كانت جميلة في الثامنة من عمرها، تنظر للسماء، سرحانة، وهي تسير مع أمها التي صرختْ فجأة "فين الـ10 جنيه؟!"، نظرت الطفلة في كفيها ولم تجد شيئًا، تلقت صفعة وشتائم نابية، قبل أن يستعطف المارةُ اﻷمَّ "في النهاية 10 جنيه!"، فترد "إزاي تضيعها، سرحانة وخايبة، فاكرة نفسها غنية والفلوس ورق كوتشينة".
هذه اللحظات الصعبة، ما أن تتذكرها جميلة حتى تفر من ألمها إلى الموسيقى. استحضرت معزوفة تانجو الكراميل للملحن اللبناني خالد مزنار من فيلم سكر بنات؛ وكأنها موسيقى تصويرية لعلاقتها بأمها والمال.
استمع مع جميلة، واشعر بعالمها النفسي وصخب ثنائية المال والخوف.
معزوفة تانجو الكراميل
بعد الموقف السابق بسبع سنوات، صارت جميلة تخشى السرحان والتوهان، وأصبح الطعام هو البديل، فتحت اﻷم تحقيقًا بحضور الابن اﻷكبر بشأن الـ30 جنيهًا، المصروف الشهري للفتاة، ولماذا أنفقت منه 3 جنيهات دفعة واحدة؟، فأجابت "كان نفسي في شيبسي"، بدأت أسئلة اللوم: لماذا الشيبسي؟ ألا تعرفين أنه ضار؟ تنفقين أموالك في الأكل والشرب، ستصبحين بدينة ومفلسة.
حينها تقوقعت جميلة ذاهبة إلى صوت ثومة وهي تقول "رق الحبيب وواعدني…" وكأنها تناجي المال وتصلي لعلها تلتقيه لقاء الحبيب لا الخطيئة.
فلتستمع مع جميلة محاولاً أن تتشارك معها الخوف من وعلى المال:
رق الحبيب من حفل النادي الأهلي سبتمبر 1944
جميلة، اسم مستعار لشابة باتت ثلاثينية الآن وتتلقى معي العلاج النفسي، جاءتني إثر إعلان ارتفاع سعر صرف الدولار الأخير محملة بنوبة فزع بسبب خوفها على المال الذي تعتقد من الصغر وفقًا لأمها أنها "خايبة وتايهة وسرحانة".
حال جميلة كحال ملايين المفزوعين من هبوط الجنيه، وبات رقم 24 جنيهًا سببًا كافيًا للذعر مثل العشرة جنيهات لدى جميلة الطفلة. لكن عزيزي الإنسان، وبكل أريحية أقولها لك، الأزمة في ظاهرها ارتفاع سعر الدولار، ولكن في باطنها؛ خوفك واضطراب علاقتك مع المال.
تستحق "حياة كريمة"
تبدو جميلة كغيرها ممن تلقوا نمطين مما يسمى في علم النفس "الأفكار المضللة"؛ أولهما ما تصوره بعض أفلام سينما الخمسينيات والستينيات عن الغني الشرير بالضرورة، في مقابل الفقير الطيب الحبوب، صورة نمطية تؤدي فيما بعد لخلق قوالبَ جامدة عن المال وامتلاكه.
أما النمط الثاني، وهو أحد نتاجات الأول؛ فتتعلق بنمط التربية لدى الأسرة المصرية الذي يفتقر لغرس الطمأنينة، ومن ثم ما يسمى نفسيًا "الاستحقاق"، أي عزيزي الإنسان تستحق دومًا الحياة الأفضل. وتطبيقًا على المال، تستحقه مع الحياة الكريمة، فالمال ليس خطيئة بل احتياج مشروع، والافتقار للاستحقاق يخلق إنسانًا مضطربًا يفتقر إلى الحرية النفسية.
يتشكل عبر الرافدين السابقين ما يعرف نفسيًا بالمعتقدات المحورية الموجودة لدينا جميعًا، وهي مجموعة من الأفكار الجامدة التي تشوه الواقع وتخلق حاجزًا بيننا وبين خوض التجربة؛ لأننا وبسببها دومًا خائفون، مثلًا هذا الوعاء حتمًا ساخن لكن دون لمسه فعليًا، أي أنك تفترض دون أن تجرب، بل تحول الافتراض إلى حقيقة، ومن هنا ينتج ما يسمى نفسيًا بأخطاء التفكير، طبقًا لتوصيف الطبيب النفسي إيهاب الخراط في كتابه المخدرات والإدمانات الأخرى.
هنا، وقبل الدخول بالتفصيل في عالم أخطاء التفكير، وعلاقته بالمال لدى جميلة وغيرها، أوضح أن مقالي ليس دعوة لترك أحقيتك واستحقاقك في حياة كريمة، بل محاولة لفهم ماهية علاقتك بالمال، استنادًا إلى أن ثنائية المال والخوف من الثنائيات الشهيرة في اضطرابات التفكير والسلوك، ومنها ينتج إدمان الشراء، وإدمان الطعام، وإدمان العمل والمخدرات وغيرها من سلوكيات مرضية معطلة لحياة الفرد اليومية.
أخطاء التفكير
بمجرد الإعلان رسميًا عن ارتفاع الدولار في مصر، انهال المصريون على منصات التواصل الاجتماعي بجدل صاخب أحاول عرض بعضه وتحليله نفسيًا باختصار.
فعندما تأتيني جميلة وتقول "بالتأكيد وبعد ارتفاع الدولار سيصدق قول أمي بأنني سأكون مفلسة، ولن أقيم أي مشروع خاص"، هذا معتقد محوري يعج بالأحكام المسبقة والافتراضات، فهنا أمها غرست لها فكرة وكأنها حقيقة ثابتة مطلقة بأنها بالتأكيد لن يكون لديها المال. كلما وجدت نفسك أو من حولك يتحدثون بحقيقة مطلقة دون دليل علمي ملموس منطقي فهذه أحكام لا يعول عليها. تحرر منها فورًا.
وعندما يقول أحد رواد منصات التواصل "الرزاق قادر ع كل شيء" هنا تهوين باسم الدين، صحيح أن الروحانيات تخفف عنا عبء الحياة، لكن هناك فارق بين التخفيف والمرونة في التعامل مع المشاكل من جهة، والهروبية والإنكار والاتكالية على أسباب غير منطقية خاضعة لتجربة غير حقيقية من جهة أخرى.
يقول آخر "في أمريكا الفول بـ 150 جنيه.. مصر رخيصة" فهذا مثلًا يحاول إضفاء المنطق لكلماته باستخدام المقارنة والأرقام، بيد أنه منطق مغلوط، فالرواتب في أمريكا مختلفة على نحو جذري، والخدمات المقدمة من صحة وتعليم تختلف أيضًا، أي أننا أمام اجتزاء الأمور من سياقها الحقيقي وهو ما يؤدي إلى التضليل.
حاول أن تلاحظ أنت ماذا عن أخطاء التفكير لديك حول المال.
أبو كرتونة VS أبو تجربة
عزيزي الإنسان، الجذر الرئيسي للأخطاء السابقة هو الخوف، الذي يحوّل القضايا إلى حقائق مطلقة وثابتة لا جدال فيها، ويوحِّد منظور الرؤية، فيصبح الإنسان مقولبًا، لأنه خائف من التجربة والتفاعل مع الحياة بنفسه وجمع المعلومات وبنائها منطقيًا، كشخص مستقل غير اعتمادي، سواء على كلام جاهز يأتي من مؤذن الزاوية في شارعه، أو معلم في مدرسة، أو فيلم سينما ومسلسل تليفزيوني.
مع الوقت، يتحول المالُ أداةً للخوف، أو ما أُفضل تسميته بـ"المال الخائف"، كل نقود يتحصل المرء عليها أو يدخرها بهدف الانفاق في مرض أو طوارئ
إنسان يمشي بـ"كرتونة" من الأفكار؛ على غرار اسم فيلم محمود عبد العزيز الشهير أبوكرتونة، وتصبح رحلة العلاج في كيف يمزق أبو كرتونة كرتونته، يجرب بنفسه.
وبمقتضى مبادئ الصحة النفسية يستطيع الفرد الاختيار بين أن يظل أبو كرتونة أو أن يصبح الإنسان الواعي أبو تجربة، لعله يومًا ما يصل إلى رمانة الميزان بينه والمال؛ أي لا ينتقل بين طرفي النقيض إما الهوس بالمال أو كراهيته، وتبني حالة استحقاق صحية منزوعة من أخطاء التفكير.
العائلة الداخلية
عزيزي الإنسان، واحدة من مسارات التحليل ومناهج العلاج النفسي التي حاولت تفسير ثنائية المال والخوف، نظام العائلة الداخلي/ Intro to the Internal Family Systems لريتشارد شوارتز الذي يتصور أن عقل الإنسان يتكون من شخصيات فرعية منفصلة نسبيًا، لكل منها وجهة نظره ومن ثم كيفية تنظيمه لتكوّن عائلة داخلية متوافقة.
بناءً على منهج العائلة الداخلي، فداخل كلّ منّا أجزاء عدّة، ومنها جزء المنفى/ Exile، منطقة في داخل الفرد، يلقي فيها الذكريات والمشاعر التي تحمل جرحًا عميقًا اضطر إلى نفيها في مكان مظلم من الوعي هربًا من مواجهة وجعها.
وفي مقابل المنفى، يوجد الإطفائيون/ Firefighters؛ الأجزاء المسؤولة عن إخماد الوجع الداخلي من خلال المتعة، مثل الطعام والرقص والسفر، إلخ. لكن الأزمة أو الاضطراب النفسي يأتي من إساءة استخدام هذه الوسائل وخصوصًا لو تمعّن الفرد في نفي ألمه دون التعامل معه، فتهيمن وسائل المتعة ويصبح هاربًا من ألالم، الذي لا مفر منه طالما لا يحاول الإنسان التشافي والتعافي منه.
مع الوقت، يتحول المالُ أداةً للخوف، أو ما أُفضل تسميته بـ"المال الخائف"، كل نقود يتحصل المرء عليها أو يدخرها بهدف الانفاق في مرض أو طوارئ أي مال يدخر من منطلق الخوف لا الوفرة.
جميلة والمال الخائف
مثالًا على ذلك، جميلة وموقف الجنيهات العشرة، الذي شعرت معه بألم نفسي فقررت نفيه. ثم حوّلته بعد سنوات، وهنا لجأت للإطفائيين، الطعام؛ تأكل بنهمٍ بديلا عن التأمل.
هنا دفنت ونفت الألم الذي يتردد وكأنه صوت داخلي: لا تستحقين الاحترام ولا المال ولا متعة الأكل. كما أنها لم تعد قادرة على الإدخار، كونها تتأرجح بين نقيضين إمّا أن تكتنز لأنها خائفة من العوز أو تسرف جدًا على الطعام والشراب والملبس.
باتت جميلة في علاقة مضطربة مع المال، ولا تفهم أهو خير أم شر؟ أقادرة على أن تحافظ عليه وتستثمره وتستمتع به بقرراها الفردي أم أنه وكما كانت تقول الأم "بدينة ومفلسة"؟
جميلة دومًا ما تقول إنها تتذكر جملة جارة القمر "حبسي أنت وحريتي أنت" عندما تتأمل في أمر المال.. ماذا عن أغنيتك حول المال والخوف؟
حبيتك تا نسيت النوم
جميلة أصبحت شابة ثلاثينية تعافر مع النضج بأنها "تستحق" المال، أي أن جزءًا من قيمتها الذاتية أن يكون لديها ما يكفيها وتستمتع به دونما قلق مرضي أو خوف مزمن.
بالتوازي مع جلسات العلاج النفسي الفردي التي تلتزم بها جميلة، قررت كذلك منذ فترة الانضمام إلى مجموعة دعم نفسي من بين موضوعاتها علاقتنا مع المال.
جلست جميلة ورفقاؤها في مجموعة الدعم في دائرة و قلت كقائدة للمجموعة "عايزة كل واحد فيكم يقول بصوت عالي.. الفلوس بالنسبة له إيه: خوف.. طمأنينة.. خناقة..مستحيلة أو ممكنة؟".
والآن، موسيقاك المفضلة.. نفسك العميق.. وابدأ؛ "الفلوس بالنسبة لي…..".