لكل مشروع ركائزه وقواعده، والقاعدة الأساسية لنهضة البلاد والأمم هي التعليم، فلا تحديث أو تطور أو تنمية دون منظومة تعليمية قادرة على تنشئة أجيال مؤهلة ومدربة في كل المجالات.
قبل نحو قرنين وعندما أراد محمد علي باشا أن ينقل مصر من عهود التخلف والانحطاط، ارتكز عليه باعتباره الرافعة التي يمكن أن تُلحق البلاد بعصور الحداثة التي سبقتنا إليها الدول الأوروبية.
تسلم محمد علي حكم البلاد وكان "الجهل قد ساد بين أهلها وانحطت مداركهم" كـ"نتيجة طبيعية لحكم العثمانيين والمماليك الذين قبضوا على البلاد بيد من حديد ووضعوا فيها بين المصري وبين نور العلم الحديث حجابًا كثيفًا"، كما يقول المؤرخان عمر السكندري وسليم حسن في كتاب "تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قُبيل الوقت الحاضر".
لذا رصد الوالي له كل ما يمكن من إمكانيات، ولما وجد أن أهل القرى والأرياف زهدوا التعليم، قرر أن يكون إجباريًا على بعض الطلاب المختارين "مع تكفُّله بنفقات تعليمهم وإطعامهم وإلباسهم، وكان يحبِّب إليهم العلم والتعليم بإعطائهم الرواتب الشهرية، ومن العجيب أنه كان مع هذا يُضطَر غالبًا إلى أن يقود التلاميذ إلى دور العلم بالسلاسل والأغلال".
أنشأ محمد علي في البداية 50 مدرسةً ما بين ابتدائية وتجهيزية وخاصة، وكان عدد مَن فيها مِن الطلبة 11 ألفًا تقريبًا، وأسس مدرسةً لتعليم نخبة أبناء الأمة سمَّاها كلية الأمراء، كان يتعلم فيها أبناؤه وأبناء الأمراء، وبلغ عدد تلاميذها نحو 500 تلميذ.
وبعد سنوات بلغ عدد المدارس في مصر خلال عهد محمد علي نحو 1500 مدرسة، في وقت كان فيه عدد سكان مصر نحو أربعة ملايين نسمة، ما يعني أنه خصص مدرسةً لكل 2600 مواطن، وهو إنجاز كبير وفق معطيات العصر.
كان رفاعة الطهطاوي من أبرز الأسماء التي برزت وقتها كداعية للتحديث والنهضة، "التقى مشروعه بمشروع محمد علي لبناء الدولة الحديثة، فكان نموذجًا إيجابيًا للقاء المفكر بالدولة، وقف معها عندما كان مشروعه الفكري متوافقًا مع مشروعها السياسي، وابتعد، بل أُبعد ونُفي عندما اصطدم المشروعان في عصر عباس الأول وهو الوالي القائل: الأمة الجاهلة أسلس قيادة من الأمة المتعلمة"، يقول الدكتور عماد أبو غازي في مقدمة كتاب الطهطاوي "المرشد الأمين للبنات والبنين".
وكما انعكست أفكار الطهطاوي على مشروع تطوير وتحديث التعليم في عهد محمد علي، كانت لأفكار وخطط علي باشا مبارك أبلغ الأثر في نهضة المدارس خلال عهد الخديوي إسماعيل الذي أراد أن يجدد مشروع جده الذي تعرض للتجريف والانهيار خلال عهدي عباس الأول وسعيد اللذين "أغلقا المدارس والدواوين وضيَّقا الخناق على التعليم وأوقفا البعثات".
وضع علي مبارك خطةً متكاملةً للنهوض بالتعليم وتطوير مرافقه ومناهجه، بهدف نشره بين عموم المصريين ورفع كفاءة المدرسين، عملت الخطة التي أُطلق عليها "لائحة رجب" نسبة إلى الشهر العربي، على وضع كيان قومي للتعليم أساسه شعبي متطور تشرف عليه الحكومة وتوليه عنايتها، وطرحت اللائحة خطة للتوسع في إنشاء المدارس المركزية وتدريب المعلمين، وأوقفت عدد من الأوقاف للتكفُل بإصلاحات وصيانة المدارس والكتاتيب.
في مطلع عام 1882، انعقد أول برلمان حقيقي في تاريخ مصر، كان ذلك المجلس أحد ثمار الثورة العرابية التي أجبرت الخديوي توفيق على الخضوع لمطالب الشعب، ووضع هذا البرلمان الذي كان من حقه مساءلة الحكومة وسحب الثقة منها تعميم التعليم ونشره بين المصريين على رأس أجندة أولوياته.
عبَّر أحد النواب عام 1933 عن خشيته من أن يفسد التعليم أبناء الفلاحين، ويجعلهم يعتادون حياة المدينة، ويخرجون إلى حقولهم بالبلاطي والأحذية، ويركبون الدراجات
في الجلسات الأولى لذلك المجلس دعا النواب وزير المعارف العمومية إلى تقديم حصر بالمدارس الابتدائية في القطر -أميرية كانت أو غير أميرية-، وما يمكن للنظارة إنشائه من المدارس الابتدائية، والعدد الذي يمكن تخريجه من مدرسة المعلمين، كما قرر تعيين لجنة من المجلس للنظر في الوسائل التي يمكن بها إنشاء مكتب ابتدائي (فصل) في كل بلد أو قرية ليس فيها مدرسة، على أن تدرس اللجنة جهدها لرفع نفقات التعليم في تلك المكاتب عن عاتق الحكومة.
وفي جلسة لاحقة عقدت في 12 مارس/ آذار 1882، حضر وزير المعارف لتقديم البيانات التي طلبها النائب عبد السلام المويلحي، وعرض على المجلس معطيات حالة التعليم في مصر، ورد على الأسئلة بالتفصيل، وطالب المساعدة في تأسيس بعض المدارس على نفقة النواب.
بعد شهور من تلك الجلسة وقعت الواقعة وسقطت مصر تحت الاحتلال الإنجليزي الذي أجهض مشروع الدولة الحديثة الذي حاول المصريون وضع قواعده بعد اندلاع الثورة العرابية. وكان له بالغ الأثر على أحوال التعليم، وشجعت سلطات الاحتلال التعليم الأجنبي الذي كان قاصرًا على فئات بعينها من القادرين، أمّا عموم المصريين فلم يُسمح لهم إلا بقدر يسير من التعليم يتيح لهم خدمة تلك الطبقات والفئات.
في مايو/ أيار عام 1933، ناقش البرلمان مشروع قانون للتعليم، وخلال المناقشات اعتبر بعض النواب أن تعليم أولاد الفقراء "خطر اجتماعي هائل لا يمكن تصور مداه، لأن ذلك لن يؤدى إلى زيادة عدد المتعلمين العاطلين، بل يؤدى إلى ثورات نفسية"، وطالب بعضهم بأن يقتصر التعليم على أبناء الموسرين من أهل الريف، بحسب ما طرحه الدكتور رؤوف عباس في كتاب "دراسات في الحقبة الناصرية".
وعبَّر أحد النواب خلال تلك المناقشات عن خشيته من أن يفسد التعليم أبناء الفلاحين، ويجعلهم يعتادون حياة المدينة، ويخرجون إلى حقولهم بالبلاطي والأحذية، ويركبون الدراجات، ويتطلعون إلى ركوب السيارات.
وعندما طُرح قانون التعليم الإلزامي للمناقشة بالبرلمان (1937-1938) تجدد الحديث حول الخشية من إفساد التعليم للفلاح، وعدم جدوى تعليم أبناءه الجغرافيا والتاريخ بل يجب أن يتعلموا شيئًا عن أدوات الزراعة ودودة القطن وكيفية مقاومتها.
ويضيف رؤوف عباس في دراسة له وردت ضمن الكتاب المشار إليه، أن "النخبة الحاكمة في الثلاثينيات والأربعينيات كانت غير مهيأة تمامًا لإعادة صياغة الواقع المصري في إطار مشروع نهضوي وطني يحقق أمل الجماهير في التحرر الوطني والعدل الاجتماعي، وهو ما دارت حوله اجتهادات بعض دعاة الإصلاح وحركات الرفض السياسى حتى قدم الجيش المصرى الطليعة الثورية من الضباط الأحرار التي أطاحت بالنظام السياسي الذي صاغه دستور 1923، ليحل محله نظام سياسي جديد سعى لتحقيق أمل الجماهير في التحرر الوطني والعدل الاجتماعي في مواجهة أعتى التحديات على الصعيدين الداخلي والخارجي".
وكما تعامل محمد علي مع التعليم باعتباره القاعدة الأساسية للانطلاق نحو الحداثة والتطور تعاملت ثورة 23 يوليو 1952 مع ذلك المرفق باعتباره ركيزة مشروعها، اهتمت بشئونه وأقرت مجانيته وتوسعت في نشر المدارس في القرى والمدن والمراكز وربطت بينه والتصنيع فأنشأت المدارس الصناعية بمختلف أنواعها.
وكما أُجهض الفرصة الأولى قُيدت الثانية، فبدأ التراجع بالتعليم الحكومي المجاني في العقود الأخيرة من القرن الماضي عندما قررت الدولة أن تتخفف من التزاماتها تجاه المواطنين، وأصبح التعليم الجيد قاصرًا على الفئات القادرة على دفع تكلفته في المدارس الخاصة والدولية، بينما أُهملت المدارس الحكومية وارتفعت الكثافات في فصولها وتكدس التلاميذ في أفنيتها، وغابت الأدوات التعليمية عن معاملها، فصارت المدارس هي والعدم سواء.
وبلغ التردي والانهيار في المنظومة التعليمية حدَّ الخطر، فلم يعد الأمر قاصرًا على عدم حصول أولادنا على جرعة كافية من التعليم الجيد في المدارس الحكومية، بل إن حياتهم صارت معرضة للخطر نتيجة الإهمال وغياب الرقابة والكثافة العالية في الفصول والأفنية.
فوجئ الرأي العام بوفاة تلميذتين في أول أيام الدراسة هذا العام نتيجةً لتلك الأمراض التي تراخت الحكومات المتعاقبة في علاجها، وسيطر الخوفُ على أولياء الأمور للدرجة التي صاروا فيها يخشون إرسال أبنائهم إلى تلك "المدافن"، على حد تعبير والد تلميذة مدرسة سيد الشهداء بحي العجوزة التي لفظت أنفاسها الأخيرة بعد سقوطها من الدور الثالث بالمدرسة في ثاني أيام الدراسة.
أكثر الدول حاجة إلى الاستثمار في التعليم والإنفاق على متطلباته هي الدول الفقيرة النامية التي تعمل على طي عهود التخلف والفقر والمرض واللحاق بقطار التقدم والتنمية، فمن دون تعليم جيد لا استقرار ولا تنمية ولا تقدم ولا جمهورية جديدة ولا حتى قديمة.