أكثر من عشر نساء اتهمن قبل ذلك الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالتحرش أو الاعتداء الجنسي بل والاغتصاب، دون أن يثبت ضده شيء أو حكم قضائي. لكنه يوم أمس في محكمة بمدينة نيويورك، غُرّم في قضية تتهمه فيها امرأة بالاعتداء الجنسي عليها، وهي لا تذكر في أي سنة كان الاعتداء: 1995 أم 1996.
الحكم الذي صدر أمس الثلاثاء ليس جنائيًا أو يدين ترامب بجريمة الاغتصاب، لكنه حكم مدني بتعويض مالي قدره خمسة ملايين دولار عن الاعتداء وتشويه السمعة الذي مسَّ رافعة الدعوى منذ العام الماضي، الكاتبة الصحفية الأمريكية جين كارول (79 سنة)، عندما اتهمها ترامب في تعليقاته على السوشيال ميديا بالنصب والادعاء والكذب للنيل منه، ونفى أن يكون قد عرفها.
لكنَّ ترامب الذي تعوَّد أن يقول عن أي سيدة تتهمه بالتحرش الجنسي إنها ليست من "النوع الذي يستهويني"، أظهر تناقضًا بين وصف هذه السيدة بذلك وعدم قدرته على تمييزها في صورة عُرضت عليه في استجواب بالفيديو العام الماضي، فقال هذه صورة زوجتي السابقة كارلا، بينما تبين أن الصورة الموجود بها بالأبيض والأسود هي لرافعة الدعوى ضده: جين كارول.
القصة القديمة للمقاول ترامب
القصة تعود حسب ادعاء الكاتبة المعروفة إلى منتصف التسعينيات، حين التقت بالمقاول الشهير ببرامجه التليفزيونية دونالد ترامب وهو يدخل متجرًا مشهورًا للأثرياء بينما كانت تهم جين بالخروج منه، فتعارفا، وطلب منها أن تعود لمساعدته في شراء هدية لصديقة له. وحين صعدا للدور السادس حيث قسم الملابس الداخلية، اقترحت عليه طقمًا أعجبها، فسحبها إلى غرفة قياس الملابس ليراه عليها. وتقول إنه أغلق الباب ودفعها للحائط واعتدى عليها جنسيًا؛ مع شرح التفاصيل في المحكمة.
سألها محامي ترامب مستغربًا: هل صرخت مستغيثة؟ نفت أن تكون استغاثت أو صرخت أو قدمت شكوى بعد ذلك للشرطة.
تقول الكاتبة إنها تعرضت لصدمة نفسية أخلَّت باتزانها وبراحة بالها وبقدرتها على الاتصال مع الرجال منذ ذلك الحين. وأكدت خبيرة نفسية للمحكمة أن ما فعلته هذه السيدة يمكن تصوره لمن يتعرض لصدمة مماثلة.
أما محامية كارول فاستدعت امرأتين سبق لكل منهما اتهام ترامب علنًا ولكن دون اللجوء للقضاء، شأن أكثر من عشر نساء أخريات، بالاعتداء أو التحرش الجنسي بشكل مفاجئ. وكان من الشاهدتين صحفية ذهبت إلى منتجعه بولاية فلوريدا لإجراء مقابلة معه بمناسبة الذكرى الأولى لزواجه الحالي، لكنه أيضًا انفرد بها ودفعها للحائط محاولًا الاعتداء عليها وهو يقبلها، ولكنها تمكنت من الإفلات من يديه.
محامو ترامب أكدوا أنهم سيستأنفون للطعن على ذلك الحكم. إذ كان مشكوكًا للغاية أن يصدر حكم قضائي ولو بالتعويض المالي دون تجريم جنائي، لامرأة لا تذكر في أي سنة وقع عليها الاعتداء قبل نحو ثلاثة عقود، وانتظرت حتى نشرت مذكراتها عام 2019 لتروي القصة، رغم أنها أحضرت للمحكمة شاهدة من صديقاتها اللاتي روت لهن وقتها ما حدث لها مع ترامب.
الحركة النسائية: "أنا أيضًا"
مثلما تأثرت كارول بفوز ترامب بالرئاسة في انتخابات 2016 وعدت ذلك تحديًا واستفزازًا رغم كل ما فعله، تأثرت كذلك بحملة Me_Too# (أنا أيضًا) التي تشارك فيها النساء قصص الاعتداء الجنسي التي أفلت الرجل فيها من العقاب، لأن النساء يُحرجن من الإفصاح ولم ترَ أيٌّ منهن أحدًا يُعاقب على ما فعل أو تطاله العدالة.
ورغم أن الحملة بدأت محدودة منذ عام 2006 لكنها فتحت الباب لاحقًا للعديد من النساء لرواية ما حدث معهنَّ، ثم في عام 2017 انضمت نجمات هوليود لكشف فضائح المنتج السينمائي هارفي واينستن الذي واجه عشرات التهم بالاعتداء الجنسي، وعوقب في النهاية بالسجن لربع قرن.
يُنظر إلى حكم التعويض المالي ضد ترامب كامتداد لتأثير الحركة النسائية في القصاص من الرجال النافذين المستغلين لمكانتهم وجيوش محاميهم للإفلات من العقاب. فالحكم صدر بقرار محلفين من تسعة مواطنين، بينهم ثلاث سيدات، تداولوا لثلاث ساعات فقط وبعد سماع كل الشهود والدفاع والادعاء، وأبلغوا القاضي أنهم كممثلين للمواطن العادي يرون حدوث اعتداء على هذه المرأة. وإذا كانت أدلة الاغتصاب غير موجودة، فيجب على الأقل أن تُعوض عن تشهيره بها واتهامها بالكذب وبأنه لا يعرفها أصلًا أو "ليست من نوع النساء الذي يستهويه".
الوقت ما زال طويلًا لمجتمعنا قبل أن يكشف ذئابه ويقتص منهم في كل موقع
وماذا عنّا: "نحن أيضا"؟
تختلف حملة "أنا أيضًا" عن كشف الفساد السياسي أو انتهاك الحاكم حتى لمكانة منصبه، مثلما فعل الرئيس الأسبق بيل كلينتون حين عبث جنسيًا في البيت الأبيض وعمره 44 سنة مع المتدربة مونيكا لوينسكي وعمرها 22 سنة آنذاك. كانت تلك القضية التي كُشفت وقائعها عام 1995 متعلقة بمهاترات الحكام، ولم يكن الكونجرس أو الصحافة تواجهها قبل ذلك بثلاثة عقود، مثلما تغاضت النخبة عن المغامرات النسائية في بداية الستينيات للرئيس جون كنيدي.
أما حملة "أنا أيضًا" فهي معنيّة بتعقّب النافذين حتى خارج السلطة وفضحهم، سواء كان الجاني رئيسًا سابقًا أو منتجًا سينمائيًا.
في مجتمعاتنا، ظل استخدام الفضائح الجنسية حكرًا على السلطة السياسية وأسلوبًا لتعقب المعارضين وتشويههم أو ابتزاز الموالين لإبقائهم، وهي ليست حركة نسوية أو شعبية تجرؤ على فضح مرتكبيها.
فحين تم تسريب تسجيلات فيديو لمخرج سينمائي لم يكن ذلك لإدانة عمل تم بدون رضا النساء، بل لعقابه على آرائه السياسية وغيرته على التخلي عن أجزاء من أرضه، من خلال تجريس الجميع أخلاقيًا. وكانت النتيجة أن دفعت الفتيات الثمن، وتصالح الرجال وعاد المخرج لعمله وإنتاجه برعاية السلطة نفسها.
الوقت لا يزال طويلًا لمجتمعنا قبل أن يكشف ذئابه ويقتص منهم في كل موقع حتى في حرم الجامعات. وأكتفي هنا بقصة أختتم بها.
منذ أقل من سنة؛ توفي أستاذ جامعي مخضرم بجامعة أجنبية عريقة في القاهرة. وحين كتب مفتيٌّ سابقٌ كان صديقًا له ينعاه، اتصلت بي صديقة كان المخضرم الراحل أستاذها وهي تلميذة، وهي في ضيق شديد بعد ثلاثة عقود مما لم تفصح به، لتقول لي: هل تعرف أن أول درس لي معه وأنا طالبة في الدراسات العليا، جاءني في استراحة الحصة، وهمس في أذني قائلًا "أنا قررت دعوتك للعشاء معي الليلة"؟