بينما نحن خارجون من مقابر تسنتسونتسان/tzintzuntzan في غرب المكسيك، رأيتُ بعض الشباب يجوبون الشوارع بملابس تنكرية لملائكة وشياطين ومصاصي دماء وقد لونوا وجوههم مثل الأشباح احتفالًا بعيد الهالوين. أما في الخلف، حيث القبور المكدسة ورائنا، كانت احتفالات عيد الموتى في ذروتها؛ تصدح موسيقى الآلات النحاسية ويرقص الشباب من أهل الموتى ويغني الجميع بينما جلس كبار السن على المقاعد الواطئة في المساحات الضيقة بين القبور.
في عيد الموتى يذهب المكسيكيون إلى المقابر، يزينوها بورود صفراء زاهية، ويضعون حولها الشموع، وفوق القبور سلال من الخبز والفواكة كالتفاح والموز وبعض الأطعمة المفضلة للراحلين؛ للأطفال شيكولاتة أو حليب، وللبالغين وكبار السن زجاجات من التيكيلا.
أغضبت رؤية الشباب المحتفلين بالهالوين صديقتي المكسيكية، لأن الفرق بين العيدين هائل، ولا ترضى خلط الشباب والأطفال، عن وعي أو دونه، بين تقاليد عيد الموتى المكسيكية العريقة التي تسبق الغزو الأسباني المسيحي بعشرين قرنًا من جهة، واحتفالات الهالوين الأمريكية الاستهلاكية المستحدثة، التي غزت العالم كله في العشرين سنة الماضية – من القاهرة والرياض حتى بيونس أيرس وستوكهولم من جهة أخرى.
يحتفل المكسيكيون خاصة، وبعض دول أمريكا اللاتينية الأخرى، بذكرى أحبائهم الراحلين في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام، بينما يعود الهالوين، أو عيد الهلع الأمريكي، لعيد وثني بدأ في أيرلندا لإعلان نهاية موسم الحصاد في آخر شهر أكتوبر/تشرين الأول من كل عام.
وبينما تتمركز احتفالات عيد الموتى حول الموائد القربانية في المنازل والأماكن العامة نهارًا ثم في المساء والليل حتى الفجر في المقابر، فإن احتفالات الهالوين تتمركز حول ارتداء الملابس التنكرية والخروج للشوارع في أزياء مفزعة ومخيفة ولكنها مصنوعة بطريقة تستدعي الضحك والسخرية، يلعب فيها الموت والأشباح دورًا مركزيًا.
وهكذا صارت الجمجمة الضاحكة التي تشرب وتلعب الموسيقى وترقص رمزًا لعيد الموتى المكسيكي، بينما صور الأشباح والجماجم المحفورة في ثمار القرع العسلي أيقونة للهالوين.
تتنوع مظاهر الاحتفال بعيد الموتى في المكسيك، لكنها تبدو جميعًا احتفاءً بالحياة التي كانت مع الراحلين، واستعادة للموسيقى التي أحبوها والطعام الذي كانوا يفضلونه. أما في الولايات المتحدة والعالم حيث تتمدد طقوس الهالوين يتحول الموت إلى مظاهر رعب استهلاكية تتمحور حول الملابس التنكرية الساخرة. في العام الماضي أنفق الأمريكيون أكثر من عشرة مليارات دولار على احتفالات الهالوين.
زال غضب صديقتي سريعًا أمام بهجة السير بين القبور المزدانة. شاركنا بعض العائلات هذا الاحتفال العجيب بأحبائهم، وكأنهم لم يرحلوا. يأكلون حول قبورهم التي وضعوا بعض الطعام عليها، ويعزفون وينشدون أغاني عن الحنين وافتقاد الراحلين، تتبعها ألحان سريعة راقصة يهتز عليها الجميع، يشربون كؤوس التيكيلا والميسكال.
هذه صورة رضيع فوق قبره الطيني، مُعلّق على شاهده لعبة دب باندا مصنوعة من الزهور والأوراق الملونة. وذلك قبر مثبت أعلاه إشارة تاكسي مضيئة لصاحبه الذي كان سائقًا، فيما نُسقت الزهور ة فوق قبر ثالث على شكل الدراجة التي كان ساكنه يحب ركوبها.
في اليوم السابق، زرت عدة بلدات ومدن في إقليم ميتشواكان في غرب المكسيك، ورأيت كيف تحتفل العائلات خلال النهار بالموتى من أحبائهم عن طريق تشييد موائد قربانية، محاطة بأكاليل من زهور القطيفة والمخملية الصفراء الفاقعة. يأتي الأهل والأصدقاء وينشد بعضهم الصلوات بعد أن يضعوا الفواكه والأطعمة والخبز أمام صور الراحلين، بينما تتناثر هنا وهناك بعض الأشياء المفضلة للفقيد، وفي الشوارع تمتد موائد بسيطة يجلس عليها الزوار لتناول الطعام والحديث.
وفي الليل تنتقل كل تلك الاحتفالات، ولكن مع الموسيقى والصخب، إلى المقابر حيث تتوالى فرقعات مسدسات الصوت، وضجة ومشهدية الألعاب النارية التي تهدف كلها لجذب انتباه الأرواح الهائمة لتعود وتشارك عائلاتها "الحياة" مرة أخرى.
تذكرت المرات القليلة التي زرت فيها المقابر في بلادنا في الأعياد، وهي طقوس تجري عادة في الصباح ويحمل معها أهل المتوفي الأقراص والكعك، "رحمة" كما كنا نسميها لروح الفقيد، وتهيمن النساء والأطفال على تلك الزيارات التي تكون طويلة إذا كان للمدفن مبنى وغرف ملحقة، أو قصيرة في القرى حيث المقابر واطئة متجاورة.
تتشبث الطقوس الثقافية على تنوعها واختلاف ديانات وعقائد القائمين عليها بالحياة كطاقة وحيوية واحتفال، ضد الموت كسكون ونهاية وحزن. بل وتصبح أحيانًا، كما في المكسيك، مزارًا سياحيًا ومصدر انتعاش للأعمال الحرفية المحلية، وخاصة إقليم ميتشواكان، المنعزل عن بقية المكسيك نسبيًا ولسنوات طويلة بسبب سيطرة عصابات المخدرات والجريمة المنظمة عليه.
يعود أقدم شاهد قبر عثرتُ عليه في زيارتي للمقابر المكسيكية هذا الأسبوع لرجل مات في سبعينيات القرن العشرين، بينما كان أقدم يوم ميلاد على شاهد قبر يعود لعام 1912. وفي أماكن قليلة انزوت قبور لم تزدَن بالشموع المضيئة ولم تتفجر صفرة زهور المخملية حولها، ولا نفخ لاعب الساكسفون فوق شواهدها. ربما مات أصحابها منذ زمن بعيد وتلاهم أحباؤهم ومعارفهم.
وفي تلك القبور القليلة التي وقفت وحيدة في سكون أعلنت الطبيعة أن البشر مهما حاولوا فهم جزء منها يعودون إليها. تذوب القبور ويميل الشاهد حتى يسقط، ثم تأتي جثث جديدة واحتفالات جديدة وموسيقى تصدح وطقوس يعلن بها الناس أن الأفراد قد يموتون، ولكن الحياة والبشر مستمرون، أو هكذا نعتقد واهمين.
تصرخ إشارات الطبيعة المتتالية في العقود الماضية بأن ما يفعله البشر بالأرض، وتأثيرات طرق حياتهم البيئية أمر لا يمكن أن يستمر طويلًا لأنه يدمر الأرض ويجعل حياة الناس عليها أصعب، وربما مستحيلة.
إذا استمرت حياتنا بهذه الطريقة سترتفع درجات الحرارة لحد غير محتمل يمكنه أن يقضي على أشكال الحياة كما نعرفها، وساعتها لن تجدي مؤتمرات كلامية مثلما سيحدث في شرم الشيخ من قمة مناخ، وسيتحول رعب أقنعة الهالوين من مسخرة إلى حقيقة مفزعة، ويكون الموت فعلًا نهاية لأنه ربما لن يبقى الكثيرون ليرقصوا فوق القبور ويتذكروا حياة وأغاني وأطعمة الراحلين، ولن تكون هناك زهور مخملية.