أصبح ريشي سوناك رئيسًا لوزراء المملكة المتحدة التي تعرف أحيانًا باسم بريطانيا العظمى.
سوناك هو أول رئيس وزراء للمملكة من أصول هندية، وذلك قد يكون جذابًا لعناوين الصحف التي ستتحدث عن "اللحظة التاريخية". لكنه ليس مهمًا بالنظر لأزمة حزب المحافظين العميقة.
الأصول العرقية لسوناك ليست مهمة أيضًا لأسواق المال والمؤسسات المالية الدولية التي أعلنت ثقتها في الرجل بسبب سياساته الاقتصادية. بعكس ما حدث مع رئيسة الوزراء المنصرفة ليز تراس التي حذر صندوق النقد الدولي من خطتها لخفض الضرائب، وقال إنها ستزيد من أزمة تضخم تكاليف المعيشة، فسحبت الأسواق المالية الثقة من الجنيه الاسترليني مرسلة إياه إلى أدنى مستوياته أمام الدولار خلال 37 عامًا، عقابًا لها على ميزانيتها المصغرة!
خلال حكمها الأقصر في التاريخ البريطاني، قدمت تراس الدليل على أن أزمة حزب المحافظين التي ظهرت للعلن منذ استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي في 2016 دخلت مرحلةً أعمق.
قيادات حزب المحافظين وزعيمه ديفيد كاميرون كانوا مع البقاء داخل الاتحاد الأوروبي، وبالتالي عندما ظهرت نتيجة الاستفتاء استقال كاميرون من زعامة الحزب ورئاسة الحكومة، وترك مهمة التفاوض على الخروج من الاتحاد الأوروبي لتيريزا ماي، التي انتخبها الحزب خلفا له.
ماي وطعنات جونسون
زعماء الاتحاد الأوروبي اعتبروا ماي رئيسة غير منتخبة من قبل الشعب البريطاني، وبالتالي كان عليها تجديد شرعيتها عبر انتخابات عامة مبكرة في صيف 2017. لكن نتيجة الانتخابات كانت خسارة المحافظين للأغلبية البرلمانية التي تُمكنهم من تشكيل الحكومة منفردين، وهو ما دفع ماي لتشكيل حكومة ائتلافية مع حزب صغير من أيرلندا الشمالية؛ الحزب الديمقراطي الوحدوي.
ومع فشلها المتكرر في إقناع مجلس العموم بصفقتها للخروج من الاتحاد الأوروبي، بدأ نواب الحزب بقيادة بوريس جونسون في التآمر عليها ومحاولة سحب الثقة منها داخل حزب المحافظين. وبحلول صيف 2019 أعلنت استقالتها من زعامة الحزب ورئاسة الحكومة.
عبر انتخابات داخلية، وصل بوريس جونسون لزعامة الحزب والحكومة وبدأ في مقامرته الكبرى بالإعلان عن حتمية خروج بريطانيا حتى ولو لم تتوصل لصفقة مع شريكها التجاري الأكبر! نجحت المقامرة في إعادة الأوروبيين للمفاوضات. وفي ديسمبر/ كانون الثاني 2019 جرت انتخابات مبكرة حقق فيها جونسون أكبر فوز انتخابي منذ إنجاز مارجريت تاتشر في انتخابات 1987.
الأزمات لا تأتي فرادى!
أتى فيروس كورونا جالبًا معه الفضائح. التخبط الذي قاد به جونسون البلاد خلال الأزمة، ثم فضائح حفلاته خلال القيود التي أعلنتها الحكومة حول التجمعات، جعلته عبئًا على حزب المحافظين.
وفي أبريل/ نيسان 2022 وجدت استطلاعات الرأي أن 27% من الذين انتخبوا المحافظين في انتخابات 2019 لن يعيدوا الكرّة طالما بقي جونسون. ولأول مرة تقدم حزب العمال على حزب المحافظين في استطلاعات الرأي منذ سنوات.
بعد شهرين، أعلن حزب المحافظين إجراء تصويت على الثقة في جونسون كزعيم للحزب بعد أن تلقت "لجنة 1922" برئاسة السير جراهام برادي عددًا كافيًا من طلبات نواب المحافظين في مجلس العموم. فاز جونسون بثقة 59% من نواب المحافظين وخسر 41%، محققًا نتيجة أسوأ من التي حصلت عليها تاتشر في 1990، أو تيريزا ماي في 2018.
ثم كانت فضيحة كريس بينشر، النائب عن حزب المحافظين الذي تحرش جنسيًا برجلين، وتم تعليق عضويته. ومثل قنبلة يدوية؛ انفجرت الشكوك في مدى علم جونسون بسلوك بينشر الذي ظهر أنه تحرش من قبل برجال على مدار عقد من الزمن.
اغتيال القيصر!
تآمر جونسون إذن على تيريزا ماي ووصل للبيت العاشر في شارع دوانينج، محققا للحزب أكبر فوز انتخابي منذ عقود، وبعدها أصبح عبئًا عليه. قال لهم إنهم لو أطاحوا به، سيهزمون، فقالوا له لو ظللت فسنغرق معك!
من يعش بالسيف يموت به.. لكن هذه المرة أضحت: من يعش في ظلال مؤامرات الانقلابات الحزبية، لا ينجو!
كانت الأيام الأخيرة في مسيرة جونسون مع السلطة درامية كنهايات أباطرة روما القديمة. ففي خلال يومي الخامس والسادس من يوليو/ تموز تلقى جونسون طعنات من أقرب حلفائه في الحكومة أكثر من تلك التي تلقاها يوليوس قيصر داخل قصر مجلس الشيوخ في روما عام 44 ق.م.
الطعنة الأولى وجهها إليه وزير الصحة ساجيد جافيد، أحد أقرب حلفائه، بإعلان استقالته تلتها بعد دقائق استقالة وزير الخزانة ريشي سوناك. استقالة سوناك كانت كالطعنة النافذة بين ضلوع جونسون لأن حقيبة الخزانة هي الأهم.
توالت الاستقالات خلال الثمانية والأربعين ساعة التالية حتى وصل عدد المستقيلين إلى 62 ضمن أهم 129 منصبًا وزاريًا وإداريًا في الحكومة.
أعلى عدد من الاستقالات من حكومة واحدة في التاريخ البريطاني!
عين جونسون النائب ناظم الزهاوي، وهو من أصول كردية عراقية، وزيرًا للخزانة. لكنَّ نواب المحافظين توجهوا مرةً أخرى للجنة السير جراهام برادي لسحب الثقة من جونسون بعد أن طلبوا تعديل قوانينها التي كانت تمنع إجراء تصويت على ثقة زعيم الحزب خلال عام منذ آخر تصويت عليه.
ذهبت أكثر حلفاء جونسون ولاءً له، وزيرة الداخلية بيري باتيل، إلى 10 داونينج ستريت باكية، وطلبت منه الاستقالة. حتى وزير الخزانة الجديد ناظم الزهاوي ذهب لإقناعه بترك زعامة الحزب ورئاسة الحكومة!
أصبح الانهيار الدراماتيكي الهائل للحكومة أكبر من قدرة جونسون على منعه أو احتوائه.
وفي الساعة الثانية عشر والنصف من ظهر يوم السابع من يوليو أعلن جونسون استسلامه أخيرًا وقال أنه سيترك زعامة الحزب ورئاسة الحكومة فور انتخاب خليفه.
الأضعف تنتصر!
بدأت الحملات الانتخابية لزعامة الحزب، وبدا أن وزير الخزانة السابق ريشي سوناك أحد الوجوه المرشحة بقوة للفوز. لكنَّ خصومه أيضًا قادرون على هزيمته. كانت استراتيجية حلفائه هي الإطاحة بالمنافسين الأقوياء كي يصل في الجولة النهائية مع أقل أعضاء الحزب خطرًا عليه؛ وزيرة الخارجية السابقة ليز تراس. وهو ما كان بعد استبعاد جيرمي هانت، ووزيرة الدولة للسياسة التجارية بيني موردانت، ووزير الخزانة ناظم الزهاوي، وثلاثة آخرين.
بعد حملته التي أعلن فيها سوناك أنه لا يستطيع خفض الضرائب وإلا واجهت البلاد أزمة اقتصادية عنيفة، أعلنت ليز تراس مانفيستو يقوم على خفض الضرائب ومنح مساعدات نقدية للبريطانيين من أجل مساعدتهم على مواجهة الارتفاع الهائل في أسعار الطاقة.
بالإضافة إلى برنامجه الانتخابي الواقعي، بدت أصول سوناك العرقية حاضرة لدى أعضاء الحزب. قطاعات كبيرة من الأعضاء لم يتقبلوا تولي هندوسي من أصول هندية رئاسة الحكومة. 81 ألفًا و326 عضوًا اختاروا المرشحة الأضعف والأقل كفاءة لزعامة الحزب، بينما اختار سوناك 60 ألفًا و399 عضوًا.
جاء تصويت أعضاء الحزب مخالفًا لتصويت نوابه الذي جرى قبلها، إذا أخذنا في الاعتبار أن 137 نائبًا محافظًا اختاروا سوناك مقابل 113 لتراس. أظهر ذلك أن فترة حكم تراس لن تخلو من محاولات الإطاحة بها. وخلال 45 يومًا فقط، قادت ليز تراس العملة البريطانية للهاوية وجعلت صندوق النقد الدولي يتساءل حول قدرة الاقتصاد البريطاني على النجاة في خضم العواصف العاتية التي تواجه الاقتصاد العالمي.
أعلنت مع وزير خزانتها كواسي كوارتينج ميزانية مصغرة دون استشارة حكومتها، تعهدت فيها بخفض الضرائب على الأغنياء وعدم رفع الضرائب على الشركات، وهو ما أدى إلى سحب الأسواق المالية الثقة من سندات الخزانة الحكومية وانهيار الاسترليني أمام الدولار ليصل لأقل مستوياته منذ 1985!
بعد 38 يومًا فقط من الحكم، سحبت تراس حقيبة الخزانة من كوارتينج واختارت جيرمي هانت بديلًا، ليعلن بدوره التراجع عن الميزانية المصغرة، وعن تعهد تراس بعدم خفض الإنفاق الحكومي! أصبحت تراس رئيسة الوزراء الأقل شعبية في تاريخ المملكة المتحدة!
ولكن الطعنة القاتلة أتت في 19 أكتوبر من أقرب حلفائها في الحكومة، وزيرة الداخلية سو-إلا برافيرمان التي أعلنت استقالتها بسبب خطأها في إرسال رسالة الكترونية من حسابها الشخصي. لكنها في رسالة الاستقالة انتقدت ضمنيًا قيادة تراس للحكومة.
فقدت تراس سيطرتها وبدت قلقة من حجم التمرد في صفوف نواب حزبها داخل مجلس العموم، بينما توالت الهجمات العنيفة والمؤلمة من زعيم حزب العمال السير كير ستارمر الذي سألها عن موعد رحيلها عن الحكم.
أحزاب المعارضة كحزب العمال، والديمقراطيين الأحرار، والقومي الاسكتلندي، طالبوا بانتخابات عامة مبكرة. لكن تراس تمسكت بالبقاء في داونينج ستريت قائلة إنها "مقاتلة وليست منسحبة"!
لكنها أعلنت استقالتها في اليوم التالي، بعد 45 يومًا فقط، محطمة الرقم القياسي في أقل فترة حكم في تاريخ المملكة المتحدة!
أشباح الماضي
أصبح حزب المحافظين نموذجًا للانقسامات والمؤامرات وموجات التمرد على قياداته من قبل نوابه في مجلس العموم. لحظة الضعف التاريخية تلك أغرت جونسون للعودة من إجازته في الخارج وإعلانه الترشح لزعامة الحزب! عاد سوناك أيضًا للحلبة معلنًا ترشحه. وكذلك بيني موردانت.
عادت أشباح الماضي، وأصبح على كل مرشح أن يحصل على دعم أكثر من مائة من نواب الحزب في مجلس العموم. أعلن سوناك حصوله على الدعم المطلوب، وكذلك جونسون، ولكن قرر الأخير الانسحاب من السباق. أما موردانت، فبدا أنها لم تحصل على الدعم الكافي فقررت قبل إغلاق باب الترشح الانسحاب، ليصبح سوناك زعيمًا للحزب دون تصويت نواب وأعضاء الحزب!
كانت هذه الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تصل بريشي سوناك ذي الأصول الآسيوية إلى داونينج ستريت، وبالتالي لا يمكن اعتبار وصوله للحكم لحظة تاريخية وإنما حسابات سياسية لحزب مأزوم.
اليوم، يترأس سوناك حزبًا ممزقًا يحاول التعاطي مع إحدى أكبر الأزمات الاقتصادية التي تواجه بريطانيا منذ عقود!
وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يواجه أيضًا دعوات لإجراء انتخابات مبكرة من كل الأحزاب البريطانية، باستثناء حزب المحافظين الحاكم. هذه الدعوات لم تقتصر على الأحزاب فقد انضمت إليها الوزيرة الأولى في اسكتلندا نيكولا ستيرجن، التي قالت إن سوناك سوف يصبح ثاني شخص يرأس الحكومة البريطانية دون الحصول على تفويض شعبي.
لن يكون وصول سوناك لرئاسة الحكومة الفصل الأخير لواحدة من أكثر مسرحيات السياسة البريطانية إثارة منذ الانقلاب الحزبي على مارجريت تاتشر في خريف عام 1990.. كما أنَّ الشكوك حول قدرته على قيادة حزب موحد لم تختفِ بعد!
إنها لعنات البركسيت وجونسون!