في صباح يوم ربيعي توجّه رمضان عوض ليرعى زرعته في أرض تتسع فدانًا ونصف بمحافظة الدقهلية. لكنَّ البهجة التي تثيرها أشعة الشمس المنعكسة على سنابل قمحه، لم تخفف من وطأة صدمة كانت تنتظره هناك.
عندما وصل رمضان أخبره زملاؤه المزارعون أنَّ وزارة التموين وضعت ضوابط تلزمهم، مع باقي مزارعي القمح، بتوريد 12 أردبًا على كل فدان، و"امتلاكي لفدان ونص يعني إني ملزم أورّد 18 أردب، وأنا أصلًا بزرع اﻷرض نصيبي من ميراث والدي علشان نخبز في البيت أو أهادي جيراني وأصحابي"، يقول رمضان الذي قد يواجه خطر الغرامة بقيمة 1770 جنيه عن كل أردب لا يورده من الحصة المقررة.
كانت وزارة التموين والتجارة الداخلية قررت إلزام مزارعي القمح بتوريد 12 أردبًا على كل فدان بحد أدنى، وألا تقل درجة نظافة الكميات الموردة عن 22.5 درجة، وحال بيع أي كميات من المحصول قبل ذلك القرار فإنه يتوجب على المشترين توريد الكميات ذاتها لصالح الوزارة والجهات المسوقة.
وحظرت الوزارة بيع أي كميات من القمح المحلي لجهات أخرى بخلاف الشركة المصرية القابضة للصوامع والتخزين والشركة العامة للصوامع والتخزين، وشركات المطاحن التابعة للشركة القابضة للصناعات الغذائية، والبنك الزراعي، إلا بعد الحصول على موافقة كتابية وتحديد الجهات التي سيباع لها، والكميات المباعة وغرض الشراء وأماكن التخزين.
ومع هذه القرارات الملزمة بتوريد كميات قد يراها بعض المزارعين مبالغ فيها، لم تنجح الدولة في جمع الكميات المستهدفة والمقدرة بنحو 5.5 ملايين طن، فيما بلغ ما ورد للصوامع الحكومية 4.2 مليون طن من المحصول المحلي حسبما أعلنت من قبل إدارة شركة الصوامع الحكومية.
مساحات صغيرة
من جهة، اعتبر نقيب الفلاحين حسين عبد الرحمن في حديثه إلى المنصة أن توريد 4.2 مليون طن قمح رقم "كبير"، خاصة في ظل ما واجه الموسم من مشكلات مثل انخفاض مساحات الأراضي المنزرعة بالأقماح ما يصعب فكرة ذهاب كل صاحب حيازة لتسليم كميات صغيرة بجانب عدم دقة بيانات الأراضي بالكامل.
الوزارة التي ألقت بالمسؤولية على المزارعين، واتهمتهم بعدم تسليم الكميات المطلوبة، تحدث مسؤول فيها مطلع على ملف توريد القمح المحلي إلى المنصة، ليوضح أن المديريات لم تستطع توريد الكميات المستهدفة البالغة نحو 5.5 مليون طن، نظرًا "لعدم دقة بيانات الأراضي المنزرعة".
وأشار المصدر إلى أنَّ بعض المزارعين عادةً يستخدمون محصول القمح في إطعام أسرهم وجيرانهم، ولا يخصصونه للتجارة والبيع، خاصة مُلاك المساحات الصغيرة التي تقدر بمتوسط فدان لكل مزارع.
وتمتلك الوزارة بيانات بالأراضي المزروعة، وفقًا للمصدر الذي استدرك أنها "لم تراعِ وجود مساحات صغيرة لا ينطبق عليها قرار التوريد"، إذ يلزم القرار من يمتلك فدانًا فأكثر، أمّا المساحات التي تقل عن فدان فهي غير ملزمة بالتوريد، لتدرج نسبة غير قليلة من المزارعين ملاك اﻷراضي الصغيرة إلى جملة اﻷراضي المستهدف استلام كميات اﻷقماح منها بالتالي لم تكن البيانات دقيقة.
النقطة اﻷخيرة يتفق فيها نقيب الفلاحين مع المصدر الوزاري، ويشرح أن 80% من الأراضي المنزرعة بالقمح تقع على مساحات صغيرة، و"الكمية المطلوب توريدها لا تستدعي التجميع والمشال، والنقل إلى نقاط التجميع وانتظار طابور التوريد".
في الموسم الماضي عالجت الوزارة إشكالية تجميع الكميات القليلة عبر نقاط ومراكز تجميع بالمحافظات، التي شملت الشون المطورة والهناجر، لكن الوزارة تأخرت هذا الموسم في تجهيز مراكز التجميع، ليتعاقد الفلاحون مع التجار غير التابعين للوزارة، بحسب نقيب الفلاحين.
وتأتي أزمة تراجع معدلات توريد القمح المحلي وسط أزمة عالمية في الحصول على الحبوب جراء الحرب الروسية الأوكرانية، إذ يواجه نحو 276 مليون شخص حول العالم مجاعةً بسب نقص الغذاء الذي ارتفعت تحذيرات تقارير أممية بشأنها.
ويقدر حجم استهلاك القمح في مصر نحو 18 مليون طن سنويًا، بينما تبلغ مساحة اﻷرض المنزرعة نحو 10 ملايين من الأفدنة خلال العام الجاري، ويجري استيراد باقي الاحتياجات من الخارج.
وطالب نقيب الفلاحين بضرورة استلام الأقماح خلال موسم التوريد المقبل عبر الجمعيات التعاونية، التي تتحدد فيها أسماء المزارعين وحجم مساحات الأراضي التي يمتلكونها، بالتالي يمكن معرفة الكميات المستهدفة من كل جمعية وتحديد مستهدفات إجمالية دقيقة، وهو ما يقضي على "الحيازات الوهمية" التي تُصرف على إثرها حصص سماد مدعمة.
حيازات وهمية وفروق أسعار
إشكالية الحيازات الوهمية قديمة وتعاني منها الوزارة سنويًا، وهو ما يقرّ به المصدر الذي أكد اكتشاف مساحات مسجلة ضمن الأراضي المزروعة بالقمح وتحصل على أنواع الدعم والأسمدة، لكنها ليست موجودة على أرض الواقع، وقيدت على نحو مخالف له.
وأظهرت بيانات سابقة صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والأحصاء أن مصر تعد أكبر مستورد للقمح حيث قامت باستيراد 12.9 مليون طن في 2020 للحكومة والقطاع الخاص، بينما تسعي الحكومة لتقليل الاستيراد خلال العام الحالي، لكنّ تراجع التوريد المحلي يحول دون تحقيق الهدف.
ويبدو أن التقدير الخاطئ للمساحات المنزرعة ليس وحده السبب، فاﻷسعار التي طرحتها وزارة التموين على المزارعين لشراء القمح ليست مكافئة لأسعار تجار القطاع الخاص. وعرضت الوزارة اسعار تتراوح بين بين 865 إلى 885 جنيهًا للأردب المحلي حسب درجة النظافة، بينما عرض بعض التجار أسعار تفوق تلك الأرقام.
هنا يقر المصدر أن تجار القطاع الخاص اقترحوا أسعار توريد تفوق أسعار الوزارة بنحو 20%، رغم الحوافز الإضافية التي تمنحها التموين للموردين "الملتزمين"، لكنها لم تصل إجماليتها إلى ما يدفعه التجار.
واتهم المصدر الوزاري بعض المزارعين الذين يمتلكون مساحات كبيرة من الأراضي ببيع المحصول للتجار الذين يعيدون بيعه لأصحاب المخابز السياحية، ومخابز الفينو والمنتجات والأصناف المختلفة التي تنتج من دقيق القمح، علاوة على أصحاب مصانع إنتاج البسكويت بكافة أنواعه.
وهو ما أكده نقيب الفلاحين بتوريد بعض المزارعين كميات إلى القطاع الخاص، مستدركًا أنهم أبرموا اتفاقيات مع التجار قبل إصدار الوزارة.
وشدد المصدر أن الوزارة طلبت توريد 12 أردبا على كل فدان في حين تصل إنتاجية الفدان الإجمالية 20 أردبًا بالتالي حال إلتزام المزارع بتوريد الكمية المطلوبة للوزارة يمكنه بيع الكميات المتبقية بشرط الحصول على موافقة رسمية.
العصا والجزرة
كانت الوزارة أقرت عقوبات على مخالفي ضوابط توريد القمح المحلي، سواء مشارك في بيع القمح أو بائع أو مشتري أو ممول أو وسيط، وبشكل عام تصادر الكميات المضبوطة وسيارات النقل المستخدمة في نقله، لتضاف الكمية إلى مخزون الدولة الاستراتيجي من المحصول، علاوة على حرمان غير الملتزمين بالتوريد من دعمي الأسمدة والبنك الزراعي الموسم المقبل.
ووعدت الوزارة "الموردين الملتزمين" بسداد سعر الكمية خلال 48 ساعة من تاريخ التوريد لصالح المزارعين، ومنح الملتزمين كميات من "النخالة" المستخلصة من القمح وتبلغ تكلفتها آلاف الجنيهات للطن لتتعاظم استفادة المزارعين المالية، علاوة على تحمل تكلفة النقل عن المزارعين الملتزمين بالتوريد.
هنا يقرر عوض أن يورد محصول الموسم المقبل، مطالبًا الوزارة بتسهيل هذه العملية خاصة على أصحاب الحيازات الزراعية الصغيرة من خلال تخصيص وسائل لنقل المحصول من أكثر من قطعة أرض مجاورة لبعضهم البعض بشكل مجمع.
تشير اﻷرقام إلى أن سياسات وزارة التموين المتمثلة في "العصا والجزرة"، العقوبات والحوافز، لم تجد نفعًا في تحقيق الكميات المستهدفة، اﻷمر الذي يجعل التساؤل مشروعًا: ماذا ستفعل الحكومة في الموسم المقبل؟