Pixapay- برخصة المشاع الإبداعي
داخل أي مراهقة، هناك مفاجأة ثمينة: روح المخاطرة والرغبة الصادقة في التضحية

لم أتذوق الحياة إلا بعد الثلاثين

منشور السبت 12 نوفمبر 2022

بعد مرور سنوات الطفولة المبكرة، قبل الدخول للمدرسة، وحتى سن الثلاثين؛ كان طعم الحياة باهتًا، تشعر بأن هناك شيئًا مهيمنًا وثقيلًا يسحب المذاق والبهجة مما حولك، وما عليك سوى الاستجابة لدوران عجلة الحياة أمامك. ربما تتماس مع الحياة في أبسط أشيائها، في فيلم السهرة يوم الخميس، وعادة يغالبك النوم قبل عرضه، في الجلوس أمام التليفزيون في أماسي رمضان تشاهد فزورة ثلاثي أضواء المسرح، في تناول وجبة سندوتشات الكبدة مع قرون الفلفل الأخضر من إحدى العربات الصغيرة.

أشياء كانت تحقق لك مُتعًا هاربة من قانون الدوران الصارم، تستقبلها كعطية من مكان مجهول، لكنها في النهاية لا تمنحك الرضا عن نفسك، ولا تغير من طعم الحياة الباهت في فمك.

الانفصال عن جنة البيت، والدخول للمدرسة، شكَّلا عبئًا نفسيًا. ربما هو أول مجتمع، بالمعنى الكبير، أُصبح واحدًا منه. لا نعرف بعضنا بعضًا، يحاول كل منا أن يعوض ما فقده وراءه بتلك الصحبة الجديدة، تكتسب الصحبة حرارة البيت المفقود، لكنها تختلف عنه، كونها تضعك في مقارنات شتى، ربما تسبب لك الكثير من الحرج، عندما ترى صورتك مبعثرة في عيون زملائك.

قنبلة المراهقة

بدخولي المراهقة بدأتُ أشعر بوجود شخص آخر، زُرعت في داخله قنبلة قد تنفجر في أي وقت وأي موقف. ربما كانت تنمو في اللاوعي، حتى قبل أن أولد، ربما كانت المراهقة النقلة الأولى الأصعب التي أدخلتني في التجربة مع "الآخر".

تضعنا المراهقة في مواجهة غير محسوبة مع الحياة، ومع الآخرين، نملك طاقة تمرد، أكبر من استيعابنا لها، وتقديرنا لمداها وقوتها. تقف على حدود المخاطرة، مدفوعًا بها، ولا تجد ما يستحق أن تخاطر من أجله، أو يستوعب تلك الروح الجديدة التي حلَّت في جسدك.

عندها يمكن أن تبيع روحك للشيطان، وأنت غير نادم، كما فعل فاوست بطل جوته الذي باعها في سبيل "الخلود"، لكن خلود بطل جوته غير قابل للتجسد في تلك المرحلة التي يكتنفها الغموض ويغيب عنها الإحساس بمرور الزمن، كأنك في مرحلة آنية طويلة الأجل ليس فيها معنى للنمو أو التحول من طور لآخر، بل تشعب وسيحان في مدى أفقي لانهاية له، لذا يصعب عليك تجسيد حضورك المادي والروحي وسط ذلك الاتساع المريع.

ربما تكون ساعتها مجرد وسيط لروح أخرى تعبر من خلالك، وما عليك سوى الإنصات لها، مهما كلفك ذلك من تضحيات.

عندها تبحث عن علاقات زائلة، قبل أن تبدأ، تزينها المراهقة كأهداف عليا يجب تحقيقها، أو "من أجل جودي فوستر". هكذا قال المراهق الذي أحب الممثلة الأمريكية الشابة آنذاك، تبريرًا لسبب إطلاقه النار على الرئيس الأمريكي رونالد ريجان.

بمجرد دخولي الكلية كنت جاهزًا لتلك التضحيات الخاسرة "من أجل جودي فوستر" المصرية، لكن لن تجد من تصوب عليه الرصاص، فتصوبه على نفسك، أو على صورتك المتخيلة والمنعكسة على سطح ذاكرتك المراوغة، سريعة التقلب والانقلاب.

رغبة لا تُشبع.. ونار لا تُطفأ

حتى علاقتي بالطعام كانت شديدة الانتقائية، كانت "الرغبة" التي تشيعها المراهقة في الجسد تسحب المذاق من الأطعمة، ومن النوم، ومن الهواء، وتغذي الجسم بنوع من الانسحاق والدونية، بضياع مكانك وسط هذا العالم الواسع شديد التباين والتناقض. كانت "الرغبة"، في حد ذاتها، مثل طبقة عليا تحلم بها ولا تقدر أن تطولها.

أتذكر رواية المراهقان للروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا التي قرأتها في تلك الأثناء، بل أعدت قراءتها مرارًا. المراهق آجوستينو الذي يعاني من وطأة الرغبة ببلوغه سن المراهقة، وانتقاله من عالم المثالية إلى الحياة بكل حقائقها القاسية والخشنة، فتتحول علاقته بأمه من الحب الجارف ومعاملتها كملاك، إلى الغيرة الشديدة عليها مع معاملتها بقسوة وكراهية، بسبب علاقتها بأحد الصيادين الشبان، ولكي يتخلص من وطأة ذلك التحول يذهب إلى أحد بيوت الدعارة، مع صديقه الصياد، فيطرد بسبب صغر سنه، ويظل بداخله شيء لا يطفأ، وربما رسالة المراهقة الحقة ألا تُشبع رغبة، أو تُطفأ نار، بل بالحفاظ على تلك الرغبات والنيران مستيقظة داخل الجسد.

في تلك الفترة أصبحت مميزًا بذلك الجسد النحيل والحاد، الذي لم يكن يتحمل ما يدور داخله، ولا يحتمل مواجهات المراهقة المتعددة، فكان يعيش مرحلة استنزاف دائم. كان العقل يحمل وحده عناء الجسد والروح معًا، فكان طريقه أن يأخذ مسارات حادة متطرفة يختصر بها ذلك العناء المضاعف.

ربما القلب كان المسار الموازي الذي كلما رأيت وجهي في مرآته، شعرت بطمأنينة تأتي من وراء أستار الحياة. لم أفقد شرارات الطمأنينة لك طوال حياتي، تعدت المراهقة، وانتقلت معي في كل مواجهاتي التالية، تبث الأمل في أوقات لا أمل فيها.

ليست للمراهقة أبواب خلفية

صاغ التعصب والطرق ذات الاتجاه الواحد "مراهقتنا" لتكون على تلك الشاكلة. كان جزءًا من الهواء الذي يحوط بنا، كأبناء لعائلات من الطبقة المتوسطة، سكة السلامة وسكة الندامة وسكة اللي يروح ما يرجعش. كنا نبحث عن ذلك الاتجاه الثالث المعبد بالفناء، ولكن ما خفف من وطأته أن التعصب كان ممزوجًا بطبقات من الرحمة الحقة، لا يمكن أن تفصلهما عن بعضهما البعض، مثل أغلب قوانين الحياة، كما كانت المراهقة تحمل الروح النقية والآثمة معًا، والخروج من أزمتها لن يتم بتصفية إحداهما، بل بأن نعيش التناقض، مخلصين له، حتى نعبرها بسلام، فليست للمراهقة أبواب خلفية للهرب منها.

ربما ما نجاني من بيع نفسي كلية للشيطان هو هوايتي للعب الكرة في الشارع، بجانب القراءة، تلك النغمة الأثيرة طويلة الأجل التي صاحبت تحولاتي، وكانت بمثابة المرجع الذي ألجأ إليه دائمًا عندما يرتفع معدل اليأس في نفسي. فكرت في إحدى السنوات أن أنضم لناشئي فريق الاتحاد السكندري، مع باقي فريق الشارع، والذهاب للاختبارات التي ستجرى في النادي. جهزت الملابس الرياضية، وبدأت أتمرن بمفردي على النجيل الأخضر في حديقة البيت. في صباح الاختبار، استفاق أبي على صوتي وأنا أؤدي التمرين، وعندما أخبرته عن خطتي، رفض رفضًا قاطعًا أن أفكر في ذلك الأمر.

لذة القراءة

وسط تقلبات مرحلة المراهقة كانت القراءة الطريق ذا الاتجاهين، تعيد لي تذوق طعم الحياة بشكل آخر ومتعدد، وكان إيماني بذلك العالم الآخر، الذي تصنعه القراءة، ربما أكثر من إيماني بعالمي الحقيقي كونه أعاد لي مذاق الأشياء، وإن كان بطريقة جديدة مجردة، وجعل الخيال جزءًا من تفاصيل يومي شديدة العادية، تحول الخيال إلى عنصر نشط خلاق، لا نستعمله فقط كأداة لتوليد الحسرة على ما نعيشه. ربما ورثنا اليأس الذي كان يجري في جينات أجدادنا. يأسنا كان أكبر عمرًا منا بمراحل عدة، ويحتاج لخيال أطول عمرًا، حتى نصل ليأسنا الصافي الذي يخص ذواتنا التي كنا نبحث عنها.

الإعلان التشويقي لفيلم "القارئ"


يحكي فيلم "القارئ" من إخراج ستيفن دالدري،  وبطولة كيت وينسليت في دور نالت عنه جائزة الأوسكار؛ عن علاقة تحدث في برلين بعد حكم النازي، بين تلميذ في الخامسة عشر من عمره، ومحصلة تذاكر في السادسة والثلاثين، تنشأ بينهما علاقة حب مشبوبة، وتشترط عليه المرأة قبل أن يمارسا الجنس، أن يقرأ لها جزءًا من كتاب. كان ما يقرؤه جوهر اللذة والجاذبية بينهما، وكانت تتظاهر أمامه بأنها تقرأ وتكتب، عكس الحقيقة، وظلّ ذلك السر خافيًا إلى أن اكتشفه الفتى لكنه لم يجرحها بمعرفته إياه، اخترعت السيدة ذاتًا جديدة وسط طوفان الحكايات التي كان يقرؤها لها ذلك الفتى.

مثل ألف ليلة وليلة كل يوم حكاية مختلفة، تمد في النهاية المنتظرة، فالقراءة كانت تمنح الرغبة أفقًا جديدًا ممتدًا وليس لحظة منتهية، فالشاب كان يقوم بدور شهر زاد، في الرواية العربية، كانت محصلة التذاكر تعشق القراءة، بل تقدسها، وتعشق وتقدس أيضا كل من يحبها، لذا بدأ حبها للشاب من تلك النقطة السابقة على علاقتهما، ليست لجاذبيته، بل لأنه يملك المعرفة، والمعرفة هي السبيل إلى الحب

لذة القراءة كانت الباب الخلفي لتصريف الرغبة آنذاك، كانت تعوض غياب لذات أخرى ترتبط بالمرأة، الآخر، وبالتحقق، وغيرها التي يوفرها الامتلاك.

ذات كونية تعيش داخل المراهقة

داخل أي مراهقة، هناك مفاجأة ثمينة: روح المخاطرة والرغبة الصادقة في التضحية، "أبيع نفسي فمن يشتري"، وإن لم تجد لها هدفًا في حينها، ولكن هذه الروح قابلة للاستعادة مرة أخرى، كونها أحد رسل الطبيعة داخل أجسادنا، ولابد أن نكون على قدر تلك الطبيعة، التي بداخلنا، بأن نبحث عن آثار الذات الكونية، وليست الذات المسجونة بين أربعة جدران.

عندما خامرتني فكرة التحرر في الثلاثين من العمر، بعد عدة مواضعات حياتية قاسية مررت بها، بدأت تلك الذات الكونية في الاستيقاظ مرة أخرى، بعد أن ظهر شيء مهم في حياتي يستحق أن أعمل، من أجله، نسخة جديدة وذاتية من مراهقتي. فالمراهقة تحمل سرًا كونيًا، يدفع لتلك "القفزة" في الأفكار والعادات، كأنها تعمل عمل "القطيعة" مع ما سبق. كان هناك قبس من النار احتفظ بقوته حتى بلوغي الثلاثين، وأعاد لي ما فقدته.

قبس النار المستعاد

في الثلاثين بدأت تظهر عليّ أعراض مراهقة جديدة، وحس قوي بالتمرد، ولكن هذه المرة كان تمردًا ذاتيًا وليس فقط جزءًا من خطة الطبيعة ودوراتها، مراهقتي المستعادة كان لها هدف أو تضحية يمكن أن تبذل نفسها من أجلها، وهي أن أكون "كاتبًا"، ولكي أصبح كذلك كان يجب أن أقوم ببعض التضحيات، أولها أن أثق في إمكاناتي.

بحثت داخلي عن أكثر شيء أخلصت له في حياتي، وكان فعل القراءة، ومن ذلك المدخل منحت نفسي الفرصة لكي تحول كل ما قرأته إلى كتابة، أن أكون وسيطًا جيدًا بين الاثنين، أن أكون جديرًا بكل ما قرأته، وأن أضع نفسي مساويًا لذلك "الإنسان" الذي يعيش داخل الكتب.

كانت نتائج هذا التمرد المتأخر، أنني خطوت خطوة كبيرة داخل الحياة بالجرأة والمخاطرة الكامنة في المراهقة المتأخرة، بذلك القبس من النار الذي كان يطمئنني بأني على الطريق الصحيح، رغم غياب أي دلائل أخرى، لكن ذلك القبس كان يهديني، ويدفعني للاستمرار، حتى ولو كان الآخرون غير راضين عما أفعل في حينها، تركتُ وظيفتي من أجل "الكتابة"، ولم أكن على قوة عمل آخر، وهذا يكفي.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.