أجلس بجوار أمي فيما أسمعها تُهديء من روع امرأة أخرى تعرفها من أحد جروپات فيسبوك، كانت تُبدي انزعاجها من رسائل تحرش وصلتها من عضو آخر، فكتبت بوست تناشد فيه الأعضاء لمحاربة تلك الظاهرة.
أراقب أمي عن كثب وهي هادئة للغاية تطلب من زميلتها إزالة البوست لعدم إثارة البلبة، مع وعد أن تحذف هذا الرجل من المجموعة بحكم صلاحياتها كأدمن في الجروب.
أناشدها بدوري أن تبلغ مباحث الإنترنت، فتصف لي ذلك بـالـ"فضائح". أتذكر فرق الأجيال بيننا وأصمت.
أكتفي بتقدير ما وصلت إليه من تطور حتى لو لم يكن مُرضيًا لطموحي، وأعود بذاكرتي ست سنوات للوراء، إلى أول واقعة تحرش إلكتروني مرت بها أمي. يومها؛ اتَّجهت نحوي وهي تمسك الهاتف كأنه قنبلة قد تنفجر في أي لحظة، صوت رسائل ماسنجر ينطلق بإصرار، وهي تطلب بحزم أن أحذف التطبيق، وفي عينيها نظرة لم أرها حتى عندما توفي والدي.
عرض عليها أحد الرجال الذين تتشارك معهم عضوية إحدى الجروبات أن تكون بينهما علاقة جنسية إلكترونية سواء عن طريق الكتابة أو الكاميرا مقابل مبلغ مالي يقدر قيمته بالساعة، وألحق عرضه بصور عارية لجسده وعضوه الذكري.
شعرت أمي بإهانة شخصية، فهي التي تخبرني دائمًا أنه "عندما يعرض رجل عرضًا جنسيًا على امرأة فإنه يعكس رؤيته لها" ما جعلها تتشكك في نفسها بمجرد رؤية الطلب. أرادت أن تحذف التطبيق كاملًا لتمنعه من مراسلتها مرة أخرى. لم تكن تعرف بعد خاصية الحظر.
عالم يعكره التحرش
قبل تلك الواقعة، كانت علاقتها بالهاتف ومواقع التواصل سطحية، فشجعتها على خوض حياة السوشيال ميديا لتتجاوز لحظة الوصول لسن المعاش الصعبة عليها، وذلك بعد ما سمعت من صديقة لي أن والدتها قد أنشأت مجموعة لكبار السن بغرض تسليتهم، وتنظيم تجمعات على أرض الواقع لهم في نوادٍ ومقاهٍ على النيل، حتى يشعرون بالنشاط والحيوية بعد سن المعاش.
سرعان ما وجدت أمي لنفسها عالمًا جميلًا كنت أنا في البداية نافذة لها عليه، ثم اجتهدت لتتعلم وانطلقت وحدها في الواقع الافتراضي، حتى أظهر لها وجهًا خبيثًا.
اقنعتها ألا تترك التطبيق كاملًا ولا المجموعة، علمتها كل الحيل التي تستطيع بها حماية نفسها من أي تحرش إلكتروني، من الحظر والإبلاغ والسكرين شوت، كما أكدت عليها ألا تخجل من إخبار الأخريات بما حدث، ورغم رفضها في البداية لشعورها بالخجل، إلا إنني خاطبت فيها رغبتها في حماية صديقاتها حتى لا يتعرضن لما مرت به.
بدأت أمي في تحذير النساء اللاتي على تواصل مع ذلك الرجل، ذاع الخبر، وانقلب عليه معظم الأعضاء من الرجال والنساء، على استحياء، وكأنهم هم المخطئون وليس هو، فانسحب من المجموعة بلا رجعة.
ومع ذلك، امتنعت أمي عن الانخراط في تلك المجموعة أو المشاركة في مقابلاتها، خاصة بعد أن أخبرتها ثلاث عضوات أخريات أنهن تعرضن لمواقف مشابهة من رجال غيره. وفي جروب يضم ما يقرب من 15 ألف عضو وعضوة، من الصعب أن ننظر لتلك الحالات على أنها ظاهرة، ولكن كلام السيدات أشعر أمي بالخوف.
مرحلة الصدمة
تعرضت أمي بعد هذا الموقف لأزمة نفسية ليست هينة، وامتنعت فترة عن حضور أي تجمعات تخص مجموعات السوشيال ميديا، فسُلبت كل ما يؤنس وحدتها، وهذا أغضبني.
هذا النوع من التحرش موجود بين كبار السن بصور مختلفة، منها من ينتحل شخصية امرأة بحساب مزيف حتى يتحدث مع السيدات بحرية عن الجنس
شعرت أنه ليس عدلًا أن تتعرض امرأة في هذا السن لتلك النوعية من التساؤلات التي نعيش تحت وطأتها كشابات بفعل معاملتنا كمخطئات دائمًا ولومنا رغم أننا الضحايا، ودفعنا للتساؤل: هل قلت شيئًا أوحى للمتحرش أني قد أقبل عرضه الجنسي؟ هل ملابسي فاضحة؟ هل تعاملي مع الآخرين يجعلهم يظنون بي الظنون؟
عرض زواج
طيلة عام، ظلت أمي على تلك الحالة، حتى جائها عرض من أحد أعضاء المجموعة للزواج منها، وأخبرها أنه لن يمارس الجنس معها إلا من خلال الإنترنت، بسبب تعرضه لوعكه الصحية، ورغم أن أمي رفضت هذا العرض، إلا أنها كما اخبرتني، احترمت هذا الرجل لصراحته.
كان العرض بمثابة طوق نجاة لها، "جعلني أفهم الكثير عن تصرفات بعض الرجال في الرسائل الخاصة" تقول. وتسبب هذا العرض الأغرب في تحسين نفسيتها، فقد أدركت أنه ليس من شيء يعيب تصرفاتها.
"مكنش طلب يتجوزني" هكذا فكرت أمي أنه طالما طلب منها رجل في نفس المجموعة الزواج، إذا فهي ليست "منحرفة". لم أحاول أن أجادلها كثيرًا، رأيت أن محاولة تغيير وجهة نظرها عن المجتمع والعلاقات بين الجنسين قرار غير حكيم، ورضيت بتغير سلوكها إلى الانخراط أكبر في تلك المجموعات، ومواجهة التحرش بشجاعة.
التعافي والقيادة
بمرور الوقت، وانضمام أمي لمجموعات أخرى أدركت أن هذا النوع من التحرش موجود بين كبار السن بصور مختلفة، منها من ينتحل شخصية امرأة بحساب مزيف حتى يتحدث مع السيدات بحرية عن الجنس، وباتت قادرة على اكتشافه بسهولة، فضلًا عن التعامل بحزم مع محاولات التحرش الصريحة دون ذعر أو جلد لذاتها.
وقبل أن أجلس لأكتب، تلقيت مكالمة من أمي تخبرني أنها حظرت حسابين لرجل وامرأة اكتشفت أنهما نفس الشخص، أنشأ حساب المرأة المزيف للتوسط للزواج بينها وبين حسابه الحقيقي.
على العكس من أمي، لا زلت مرتبكة تجاه تلك المحاولات، حتى أنني سألت طبيبًا نفسيًا لفهم ما يدفع كبار السن للتحرش الإلكتروني رغم تراجع قدرتهم الجنسية. قال استشاري الطب النفسي وعضو الجمعية النفسية للأطباء مايكل فيكتور إن التحرش الإلكتروني عند كبار السن محاولة لاستعادة سعادة زائفة، من خلال تذكر القيمة الذاتية الناتجة عن ممارسة الجنس مع طرف آخر، وأنه سلوك إدماني في بعض الأحيان.
وبغض النظر عن تفسير سلوك الرجال للتحرش، كبارًا أو شبابًا، فإن رحلة أمي تلك ذكرتني بنفسي.
فيما مضى كُنت مجرد مراهقة تستكشف العالم من حولها والجنس الآخر بفضول، وكانت أمي وقتها مصدري الوحيد لطرح الأسئلة. كانت صريحة معي ويهمها أن أكون واعية بما يدور حولي في الحياة عن العلاقات، وهذا النوع من التواصل جعل لجوئي لها في أول حادثة تحرش وقعت لي، أمرًا حتميًا. هل كانت في عيني نفس نظرة الذعر التي رأيتها في عينها وهي قادمة نحوي تستنجد بي؟
كانت تعلمني كيف أحمي نفسي في مثل هذه المواقف، وها هي السنوات تمر، وتلك المراهقة أصبحت شابة تخطو خطى حثيثة تجاه الأربعين، وها نحن نتبادل الأدوار بعد ما يقرب من 20 عامًا.
لم أعد مراهقة وأمي ليست ملمة بعالم الإنترنت كما لم أكن انا ملمة في مراهقتي بما يحدث في الحياة، ولكنها أيضًا لم تعد ساذجة أو جاهلة بما يحدث في هذه العوالم الآن، فبعد أن كانت تكتب التعليق في المنشورات على استحياء لا تدري ما الذي يجب أن تساهم به في مجموعة فيسبوك، أصبحت الآن هي الأدمن، التي تتخذ القرارت لحماية الأعضاء الآخرين، وتلاحظ أن تلك الظاهرة، التحرش الإلكتروني من كبار السن، تزداد انتشارًا.