عاش المصريون قرونًا طويلةً مغروسة أقدامهم في أرض بلادهم، لا يبرحونها إلا لسفر من أجل التنزه أو ابتغاء علم. لكنهم وجدوا أنفسهم في العقود الأخيرة مضطرين إلى هجرة سعيًا وراء الرزق، قد تطول لسنوات أو إلى الأبد، وهي في وجهيها تعكس جانبًا عريضًا لحالٍ من التأزم الدائم، الذي لا يلوح في الأفق ما ينهيه، بل هناك إصرار من قبل السلطات المتعاقبة على بقائه، والتوسع والتعمق فيه.
وتأخذ الهجرة في حياة أغلب المصريين ثلاثة أشكال:
1- هجرة في الذات، وهي حالة من الغربة يعاني منها المصري في مكانه، حين لا يجد وسائل هينة وطوعية للتحقق، والتعبير عن الطموح، في ظل غياب تطبيق مبدأ "الاستحقاق والجدارة"، وتفشي "الفرز العكسي" في كثير من الوظائف والمناصب والمكانة الاجتماعية. وجاءت الأزمة الاقتصادية الخانقة لتزيد من تلك الغربة، إذ لا يجد الفرد نفسه، مهما كانت كفاءته، قادرًا على تحقيق ما يصبو إليه، لا سيما في مقتبل حياته، وقت أن يكون في حاجة إلى الكثير كي يبدأها على نحو سليم.
2- نزوح في الداخل، من الريف إلى المدينة، ومن الوادي إلى الصحراء، ومن الأخيرة إلى الوادي.
في الحالة الأولى نحن أمام سعي وراء الرزق والتمكن، فعدم عدالة توزيع التنمية يجعل الكثيرين من أهل القرى في عوز، إذ تضيق فرص العمل وتتدنى الخدمات، فلا يجدون أمامهم من سبيل سوى الانتقال إلى المدن، بحثًا عن أي فرصة تبقيهم على قيد عيش ملائم.
وفي الحالة الثانية نحن أمام ضيق الأرض، أو عجزها عن استيعاب الزيادة السكانية المطردة، فيخرج الناس إلى الصحراء بحثًا عن أرض يزرعونها ومساكن يقطنونها، وبعضهم يطلب هواءً نقيًا بعيدًا عن الجو الخانق الملوث الذي يكتم على أنفاس المدن والقرى التي تتمدد بلا توقف.
وفي الثالثة نكون أمام مظهر من التحديث الذي يطال بدو الصحراء، فينتقلون إلى المدن ابتغاء تعليم ووظائف أو تجارة أو لنيل بعض الخدمات المتوفرة لأهلها.
لكن تبقى ظاهرة النزوح من الأرياف إلى المدن هي الأبرز، ما أدى إلى ظاهرة "ترييف المدن"، إذ ينقل أهل القرى عاداتهم ولهجاتهم إلى أطرافها، ثم يزحفون تباعًا إلى قلوبها، وبعضهم لا يتخلى عن طرائق العيش وطقوسه التي تعلمها في أحضان القرى.
وهناك نزوح يقع بسبب ظرف غير اعتيادي، مثل هروب الفلاحين من قراهم أيام حفر قناة السويس، حتى لا يساقون إليها مكبلين في ظل نظام السخرة الذي كان مطبقًا وقتها، ومثل تهجير أهالي مدن القناة في سنوات الحروب التي امتدت من 1956 إلى 1973.
3- رحيل إلى الخارج، وبدأ ذلك الاتجاه بفعل السياسة أولًا، حين هرب كثيرون من المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين إلى بلدان الخليج خصوصًا، بعد الصدام الثاني مع نظام الرئيس جمال عبد الناصر، ولحق بهم يساريون أيام حكم أنور السادات. لكن لم تلبث أن ظهرت موجة هجرة أخرى، أكثر اتساعًا، ولهدف مختلف، تتمثل في السعي وراء الرزق، حين فتحت دول الخليج أبوابها للمصريين من مختلف الوظائف والمهن والحرف، ثم ظهرت فيما بعد الهجرة إلى أوروبا.
وفي السبعينيات بدأت أيضا هجرة مسيحيى مصر إلى الغرب، إثر تحالف السادات مع الجماعات السياسية الإسلامية لضرب اليسار، ووقوع حوادث متكررة لـ "فتنة طائفية". ورغم تحول هذا التحالف إلى مواجهة بعد رحيل السادات، فإن هجرة المسيحيين ظلت مستمرة وإلى الآن، حتى أنهم صاروا يشكلون كتلة اجتماعية وسياسية تسمى "أقباط المهجر"، وأصبحوا يطلقون على أبنائهم في مصر أسماءً أجنبيةً، إيذانًا بأنهم مهاجرون محتملون، تساعدهم أسماؤهم غير العربية على الاندماج في المجتمع الجديد.
تحولنا إلى مجتمع مغترب، أغلبه يحلم بالهجرة، ويرى فيها المسار الأمثل لصنع حراك اجتماعي
ونزفت مصر مع هذه الهجرات كثيرًا من عقولها المميزة، سواء من خريجي الجامعات في تخصصات مهمة، كالطب والهندسة والتدريس والإدارة والمحاسبة والعلوم البحتة مثل الكيمياء والفيزياء والرياضيات، أو من أرباب الحرف على تنوعها، ثم لحقت بهم العمالة الموسمية، أو عمال التراحيل، والفلاحون، الذين تركوا الأرض الضيقة لغيرهم، وهاجروا ابتغاء عمل في بلاد غريبة.
وصار المصريون في الخارج يشكلون قوةً عدديةً واقتصاديةً كبرى، فاعتمدت الدولة على تحويلاتهم كأحد مصادرها من العملة الصعبة، لكنهم لم يشكلوا قوةً سياسيةً تناسب هذا، رغم الجهد الذي بُذل لتحقيق ذلك الهدف بعد ثورة يناير 2011، فما إن أقبل هؤلاء على الالتفاف حول قضايا الوطن، والذهاب إلى أماكن تنظيم الانتخابات الدورية بالسفارات المصرية، وساهموا في النقاش الذي يدور من أجل إيجاد وسيلة لتمثيلهم وتمكينهم من المشاركة السياسية عمومًا، حتى عادت الشمولية ثم الاستبداد، فانفضوا عن كل تلك العملية، لتستمر غربتهم.
وأضيف إلى هؤلاء موجة هجرة سياسية جديدة، فعاد أتباع جماعة الإخوان للفرار إلى الخارج بعد إطاحة حكمهم في الثالث من يوليو/ تموز 2013، ومعهم بعض الليبراليين، وهناك آلاف الشباب الذي شاركوا في الثورة بكل كيانهم، ثم وجدوا أنفسهم مطاردين، أو تيقنوا من الأحلام التي راودتهم وقت الثورة وبعيدها قد تبددت، وأن أرض بلاهم قد ضاقت بهم على رحابتها.
وزادت هذه الغربة مع اشتداد الأزمة الاقتصادية، التي أدت إلى ظهور "هجرة غير شرعية"، فآلاف المصريين يقدمون، بلا انقطاع، على الهروب عبر مراكب تمخر عباب البحر المتوسط إلى أوروبا، ويدفعون لقاء رحلة غير مأمونة ولا مضمونة، كثيرًا من الأموال التي يقتطعونها من أرزاقهم، دون أن يكون في يدهم سوى أمل شحيح بإمكانية استرجاعها والإضافة إليها.
ورغم أن السلطة تبذل جهدًا في سبيل منع مثل ذلك النوع من الهجرة، فإنها تستخدمه أحيانًا كورقة ضغط على أوروبا أو الغرب عمومًا، كي يتسامح مع التسلط الموجود في مصر، ويغض بصره عن الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان، أو يمد يد العون المادي إلى الحكومة، حتى لا تنفجر الأوضاع الداخلية، فتجد أوروبا وغيرها ملايين المصريين على أبوابها.
وكل يوم يرصد المراقبون الطوابير الطويلة أمام السفارات الأجنبية، خصوصًا الغربية، لطالبي الهجرة، ومن تتاح له فرصة للدراسة، يضمر عدم العودة منذ أن تطأ قدماه أرض الغربة، أما من يحصل على عمل في بلاد الناس فيقبض عليه بكلتا يديه، متعاملًا معه على أنه فرصة طيبة قوية يحلم بها الملايين في بلاده. وهناك أيضًا من يفكرون ويبتكرون أساليب عديدة للحصول على اللجوء السياسي.
وهكذا تحولنا إلى مجتمع مغترب، أغلبه يحلم بالهجرة، ويرى فيها المسار الأمثل لصنع حراك اجتماعي، تحول أسباب وعوامل كثيرة دون تحقيقه في بلده، بعد أن صار الفساد هو الباب العالي الوسيع للتقدم ماديًا في الحياة، وصار التعليم، وإن ارتقى، لا يضمن بالضرورة لصاحبه عيشًا كريمًا، ولا مكانة مرموقة، وصار الاستبداد قابضًا على النفوس يجعلها تعيش في خوف وقلق شديدين، لا ينجو منهما حتى من تمكنوا من تحصيل سترة في العيش، أو موقعًا متقدمًا في الجهاز الإداري للدولة، أو بين أصحاب الأعمال الحرة.
بمرور الوقت، تحولنا إلى مجتمع مهاجر، يعاني من غربة واغتراب، ولا يلوح في الأفق ما يؤدي إلى توقف ذلك الأمر الممقوت
وما يزيد من هذه الغربة، أن أغلب النازحين أو الفارين أو المهاجرين، لا ينسون جذورهم الأولى، ولا يألفون ممارسات المجتمعات التي ينتقلون إليها بسهولة، فيندمجون فيها. فالمصري، اختلافًا عن كثيرين من أبناء البلدان الأخرى، يظل مربوطًا بحبل غليظ ببلاده، فلا هو يريد الرجوع، ولا يريد أن ينصهر في المكان الذي حل فيه. وجاءت السوشيال ميديا لتجعل ذلك الأمر قائمًا يتدفق بلا هوادة.
وما يزيد من تلك الغربة أيضًا، أن ذلك الرباط الوثيق بين المصري النازح أو المهاجر، لا تنظر إليه الإدارة في كل الأحوال باعتباره شيئًا طيبًا، أو قيمة عظيمة، أو سمة حميدة، يجب عليها أن تعمل على وجودها قوية، وأن توفر لها أسباب التعزيز والاستمرار.
فقد رأينا كثيرًا من المصريين المغتربين في بلاد شتى يشكون عدم وقوف الدولة إلى جانبهم، لتمنع عنهم أصنافًا من هضم الحقوق، أو إهانة الكرامة، أو التهديد في العمل والسكن والطريق، رغم أن السلطة أنشأت وزارةً لشؤون الهجرة، تعاقَب عليها وزراء، لم يسلم أي منهم من انتقادات شديدة، لسوء أدائه، أو طول إهماله، أو تصرفه مع المهاجرين على أنهم فقط مجرد رافد لتحويل العملة الصعبة إلى البلاد، كمدخرات بنكية، أو لإعانة الأهل والأقارب.
ويتحول النزوح في الداخل، والهجرة إلى الخارج، بمرور الوقت إلى هجرة نحو الذات. فأغلب المصريين في الخارج يفتقدون إلى روابط قوية تجمع شملهم، وتعين المحتاج منهم على أن يجد ما يلبي حاجته. نعم هي موجودة في بعض البلاد، لكنها تعاني من التكلس واندلاع الصراعات التي لا تنتهي بين قياداتها، وبعضهم يستغلها لتحقيق مكاسب شخصية على حساب البقية.
كما أن السفارات والقنصليات المصرية في الخارج لا تبذل الجهد الكافي في سبيل ربط المصريين في كل بلد بها، بل تنقل إلى الأرض الغربية، سوء المعاملة التي يلقاها المواطن المصري في داخل بلاده، وهذه مسألة لا تخطئها أذن ولا عين، والشهادات عليها أكثر من أن يتم إحصاؤها.
هكذا، وبمرور الوقت، تحولنا إلى مجتمع مهاجر، يعاني من غربة واغتراب، ولا يلوح في الأفق ما يؤدي إلى توقف ذلك الأمر الممقوت، التي ظلت مصر، بتاريخها المديد، تتفاداه، بينما تفتح هي ذراعيها لكل غريب مستجير.