
تشارلز ديكنز يزرع بذرة المسيح في عالم سكردوج المظلم
قراءة في رواية "أنشودة عيد الميلاد"
ربَّما لو قُدِّر للروائي الإنجليزي الكبير تشارلز ديكنز (1812-1870) أن يُعاصِر فيلسوف الوجودية المسيحية الفرنسي الرائد جابرييل مارسيل (1889-1973)، لصدَّق الأول على شطرٍ كبيرٍ من أفكار الثاني. كان مارسيل يعتقد أنّه لا حياة للرُّوح بلا جسدٍ، وأنَّ الجسد ضرورة لتمارس الروح تأثيرها في العالم.
في مقدّمة روايتِه القصيرة الخالدة ترنيمة عيد الميلاد، التي صدرت للمرة الأولى في العام 1843، يصف لنا ديكنز شخصية بطل الرواية، إبِنِزَر سكرودج، المسن البخيل، فيجعل من كلّ ملمحٍ في جسده نافذة على ملمحٍ في روحه، في تطابُقٍ يجعلنا نصدِّق بدورنا على فكرة مارسيل التي مفادُها أنه لا بدّ أن يكون الجسد مجلى الرُّوح الذي لا حياة لها إلّا به، لا مجرّد أداةٍ وُهِبَتها، ومصيرها إلى الفناء المُطلق!
إنّ البرودة التي في قلب سكرودج "جمّدَت ملامحه العتيقة، وقرصَت أنفه المدبَّب، وجعّدَت خدَّه، وصلّبَت مِشيته، وحمّرَت عينيه، وزرّقَت شفته الدقيقة، وتحدّثَت بخبثٍ عبر صوته الأجشّ". لكنّنا سرعان ما نكتشف في الصفحات الأولى من الرواية أن روح مارلي، شريك سكرودج في التجارة الذي مات قبل بداية أحداث الرواية بعدّة أعوام، تعود إلى الأرض لتَسيح فيها؛ مُكَفِّرة عن إحجامِ مارلي، في حياته، عن الالتفات إلى الناس والسعي لقضاء حوائجهم.
استهلال خارق
الحدَث الافتتاحي الخارق للمألوف، وربَّما يكون خارقًا لما يعتقد ديكنز نفسُه أنه ممكن الحدوث، هو الحيلة التي يُدخِلنا بها إلى مَتن موقفه الديني من العالم، وجوهر رؤيته لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الخَلق وربِّهم.
ولعل وصف ديكنز لافتقاد سكرودج القدرةَ على تصديقِ حواسّه وهو يرى بعينيه شبح شريكه المتوفَّى مارلي يثير أسئلةً بالغة الأهمّيّة عن موقف ديكنز بين الروحانية والمادية.
يسأل شبح مارلي "أي دليلٍ تحتاج على واقعيتي بعد حواسك؟" فيجيبه سكرودج "لا أدري". فيسأله الشبح "لماذا ترتاب في حواسِّك؟" فيجيبُه سكرودج إجابة حمَّالة أوجُه "لأنّها تتأثر بأقلِّ شيء. اضطرابٌ بسيطٌ في المعدة يجعلها خادعة. ربّما تكون أنت قطعة لحمٍ غير مهضومة، أو بقعةً من ذَرُور الخردل، أو مقدارًا من الجُبن، أو قطعة بطاطا غير مطهوة جيدًا. إنّ فيك من المَرَق أكثرَ ممّا فيك من الرُّعب، أيًّا ما كنتَ!".
وليصبغ المؤلف التعبير الأخير بالسخرية المريرةِ غير المصدِّقة، يلعب على الجناس بين لفظتَي gravy بمعنى المَرَق، وgrave بمعنى الجِدِّيَّة أو الخطر. والمهمُّ أن افتقاد الثّقة في الحواس بحد ذاته شائع في خطاب الرُّوحانيِّين والمادّيين على حدٍّ سواء.
يشكِّك الروحاني في قدرة الحواس على إيصال الإنسان إلى الحقيقة، ليخلُص من ذلك إلى أن الحَدْس الفِطري هو وسيلة المرء الحقّة إلى معرفة أصله ومصيره وطبيعة علاقته بالعالم، أو إلى أن اتّباع الرسل هو الطريق الآمن الوحيد إلى النجاة. ويشكك المادّي في هذه القدرة نفسها، إما ليتذرَّع بالعقل وسيلةً إلى معرفة الحقيقة، وإما ليَنفي عن الإنسان القدرة على معرفة أي شيء بالكُلّيّة؛ مؤكدًا عبثيّة الوجود وسُخف الموقف الإنسانيّ فيه.
كلما طال الأمد بين الإنسان واللحظة التي تقاطع فيها مع عالم الغيب ازدادت فرص الإنكار
هذا في تسفيه الحواسّ على إطلاقه. أما هنا، فديكنز يخلق سياقًا خاصًّا، يجعل ما يراه سكرودج شيئًا ينتمي إلى العالم الآخر الذي لا يتقاطع عادةً مع عالم الحِسّ، والضّامن الوحيد لحقيقية هذا المرئي هو ديكِنز نفسه، بصفته خالِقَ الرواية. وفي هذا الإطار لا يسعنا إلا رؤية رد سكرودج الأخير منتميًا إلى الفكر المادي المنكِر لكلِّ ما لا سبيل إلى حَشرِه في العالم الأرضي المألوف.
ولا يقول سكرودج إنه آمن بحقيقيّة هذا الشبح إلا حين يَنزع الشبح المنديلَ الذي لُفَّ به رأسُ مارلي حين وُسِّد القبر قبل سنواتٍ، فيسقط فكُّه السفليّ على صدره ويطلق صرخة تجمِّد الدم في عروق سكرودج!
أزمة العقل البشري
يلخّص ديكِنز أزمة العقل البشري مع شهود الروحانيات، ففي بداية الفصل الثاني حين يستيقظ سكرودج بعد السبات الطويل الذي وقع فيه إثر انصراف شبح مارلي، يظل مترددًا بين طرح السؤال "أكان حلمًا لا غير؟"، وبين تصديق ما رآه.
هكذا، كلما طال الأمد بين الإنسان واللحظة التي تقاطع فيها عالمه الأرضي مع عالم الغيب، ازدادت فرصة نكوصه إلى جحود الغيب وعَزوِ ما حدث إلى لعب الحواس، أو اللاوعي، أو محض المصادفة.
يبدو في سياق الرواية أن القوة التي تتمتع بها كائنات الغيب، والتأثير التي تحدِثه في عالم الحس، مرتبط بنورها الخاص الغامر، وأنه لا سبيل إلى خنق هذا النور. وفي الفصل الثالث حيث تزور الروح الثانية، روح عيد الميلاد الحالي، سكرودج، نجد صدىً لطيفًا لنزع الغلِّ من الصدور في عالم الجنّة؛ فحين يتشاحن المتدافعين أمام الأفران لطهي طعامهم الذي يحتفلون من خلاله بعيد الميلاد المجيد؛ تُلقي روح عيد الميلاد قطرات ماءٍ من شعلتها الغريبة؛ فيعود الوئام!
أمر طيب أن يكون الناس أطفالًا أحيانًا ولا أفضل من موسم عيد الميلاد لهذا الأمر
وفي الفصل نفسِه يشير ديكنز إلى جماعة Sunday Sabbatarians التي كانت تنادي بإغلاق المحال والامتناع عن كل نشاطٍ غير ديني أيام الأحد، تجاوبًا مع الوصايا العشر كما وردت في العهد القديم.
فنرى سكرودج يسأل روح عيد الميلاد الحاضر، عن سر إصرارها على حرمان الفقراء من فرصتهم الوحيدة في تناول غداءٍ جيدٍ أيام الآحاد من خلال إغلاق الأفران والمطاعم، فتتنصّل الروح من هذا الفعل وتتبرأ ممن يُصرون عليه وينسبون أنفسهم في الوقت ذاته إلى روح عيد الميلاد. والشاهد أنّ ديكنز يشير إلى رؤيته لروح التديّن، فالطّقوس ليست غايةً في ذاتها، وإذا صارت ذريعةً لحرمان الفقراء من أبسط مُتع الحياة فلا معنى لها.
تتّسق هذه الإشارة الأخيرة مع إحدى أعمق الإشارات في الرواية، وهي إحياء المسيح في كل رُوح حيّة، خاصةً في أرواح الأطفال. يبدأ الأمر حين تصطحب روح عيد الميلاد الحاضر، سكرودج، لزيارة أسرة بوب كراتشِت، الموظَّف الفقير في مكتبه.
يسمع سكرودج موظَّفَه بوب يتحدث عن ابنه الأصغر قائلًا "لقد أخبرني ونحن عائدان إلى البيت بأنه يتمنى أن يراه الناس في الكنيسة، لأنه مُعاق، وقد يسرهم يوم عيد الميلاد أن يتذكروا من جعل الشحاذين المعاقين يمشون مُعافَين، والعُميَ يُبصِرون".
هكذا نجد إحدى أهم إشارات النص إلى المسيح واردة في حديث الطفل المعاق، حيث يرى نفسه تذكرةً بمعجزات المسيح، أي أن محض حضوره يُعتبر مَجلىً لحضور المسيح.
ثم يترك دِيكِنز أسرة كراتشِت، ويعرِّج بسكرودج من خلال روح عيد الميلاد الحاضر على أسرة ابن أخيه، الذي يحتفل في بيته بعيد الميلاد مع امرأته وأخواتها وأصدقائهما. وخلال وصف ديكنز للاحتفال نعثر على إشارة أخرى إلى المسيح مفعمةٍ بالدلالة، إذ يقول "بعد بُرهةٍ انكبُّوا على لعبة العقوبات، إذ إنه أمر طيب أن يكون الناس أطفالًا أحيانًا، ولا أفضل من موسم عيد الميلاد لهذا الأمر، لا سيَّما أن صاحب عيد الميلاد نفسه كان طفلًا في مثل هذا اليوم".
هكذا يلفت ديكِنز إلى ملمح مهم مرتبط بعيد الميلاد، هو أن في العودة إلى براءة الطفولة تماهٍ مع صاحب العيد في طفولته، أي أن استحضار المرء لطفولته في هذه الذكرى ينطوي على رغبةٍ في استحضار روح المسيح.
إحياء المسيح
يعود ديكنز بسكرودج إلى أسرة كراتشِت في الفصل الرابع، إذ تصطحبه إلى بيت الأسرة روح عيد الميلاد المستقبل، آخر الأرواح الثلاث التي بشّر بها شبح مارلي. وهنا يرى سكرودج أن الطفل المريض قد مات؛ ربما جرّاء بُخله وإحجامه عن مدّ يد المساعدة لموظَّفِه الفقير بوب.
ونشهد بوب وهو يتحدّث عن صغيره المتوفَّى قائلًا "أنا متأكد يا أعزّائي أننا حين نتذكّر كيف كان وديعًا وصابرًا؛ مع أنّه لم يكن إلّا طفلًا صغيرًا؛ فإنّ الشِّجار لن يعرف طريقه إلينا بسهولةٍ ليجعلَنا ننسى تِم الصغير المسكين".
في هذه الجُملة نرى الوصف المعتاد للمسيح، فهو وديعٌ وصبورٌ، كما أن الطف تِم وديعٌ وصبور، والاثنان خاضا رحلة آلام انتهَت بالوفاة والصعود. ويعقِّب ديكنز على مشهد تبادل القبلات الدامعة بين بوب وأفراد أسرته "يا رُوحَ تِم الصغير! لقد كان جوهرك الطفولي من الرَّب!".
يكتمل انعكاس صورة المسيح في شخصيّة تِم الصغير. ولا عجب أن يكون موتُ تِم في المستقبل المحتمل، الذي شَهِدَه سكرودج، حدثًا فاصلًا في تغير موقفه من العالم، فهو يرى المسيح بعينيه يموت مجددًا، ويرى نفسه مسؤولًا على نحوٍ ما عن موتِه، فأيّ فزعٍ يفوق هذا؟!
بتأمُّل هذه اللحظات الثلاث من الرواية، ندرك أن تغيُّر حال سكرودج من عجوزٍ كارهٍ للإنسانية إلى إنسانٍ مُقبلٍ على البشر يفيض حُبورًا، يُعدُّ جوهر النص، إذ ينطوي على شكلٍ من أشكال إحياء المسيح.
كان إنقاذ تِم، في طبقةٍ عميقةٍ من نسيج الرواية، إحياءً للمسيح بأيدي المؤمنين به، وتجاوبًا مع فكرة أن الطقوس إذا حجبت الحقيقة فإنها تفقد معناها، وانتصارًا من دِيكِنز للمعنى الجوهري في كل دين، أنه محبة لله في خَلقه.