منشور
الأربعاء 2 نوفمبر 2022
- آخر تحديث
الأربعاء 2 نوفمبر 2022
حكت لي الكاتبة الفلسطينية الكبيرة امتياز دياب، أن بهاء طاهر، كان يطلب منها كل أسبوع، خلال إقامته في جنيف، أن تشتري له تذكرة يانصيب بسبعة فرانكات. تسأله "كل أسبوع يا بهاء؟"، يجيبها "بشتري أحلام لمدة أسبوع يا امتياز بسبعة فرنك، وأقعد مبسوط خالص. أنا دايمًا براهن على الأمل".
ذلك هو بهاء طاهر، تاجر الحلم ورهين الأمل، وجنيف تغريبته الأكبر زمنيًا (منذ بداية الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات، حيث عمل مترجمًا بالأمم المتحدة) هي الفترة الأخصب أدبيًا في حياته، ففيها كتب أغلب أعماله وأهمها: بالأمس حلمت بك، قالت ضحى، خالتي صفية والدير، والحب في المنفى.
وفيها أيضًا أضاف إلى مخزنه الإبداعي شخصيات وتأملات ورؤية فيها مسافة مكانية وتاريخية من الوطن، ومن القناعات التي كان يظنها راسخة في وجدانه ولا يمكن تغييرها، على ما قاله لي شخصيا في كثير من لقاءاتنا المتباعدة.
لكن الأهم من ذلك كله أنه آمن بأن وطنه وأبناء وطنه الكبير الذي يضم مصر إلى محيطها العربي، يستحق أفضل بكثير مما هو فيه، وأن عليه أن يقضي ما بقي من حياته بعد عودته إلى مصر، مكافحًا بكل ما يتوفر له من وسيلة من أجل التبشير بمركزية الحرية والعدل، والاستثمار في الجمال والحب، وأن يقول ذلك في كتاباته الإبداعية أو المقالية، وفي مداخلاته في الندوات والمؤتمرات، وفي أحاديثه الإذاعية والتليفزيونية.
قال في أول لقاء لنا، وكان ذلك في عام 1998 بمعرض الكتاب، على ما أذكر، "لتقدم المجتمع المصري، يجب الاهتمام بالفنون والآداب، فالحضارة الأوروبية يمثلها كل من المجتمع الروماني الذي كان مجتمع الملعب، تقام فيه المصارعات الدموية الكبرى بين الإنسان والإنسان، والإنسان والحيوان. والثاني هو المجتمع اليوناني، وهو مجتمع المسرح حيث الفنون والآداب والفلسفة، ومصر يجب أن تكون مجتمع مسرح لا مجتمع ملعب".
كان بهاء طاهر
لم يكن بهاء طاهر ثوريًا، لا في لغته الأدبية منذ بدايته، ولا في رؤيته الإبداعية أو بناياته في القصة والرواية، بل كان أقرب إلى التقليدية فيما يخص الأخيرة؛ سرده تسلسلي بسيط وتقنياته ليست بعيدة عن السائد. لكنه كان مع ذلك صاحب بصمة شديدة الخصوصية، ولغة شعرية صادقة، يخرج منها بخارًا رومانسًيا يشتمه القارئ سريعًا فيتوحد مع النص.
لم يكن ثوريًا كذلك في أداءه السياسي، فرغم خروجه من مصر بداية السبعينيات، مع من خرجوا بفعل سياسات السادات، لم ينخرط أبدًا مع جماعات معارضة في الخارج، ولم ينضم حتى قبل مجيء السادات إلى تنظيمات سياسية ماركسية أو غيرها، شأن أغلب أبناء جيله من أدباء الستينيات. كذلك لم يكن بهاء طاهر معارضًا جذريًا لجمال عبد الناصر بل محبًا له.
محب ناقد، حتى أنه عندما انتقد سياسات القمع الناصرية في قصته بعنوان شتاء الخوف، ضمن مجموعة ذهبت إلى شلال، الصادرة عام 2000، وتدور عن مثقف مصري يعيش مرتعبًا من تصنيفه أمنيًا ومن ثم اعتقاله، ألحقها بقصة بعنوان ولكن، تبدأ صفحتها الأولى في ترتيب وتبويب المجموعة القصصية بعد الصفحة الأخيرة من القصة الأولى. وفيها يتخيل الكاتب مع سائق تاكسي فقير جمال عبد الناصر وكأنه ولي من أولياء الله الصالحين الذين تنفتح لهم الأبواب المغلقة وتغشاهم حجب الأساطير.
لم يكن ثوريًا صحيح، لكن بالقطع كان صادقًا وعذبًا، عذوبة جعلته يتربع داخل قلوب كل من قرأ له مهما كانت خلفيته الثقافية وانحيازاته السياسية. لقد تاجر بهاء طاهر مع الرهافة، فلم يكن في أعماله صاحب يقين وإنما صاحب سؤال. لم يكن حاسمًا حسم المؤدلجين ودعاة المواقف النهائية، وإنما قلقًا يبحث عن الوداعة مثل بطله وقارئه، متصوفًا لكنه لم يكتب في التصوف وعنه، غير أنه عاش مع شخصياته حياة المتصوفين. حياة رجاء المريد لا استقرار القطب.
لم ينزع بهاء طاهر رغم انتمائه الثقافي بالميلاد لأسرة متصوفة من الأقصر، وحياته التي غلب عليها الترحال منذ طفولته في انتقال الأسرة إلى الجيزة ثم إلى القاهرة، وانتقاله هو شخصيًا بين إفريقيا وآسيا وأوروبا، إلى الكتابة عن التصوف أو التأملات على غرار ابن جيله جمال الغيطاني في "التجليات" مثلًا، ولم ينزع إلى التجريب في بنية كتاباته رغم اطلاعه على آداب العالم بلغاتها الأصلية مثل إدوار الخراط.
ولم يكتب الرواية السياسية ذات الروح التعبوية الناقدة العنيفة مثل صنع الله إبراهيم، ولم يستند كثيرًا إلى الثقافة الشعبية مثل خيري شلبي أو محمد مستجاب، ولذلك ميّز نفسه وكتاباته بجعلها ملكًا للقراء، يتأمل معهم معاني الحياة وتصاريفها، ويجزع للفقد وللمرض والغياب، ولروعة المفاجأة، وللحب أينما وجد.
ما يليق ببهاء
انحيازات طاهر في الكتابة الأدبية عبر عنها بجلاء في مقدمة كتابه في مديح الرواية، الصادر عن دار الشروق، ويضم مقالاته النقدية في عدد من أعمال الأجيال اللاحقة له، وأغلبها كانت كتابات تشجيعية وتعريفية بأصحابها، أكثر منها كتابات نقدية تعري العمل أو تشير إلى نواقصه.
كتب بهاء في مقدمة كتابه "إن القارئ المدرّب قادر على اكتشاف الرواية الحقيقية من الزائفة. غير أن كل رواية تحتاج إلى اجتياز اختبارين مهمين؛ الاختبار الأول هو: حكم الجمهور، غير أنّ هذا الحكم قد يصيب وقد يخطئ؛ بمعنى: أنّ بعض الروايات قد تلقى بعد صدورها رواجًا جماهيريًّا ونجاحًا كبيرًا لأسبابٍ لا علاقة لها بالفن، في حين أن روايات أخرى عظيمة قد تفشل لدى جمهور قرائها المعاصرين، وقد يعجز عن تذوّقها. وأكرّر أن ذلك يحدث في بعض الحالات فقط، وفي كثير من الأحيان يكون حكم الجمهور صائبًا.
أمّا الاختبار الثاني أو الحكم النهائي الذي لا نقض فيه ولا إبرام ـ بلغة أهل القانون ـ فهو اختبار الزمن. فمع مرور السنين تسقط من ذاكرة الجمهور والأدب الروايات التي لا تستحق الاعتبار، في حين تصبح الروايات الحقيقية جزءًا من الذخيرة الباقية للفن الروائي، وتكتسب حياة متجدّدة مع الأجيال المتتابعة من القرّاء. وأنا أعتبر هذا الدرس البسيط هو أهم ما تعلّمته من تجربتي كقارئ للرواية وكاتب لها، لا تخدعني مهرجانات المديح لرواياتٍ بعينها، ولا حملات الهجوم علي غيرها.
أقول لنفسي: ما زلنا في مرحلة الاختبار الأول.. مكتفيًا بحكمي الخاص على ما أقرأ، وذلك ما أنصح به كل قارئ عاشق للرواية، وإن كنت أعتقد أنّ القرّاء يفعلونه دون أن أقوله".
لهذه الانحيازات التي جعلت القارئ هدفًا وحيدًا، لا النقاد ولا جهات الترجمة ولا الجوائز الأدبية، رُوّعت السوشيال ميديا بخبر رحيل بهاء طاهر يوم الخميس الماضي، رغم ابتعاد الراحل عن الحياة العامة من ست سنوات تقريبًا لأسباب خاصة ومرضية، وبعد مواقف في الفترة العصيبة التي تلت 30 يونيو 2013 لم تكن متسقة مع تاريخه وحضوره ومواقفه من السلطة وانخراطه منذ عودته إلى مصر، وتحديدًا في بداية الألفية، في كل الأنشطة والفعاليات السياسية المناهضة للصهيونية وإسرائيل، وللاحتلال الأمريكي للعراق، وكافة الفعاليات المعارضة للاستبداد المباركي وللتوريث.
فوجئت بأن كثيرين ممن راعتهم هذه المواقف غفروها كلية لبهاء طاهر، غفرانًا تمثل في نسيانها تمامًا وحذفها من الذاكرة وكأنها لم تكن. ليس بسبب رصيده الهائل والمشرف في سنوات عمره فقط، ولكن لأنه وأعماله كانا رفيقا ليالي السجن الطويلة لكثير من الشباب الذين غيبوا في السنوات الثمان الماضية وراء الأسوار تعزيهم نقطة النور، وواحة الغروب، وأنا الملك جئت، والحب في المنفى، وذهبت إلى شلال، ولم أكن أعرف أن الطواويس تطير.
ياله من تكريم لكاتب.