كانت طبيعة العلاقة بين الإنسان والإله على مرِّ العصور مصدر إلهام للمبدعين، وصُورت تلك العلاقة بطرق وأشكال مختلفة، بدءًا من نسج الأساطير في الميثولوجيا اليونانية والحضارة الفرعونية وكافة الحضارات والمجتمعات القديمة، مرورًا بتجسيدها على الجدران ومن خلال الملاحم الشعرية، كان من الطبيعي أن يمتد الأمر إلى الفن السابع المُعاصر، خاصة إن أمعنا النظر إلى تلك العلاقة بشكل مُجرد وموضوعي بحت، سنجد أنها مثيرة دراميًا لأبعد مدى.
تناولت السينما بشكل عام والهوليودية على وجه الخصوص الفلسفة الإيمانية عبر عشرات الأفلام، اتسم بعضها بالسطحية أو الهزلية، واعتمدت في بناء حبكاتها على المفارقة في أنسنة الآلهة أو تأليه البشر. بينما توجد أفلام أخرى، تعمقت بالأمر بدرجة أكبر، وتطرقت إلى مفهوم الإيمان وطبيعة تلك الرابطة الروحية وأسس تشكيلها ومدى رسوخها، تناولتها من أكثر من منظور، وطرحت الأسئلة حول مفاهيم القدر والاختيار والغفران والعقاب وغيرهم.. لكن هل تراها أجابت عن أيها؟
الاستدلال على الخالق و تشكُّل العقائد
كان ولا يزال إثبات وجود الخالق وسُبل الاستدلال عليه أحد أبرز الصراعات الفكرية في تاريخ الإنسانية، وبناءً على ذلك كان من الطبيعي أن يكون المنظور الأول الذي تطرق السينمائيون من خلاله لتلك المسألة. قد يكون خير مثال على ذلك فيلم The Sunset Limited الذي أخرجه وشارك في بطولته توم لي جونز أمام صامويل إل جاكسون، والذي يُعد في مُجمله مناظرة مطولة وممتعة بين الأفكار الإيمانية والعدمية.
يمثل طرف المناظرة الأول فيلسوف مائل للفكر الإلحادي، أما الثاني فرجل بسيط يُعرف نفسه بأنه اهتدى للنور الإلهي بعدما عاش ماضيًا تملؤوه الشرور، يحاول كل منهما إثبات صحة رؤيته. تمتد نقاشاتهما لنواحٍ عدة أهمها مبعث الإيمان أهو التحليل العقلي أم الاستشعار الروحي؟ ولعل أكثر ما يميز الفيلم أنه لم يُرجح كفة أحدهما على الآخر، إنما يجعل من المشاهد طرفًا ثالثًا حاضرًا في قلب المشهد، يرى ويسمع ويحلل ويصدر حكمه بنفسه.
سلك فيلم The Man From Earth طريقًا مشابهًا؛ حيث يرصد ردود الأفعال المُتباينة لمجموعة من الأساتذة في فروع علمية مختلفة تجاه أقوال شخص يدعي أنه كان شاهدًا على تاريخ الحضارة الإنسانية من البداية، وعاصر نشأة الأديان وتكون العقائد وانتشارها. ويتطرق من خلال ذلك لأمور عِدة أهمها الموروث العقائدي وكيفية تشكله وتحوله على مرّ التاريخ إلى ثوابت راسخة لا يرتقي إليها شك.
عزفت أنامل كاتب الفيلم جيروم بيكسباي ومخرجه ريتشارد شينكمن العديد من الأوتار بالغة الحساسية، لتنتج لحنًا قد يراه البعض بديعًا، ولكن المؤكد أن كثيرين سيجدونه شديد الإزعاج. وذلك لأنه يتعمد دفع مشاهده للخروج من نطاقه الآمن، ففي النهاية ليس محوره التساؤل حول الموروث العقائدي بقدر ما هو التساؤل عن قابلية الإنسان لإعمال العقل فيما يتعلق بتلك الموروثات, وإعادة التفكر فيما اعتبره مُسلمات وربما افترضه شرطًا لاكتمال الإيمان.
الحكمة الإلهية ومحدودية الإدراك الإنساني
كم واحد منّا، نحن البشر، يستطيع أن يكون أيوبًا؟ التمسك بإيمانك أمر يسير بينما تغمرك النعِم، لكن ماذا إن سُلبت منك؟ يقودنا هذا السؤال للتفكر بشأن الحكمة الإلهية فيما نتعرض له من أحداث, أو ما يُعرف اصطلاحًا بـ"الأقدار"، التي يعد الرضا بها شرط لتمام الإيمان وفق عقائد عدة، حتى وإن غابت تلك الحكمة عن الإدراك الإنساني المحاصر في نطاق الحدود المادية.
يمثل ما سبق أحد أبرز معالجات السينما لمسألة الإيمان ورحلة صُنّاعها في البحث عن جوهره، منهم المخرج دينيس فيلنوف الذي طرّح الأمر من خلال فيلم Prisoners، الذي تميّز بإخلاصه الفني التام لتصنيفه كفيلم إثارة وتحقيقات، ويستعرض مسعى أب ومحقق لكشف الغموض المحيط باختطاف طفلتين بالتزامن مع حلول عيد الشكر.
برع فيلم Prisoners في نسج خيوط حبكته واستغلالها في فكرته الرئيسية حول علاقة الإنسان بالرب وكيفية تأثرها بما قد يتعرض له من ويلات، لدرجة الانقلاب من النقيض للنقيض. تحقق ذلك من خلال إبداعه في وضع كلِ من الجاني والضحية في ظروف شبه متطابقة، وهو ما تكشف بشكل واضح مع تصاعد الأحداث واقترابها من نقطة النهاية، حين يتضح أن دافع الجريمة بالأساس كان التمرد على الخالق لعدم الرضا بقضائه، بينما ظل الضحية على الجانب الآخر ، ورغم اعترافه بالآثام المُثقلة لروحه، يبحث عن الحكمة مما جرى ويلوذ بها في غمرة يأسه.
أما فيلم Silence للمخرج مارتن سكورسيزي فتناول مسألة الإيمان من نفس المنظور، وطرح الأسئلة ذاتها ولكن بشكل أوضح وأكثر قسوة. كان ذلك من خلال الربط المباشر بين عجز العقل البشري عن إدراك الحكمة الإلهية وبين رسوخ العقيدة. يرد السؤال صريحًا على لسان رجل الدين الأب رودريجيز، الذي تحاصره الشكوك ويتزعزع يقينه جراء التنكيل الذي يتعرض له هو ومُتبعي المسيحية على يد السلطة اليابانية بالقرن السابع عشر، باعتبارها أحد أشكال مد النفوذ الغربي.
يرى فيلم Silence ثبات وعمق الإيمان أمرًا نسبيًا، ولذا فإنه لا ينصب نفسه قاضيًا ويتفادى إطلاق الأحكام القاطعة. يفتح فقط الباب أمام الأسئلة التي يراها الناس محظورة أو يتفادون طرحها، أما أبرز ما يميزه فهو تناوله جوهر الإيمان على اتساعه وبمفهومه العام والشامل، وبالتالي أسئلته يمكن ترديدها من قبل صاحب أي عقيدة شرط تصور نفسه بذات الأوضاع ومحاطًا بذات العوامل.
رحمات مُنزلة ونفوس مارقة
لا يمكن بأي حال التطرق إلى الإيمانية في السينما دون ذكر فيلم The Green Mile المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه للكاتب ستيفن كينج، ونقله للشاشة فرانك دارابونت كاتبًا ومخرجًا. ليس لأن الفيلم يعد بمثابة انعكاس لحياة يسوع المسيح، وإن كان ذلك بتهجئة مختلفة على حدّ تعبير الفيلم، إنما لأنه مُفعم بالتساؤلات والأطروحات المُطلقة والمُجردة حول الإيمان والذنب والتوبة والمغفرة والعقاب والعدالة.
يعالج فيلم The Green Mile مسألة الإيمانية بأكثر من منظور أهمهم التساؤل حول لأي مدى قد يتعارض أو يتوافق مفهومي المغفرة والعدالة؟ وكيف يمكن أن تتحقق الثانية في ظل وجود الأولى؟ تكمن براعة وروعة الفيلم في أن إجابته جاءت من خلال طرح فلسفي ثالث تطرق إلى مفهوم العقاب الإلهي، الذي اتخذه سبيلًا لإبراء الظالم من ذنبه ورد الحق للمظلوم، وبه تتحقق العدالة والمغفرة معًا.
ترايلر فيلم Mother
تطرق فيلم آخر إلى علاقة الإنسان بالرب من منطلق مُعضلة المغفرة الإلهية ومدى أحقية الجنس البشري لها، هو فيلم Mother الذي أبدعه دارين أرنوفسكي كاتبًا ومخرجًا، قدم من خلاله قصة متماسكة البناء مُحملة بكم هائل من الرمزيات، تعكس المعتقدات الغيبية القائمة عليها المسيحية وأغلب الديانات. ويروى من خلالها موجز قصة الأرض ومن مَرّوا بها من أجيال متلاحقة من البشر، يعيثون فسادًا ويسفكون الدم مع وعد مُسبق بالحصول دومًا على فرصة ثانية على الأغلب لا يقدّرونها.
يصعب التوسع في الحديث عن أحداث فيلم Mother دون إفساد تجربة مشاهدته ومتعة فك رموزه، لكن يمكن القول بأنه أحد الأعمال السينمائية الأفضل على مستوى الإبداع الفني, والأعمق على مستوى الخطاب الفكري. هو بكل تأكيد عاصف للذهن ويثير تساؤلات تفوق ما يطرحه ضمن أحداثه.
تلك الأعمال، وإن كانت بعض معالجات علاقة الإنسان بالرب خلالها واقعية، فإنها في أغلب الأحيان كانت تجنح للخيال لما يمنحها ذلك من مرونة في العرض والتحليل وطرح الأفكار المتعلقة بالأمور الغيبية. وهو الخيال الذي قد يتخذ شكلًا هزليًا بالكامل، كما فيلم Bruce Almighty أو يميل للسوداوية مثل العمل الكلاسيكي The Seventh Seal للمبدع إنجمار بيرجمان الذي قدم إحدى أفضل وأشهر تجسيدات الموت على الشاشة.
هل أجيبت الأسئلة المُثارة حول المفاهيم الإيمانية؟ أجيب بعضها وفق فلسفة ورؤى واعتقاد صانعه، ولكن الأفضل من بينها لم يقدم إجابات مُلزمة أو يفرض رؤى محددة. كأنما كان تقديم الأطروحات وإثارة التساؤلات هو غايته الأسمى التي فاقت في كثير من الأحيان الرغبة في إيجاد الإجابات، وحولتها إلى مهمة المُتلقي نفسه التي لا يمكنه إنجازها إلا بالتفاعل مع ما يطرحه الفيلم من أفكار، شرط التخلي عن حساسيته المفرطة تجاه مثل تلك المسائل وتجنبه إصدار أي أحكام مُسبقة.