويورك ويعتمد على الاحتيالات الذكية الصغيرة، حتى يَعرض عليه رجل أعمال ثري رحلةً إلى إيطاليا لإقناع ابنه ديكي جرينليف بالعودة إلى الولايات المتحدة للانضمام إلى العائلة. لكن ما يبدأ كمهمة بسيطة يتحول تدريجيًا إلى افتتان تام بأسلوب حياة الأثرياء.
ينغمس توم الشاب المشرَّد في عالم الابن المدلل الثري ديكي ويبدأ بتقليده وسرقة كل ما يملك، حتى الاسم والملابس والمقتنيات حتى موهبته في الرسم، بعد ذلك يقتل توم، ديكي، ثم يقتل فريدي، صديق ديكي الذي كشف حقيقته، ثم يدخل في سلسلة معقدة من الخطط والحيل المتقنة لتفادي مطاردة المحقق الشرطي المكلف بكشف ملابسات الجريمتين.
قصة توم ريبلي ليست غريبةً على المجتمع الأمريكي بفضل الروائية الشهيرة باتريشيا هايشميث، التي درست الأدب الإنجليزي والكتابة المسرحية، وحققت شهرةً كبيرةً في الأدب البوليسي والإثارة النفسية، واقتبست السينما من أعمالها للمرة الأولى في عام 1951 على يد ألفريد هيتشكوك من خلال روايتها Strangers on a Train.
أبدعت هايشميث في كتابة سلسلة روايات القاتل ريبلي، وتتألف من خمسة أعمال هي The Talented Mr. Ripley في 1955، ثم Ripley Under Ground في 1970، ثم Ripley’s Game في 1974، وRipley Under Water في 1991، وأخيرًا The Boy Who Followed Ripley في 1993. وبفضل هذه السلسلة، أصبحت شخصية ريبلي رمزًا للجريمة النفسية المعقدة.
متورط أم متواطئ؟
فما الذي يمكن أن يُقدم بخصوص ريبلي ولا يكون أكثر من مجرد إعادة إنتاج؟ يبدو التحدي صعبًا لكن ستيفن زيليان واحدٌ من أكثر كتّاب السيناريو والمخرجين دربةً على سرد القصص المعقدة دون فقدان اللمسة الإنسانية ما يشعر المشاهدين أنهم يعرفون شخصياته عن قرب.
خلال مسيرته الفنية فاز بجائزة الأوسكار عن فيلم Schindler’s List في 1993 كأفضل سيناريو مقتبس، وترشّح لاحقًا لعدة جوائز مرموقة، وكتب نحو 19 عملًا بارزًا منها The Girl with the Dragon Tattoo وThe Irishman، وأخرج خمسة منها، من بينها مسلسل ريبلي.
ما فاتك لم يكن "ماذا حدث"، بل "كيف حدث"، توصل زيليان للطريقة التي سيتعامل بها مع تحدي مغايرة نسخ ريبلي السابقة؛ قرر ألا يروي القصة كحدث سريع أو لغز يحتاج إلى حل، بل يغمر المشاهد في تفاصيلها الدقيقة. الجريمة ليست مجردَ لحظة صادمة تُرتكب وتنتهي. هنا، نحن نعيش كل خطوة من خطوات توم، تردده، ارتباكه، محاولاته المحمومة لمحو آثاره من مسارح الجريمة، وكأننا عالقون معه داخل عقله المضطرب.
لمدة 25 إلى 32 دقيقة من بداية إلى نهاية الحلقة، لا يتركك زيليان تفلت. لا موسيقى صاخبة تدفعك للشعور بالإثارة، بل صمت خانق، أصوات صغيرة، خبطات حذاء على السلم، صوت هاتف، هدير محرك قارب، كل شيء مصمم ليجعلك تتورط، ربما تكون شريكًا، وربما متواطئًا في كل جريمة.
في هذا العالم، حتى الأشياء الجامدة تتحول إلى شهود صامتين؛ التماثيل، اللوحات، السلالم التي تصرخ مع كل خطوة، المصعد الذي يهدد بفضح الأسرار، والتليفون الذي يرن كأنه يُعلن نهاية اللعبة. ما يفعله زيليان هو إبطاء الزمن إلى الحد الذي يجعلك تشعر أن الجريمة تحدث أمامك الآن، في هذه اللحظة، ولا يمكنك أن تفعل شيئًا لإيقافها.
السرعة ليستْ في صالح ريبلي
زيليان ومدير التصوير روبرت إلسويت يعلمان أن السرعة ليست في صالح ريبلي. على العكس، البطء هنا هو الأداة الأكثر فاعلية. نحن لا نشاهد توم وهو يرتكب الجريمة، بل نشعر بها معه، لحظة اتخاذ القرار، صعوبة التنفيذ، والرعب المترتب على كل تفصيلة. المشهد لا يمر بسرعة، بل يأخذ وقته بالكامل، وكأن الزمن يتمدد، مما يجعل الجريمة أكثر واقعية، وأكثر إيلامًا.
على سبيل المثال مشهد قتل توم لديكي في الفيلم كان عنيفًا ومباشرًا، أما في المسلسل، فتتحول الجريمة إلى لوحة مشحونة بالتوتر والجمال البصري في آن. أندرو سكوت، بأدائه الهادئ والمكثف، لا يترك مجالًا للانفعال المباشر، بل يتلقى رفض ديكي ببرود ظاهري، بينما تتراكم العاصفة داخله. القرار لا يأتي في لحظة غضب، بل في لحظة صمت، وديكي يدير المحرك وكأنه يستعد لمصيره.
اللقطة واسعة، القارب وحيد وسط البحر، كل شيء ساكن، لكن بداخل توم، العاصفة تضطرب. وبعد ارتكاب الجريمة، لا ينتهي المشهد، بل يبدأ فصل جديد من الرعب المحسوس.
نفكر مع توم: ماذا بعد؟ حين يقرر التخلص من الجثة بعد سرقة ممتلكات ديكي. يفتش عن حبل لربط الجثة بثقل وإغراقها، وفي لحظة ارتجالية هادئة لكنها محمّلة بالتوتر، يشعل ولاعته ويستخدم وقود المحرك لقطع حبل قديم كان على القارب. هذا البطء ليس مجرد تباطؤ في الإيقاع، بل هو استدراج للمشاهد ليعيش كل تفصيلة، كل قرار، وكل خطأ محتمل.
إيطاليا كذلك ليست مجرد مواقع تصوير في ريبلي، بل شخصية رئيسية لها دورها الخاص. فالكاميرا تعشق المعمار البارد، الأزقة الضيقة، والساحات الفارغة التي تعكس عزلة توم، الظلال تمتد وتتداخل، والجدران تبدو شاهدة عليه، والأماكن سجنًا غير مرئي يحاصره من كل جهة.
المسلسل مقابل الفيلم
لا يطمح زيليان لمنافسة الفيلم بقدر ما يعيد تفسير القصة من منظور مختلف. ريبلي ليس مجرد شاب طموح يسعى لحياة أفضل، بل هو كائن متخفّ، يتلاشى داخل عالم من الظلال، هادئ، داهية، عبقري، يمكنه تطويع كل تفصيلة لتكون في صالحه.
الفرق الجوهري بين المسلسل والفيلم يكمن في مدى تفاعلنا مع توم، بل يمكن القول في تورطنا معه؛ نحن نعرف أن المحقق لا يجوز أن يرى خاتم ديكي في إصبع توم، ولا جواز السفر الحقيقي، ولا الدم الموجود في حوض الاستحمام، ولا حقيبة السفر التي تحمل أول حرفين من اسم ديكي، نعرف أيضًا أن زيارة مارج له في الشقة ستمثل خطرًا عليه، مما يجعلنا نشعر بالقصة، ونغوص داخل عقل مجرم يرى العالم ساحة لعب للنجاة. لا شيء يُقال بوضوح، بل يُترك للمشاهد قراءة ما بين السطور، أن يملأ الفراغات، وأن يصبح شريكًا غير مرئي في الجريمة.
هكذا، لا يقدِّم ريبلي مجرد قصة عن الجريمة والخداع، بل رحلة بصرية ونفسية تجعلك تتساءل في كل لحظة: لو كنت في مكان توم، هل كنت ستتصرف بشكل مختلف؟ وهل نحن حقًا نشاهد الجريمة، أم نعيشها؟
ولا يحكي ستيفن زيليان القصة فقط عبر الحوار أو الأحداث، بل يجعل الكاميرا وتنويعات اللقطات بطلًا أيضًا. كل لقطة ليست مجرد مشهد، بل لوحة محملة بالمعاني الظاهرة والخفية.
منذ اللقطة الأولى، يقدم لنا مدير التصوير روبرت إلسويت عالمًا مُحكمًا من الأبيض والأسود، حيث الظل ليس مجرد خلفية، بل شريك متواطئ في الجريمة. هذا الاختيار البصري ليس مجرد نزوة جمالية، بل محاولة لإعادة خلق إحساس الكلاسيكيات السينمائية، خاصة أفلام النوار في منتصف القرن العشرين. نحن نشاهد إيطاليا، لكننا نراها متاهة من الضوء والظلال، حيث يمكن لأي انعكاس زجاجي أو درَج حجري أن يكشف السر الذي يحاول توم إخفاءه.
في مسلسل ريبلي، لا تكتفي الكاميرا بنقل الأحداث، بل تتحول إلى عين متلصصة تكشف العالم الداخلي المظلم للشخصيات، فزيليان يستخدم التصوير أداة تشريح نفسي، حيث يتلاعب بالضوء والظل ليغمرنا في رحلة تتأرجح بين الجمال الخادع والرعب الكامن تحت السطح.
الرسم بفرشاة من الدم والظل
إشارة أخرى لا تقل قوة، هي استلهام التصوير من أعمال الرسام الإيطالي الشهير كارافاجيو الذي اشتهر بمزجه بين الضوء الدرامي والعنف، ليُلقي بظلاله الكثيفة على المسلسل.
الأكثر إثارة هو استدعاء المسلسل لسيرة كارافاجيو الشخصية: الفنان الهارب الذي عاش مطاردًا بعد ارتكابه جريمة قتل. هذه الإشارة الذكية تجعل ريبلي امتدادًا عصريًا لكارافاجيو، وكأن المسلسل يلمّح إلى أن الفن والجريمة يمكن أن يكونا وجهين لعملة واحدة.
والمفارقة أن الفن نفسه يصبح متورطًا في الجريمة، فلوحات كارافاجيو تتسلل إلى التكوينات البصرية؛ مشاهد القتل تبدو وكأنها خرجت للتو من عصر الباروك، حيث الصراع بين الضوء والظل يعكس الصراع الداخلي لريبلي.
ليس هذا فحسب؛ بعض المشاهد مصممة بعناية لتبدو وكأنها لوحات كلاسيكية متجمدة في الزمن. وكأن ريبلي يحوّل كل جريمة إلى عمل فني زائف، يعيد تشكيل نفسه مع كل ضحية.
كل لقطة في ريبلي ليست مجرد صورة جميلة، بل نافذة إلى عقل مضطرب. وبينما يواصل ريبلي خداع العالَم، تبقى الكاميرا شاهدة صامتة تسألنا هل هو قاتل بدم بارد؟ أم فنان مهووس يعيد رسم حياته بفرشاة من الدم والظل؟