لقطة من فيديو.
تمويه عيون عناصر جدد في تنظيم الدولة خلال فيديو بيعتهم.

عيون داعش تتوارى عن الذكاء الاصطناعي

منشور الأحد 16 أكتوبر 2022

في 20 مارس/ آذار 2020 أثار أحد مُناصري تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، نقاشًا على منصة rocket.chat حول فيديو لشخص مُلثم يشرح خطورة تقنية التعرف على الوجوه face recognition technology، في كشف هوية من وصفهم بـ "المجاهدين".

خلال الفيديو، حذر المُلثم الذي يتحدث العربية من التقنية التي يُمكنها التعرف على المُقنعين في الصور والفيديوهات، وفضح هويتهم عبر تحليل العينين، وقياس قُطر الرأس والأنف والمسافات بين الأجزاء الظاهرة، ما يهدد بكشفهم.

أثار الفيديو الذي لم يتعدَّ دقيقةً واحدةً، نقاشًا في مجموعات مناصري التنظيم في الإنترنت المظلم dark web. فالبعض، ورغم اعترافهم بوجود التقنية، قللوا من خطورتها لأسباب تتعلق بعدم انتشارها أو انخفاض كفاءتها، حتى أنَّ أحدهم قال إن الفيديو "غرضه بث الرعب في الصفوف وتدمير النفسية، فوالله إنه الخداع للبصيرة وحقد من السريرة.. لن ينالوا ما يتمنون".

ملثم يحذر من خطورة الذكاء الاصطناعي على المجاهدين.

لكنَّ الإصدارات الحديثة التي أصدرتها داعش خلال العام الجاري، كشفت عن تحول في أسلوب إخفاء هوية عناصره، بالتشويش الكامل على وجوههم بما فيها الأنف والعينين، للهروب من تقنيات التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي، الذي أصبح قادرًا على معرفة هوية المُلثمين، وفق خبراء وباحثين.

هكذا، تحولت التقنية من موضع شك لدى عناصر التنظيم، إلى يقين يستوجب التخفي منه. يأتي ذلك في وقت تتواصل فيه الضربات على التنظيم، بداية من سقوط خلافته المكانية بطرده من آخر معاقله في مدينة الباغوز السورية، ثم قتل زعيمه أبو بكر البغدادي عام 2019، وما تلاه من سقوط مُعظم قياداته، وصولًا إلى استهداف زعيمه التالي أبو إبراهيم الهاشمي في فبراير/ شباط الماضي، قبل أن يتولى أبو الحسن الهاشمي قيادة التنظيم الآن.

التخفي

تزامن الأسلوب الجديد في التخفي، مع تولي الزعيم الثالث لداعش القيادة، إذ ظهر أعضاء التنظيم وهم يبايعون الخليفة الجديد متخفين بالكامل للمرة الأولى في كل فيديوهات البيعة العشر التي أذيعت في مارس/ آذار الماضي، تحت عنوان "ماضٍ جهاد المؤمنين". 

وخلال تلك المقاطع ظهر أعضاء التنظيم من سوريا والعراق وباكستان والهند وأفغانستان وسيناء والصومال وغرب ووسط أفريقيا، متخفين، في أسلوب لم يكن متبعًا في السابق.

ولم يقف أسلوب التخفي الجديد بتمويه العينين، عند مقاطع البيعة، بل تكرر في الإصدارات التالية، منها واحد صدر في يونيو/ حزيران الماضي من غرب إفريقيا، وآخر في يوليو/ تموز من العراق.

عنصر في تنظيم الدولة الإسلامية من إصدار في العراق.

الباحث في تكنولوجيا المعلومات ديفيد سمير أرجع، في تصريح للمنصة، التوجه الجديد في تمويه أعين عناصر داعش إلى نجاح تقنيات الذكاء الاصطناعي في اصطيادهم، ما دفع عناصر التنظيم العارفين بخطورة وقدرة تلك التقنيات، اتباع نهج جديد لتفاديها.

ولفت سمير  إلى أن أجهزة الأمن قديمًا كانت تعتمد بشكل أساسي على البيانات التقليدية المُسجلة لديها عن الشخصيات المُتطرفة لتتبعها، أما الآن فتجاوزت ذلك عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق deep learning، التي ساعدت على سد الثغرات وتضييق الخناق على المُتطرفين والمجرمين بشكل كبير.

والتعلم العميق هو مجال فرعي لـما يعرف بـ machine learning، يتعامل مع مجموعة أصغر من الخوارزميات، معروفة باسم الشبكات العصبية، وهي مستوحاة من العقل البشري. وأحرز تقدمًا كبيرًا في حل المشكلات التي كانت تستغرق وقتًا طويلًا قبل ذلك، وهو قابل للتطبيق في العديد من مجالات العلوم والأعمال، بالإضافة إلى التعرف على الصور والكلام، وصولًا إلى التعرف على الوجوه.

كيف تعمل التقنية؟

تُعد تقنية التعرف على الوجوه من التقنيات البيومترية، التي تعني إمكانية تحديد هوية الشخص من خلال نظام القياس والاستدلال الحيوي، عبر استخدام الخصائص الفسيولوجية مثل المساحة بين العينين وطول الأنف وشكل ومُحيط الشفاه وتباعد الأذنين وعرض الذقن؛ بغرض التعرف اﻵلي على الأشخاص.

نقاط التعرف على الوجه في التقنية.

وتعمل تلك الخاصية بعد إدخال الصورة ومسحها ضوئيًا، على خلق نماذج templates تعتمد على الخوارزميات الحسابية الخاصة ببنية الوجه، لتحديد هوية الشخص، في عملية تمر بمستويات أربعة هي: الاكتشاف، والتوصيف، والتحقق، والتعرف.

تطور التقنية 

ورغم أن الحديث عن التقنية مُثار مُنذ سنوات إلا أن فعاليتها في التعرف على المُلثمين أمر حديث نسبيًاـ فوفق تقرير نشرته دورية مكافحة الإرهاب البريطانية، نهاية العام الماضي، فإن أفضل خوارزميات التعرف على الوجه تمت دراستها من قِبل مختبرات المعهد الوطني للمعايير والتقنية الأمريكية NIST، لم تكن قادرة على تحديد المُلثم الذي يرتدي القناع بنسبة تصل إلى 50% حتى نهاية عام 2020.

لكن وفق التقرير ذاته، ونتيجة التطور الهائل يومًا بعد يوم، أصبحت تلك الخوارزميات قادرة على تحديد المُلثمين بشكل صحيح بنسبة 96% اعتبارًا من يناير/ كانون الثاني 2021. وبعدها بدأ داعش ينتبه لخطورتها، واتخذ قراره نحو التخفي الكامل من الذكاء الاصطناعي.

ويرى سمير، أنه من مظاهر هذا التطور في الكشف عن شخصية المُقنعين، هو تطور علم الفراسة physiognomy، الذي بات يعتمد بشكل أساسي على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وبات قادرًا على تحليل شخصية الإنسان دون أن تكون له قاعدة بيانات مُسجلة، بل وكشف انتمائه ودوافعه بسهولة سواء كانت سياسية أو تطرف أو غيره. 

يُشار إلى أن علم الفراسة يختص بدراسة التطابق المنهجي للخصائص النفسية مع ملامح الوجه أو بنية الجسم. وأصبح حديثًا يعتمد على الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي وهو ما بات يُطلق عليه الذكاء الاصطناعي الفسيولوجي physiognomic AI.

تطويع التكنولوجيا لمواجهة الإرهاب 

يجري تطويع التكنولوجية في مواجهة الإرهاب منذ سنوات، وأظهرت قدرة على إسقاط العديد من العناصر،  ففي يناير 2016، نشرت صحيفة الجارديان البريطانية تفاصيلًا بشأن محاولات الاستخبارات البريطانية الكشف عن هوية مُقاتل مُلثم في تنظيم الدولة، ظهر رفقة طفل صغير في أحد الإصدارات الدعائية للتنظيم مُتحدثًا باللغة الإنجليزية.

خلال مبايعة عناصر من داعش للبغدادي في 2019.

وقالت الصحيفة آنذاك، إن الاستخبارات تتتبع نفس الأسلوب الذي اتبعته في كشف هوية محمد أموازي، المعروف بـ الجهادي جون، الذي قُتل في غارة لطائرة بدون طيار في سوريا في نوفمبر 2015، وكان دائم الظهور مُلثمًا خلال إعدام الرهائن الغربيين في عامي 2014 و2015.

وأشار التقرير إلى أن كشف هوية إموازي تم عبر استخدام برمجيات التعرف على الصوت، جنبًا إلى جنب مع تقنية التعرف على وريد اليد، وجمع المعلومات الاستخباراتية التقليدية حول الإرهابيين البريطانيين المألوفين، لافتًا إلى أن تلك العملية استغرقت ما يقرب من عام ونصف العام، وهو وقت طويل نسبيًا.

أثار هذا التقرير سؤالًا حول ما إذا كانت هُناك حلول أخرى أسرع وأكثر تطورًا ودقة في كشف هوية الإرهابين. الأمر الذي دفع الاستخبارات الغربية نحو البحث في تطوير آليات أكثر فاعلية للتغلب على ظاهرة "الإرهابي المُقنع".

إلى أن كشف تقرير آخر لـ معهد واشنطن في سبتمبر / أيلول2017، عن تطوير الشرطة الجنائية الدولية/الإنتربول عددًا من الأدوات التي يُمكن أن تستخدمها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على حدودها، ومن بينها برامج التعرف على الوجوه، لمقارنة الصور الملتقطة للأشخاص مع تلك المُخزنة في قواعد بياناتها، والتي قد تُساعد الشرطة في تحديد الهويات، لاسيما في النقاط الحدودية.

يعة عناصر التنظيم لابو إبراهيم القرشي الذي قتل في فبراير الماضي.

لم ينته الأمر هنا، إذ توقع الباحثون أن هذه التقنية قادرة على إحباط عمليات التنظيم في المستقبل، عبر تطويع قدرة الذكاء الاصطناعي على تحليل الصور والفيديوهات التي تلتقطها كاميرات المراقبة ذات تقنية التعرف على الوجوه في الأماكن العامة وتحديد الأشخاص المشتبه بهم وإيقافهم في الوقت المناسب.

كما أن التقنية، وفق الباحثين، قادرة أيضًا على اكتشاف وتحديد الأسلحة في أماكن مثل المدارس والمواقع الأمنية والعسكرية، عبر تحديد وفصل مجموعة من الصور أو مقاطع الفيديو المختلفة إلى مجموعات وتحليلها، مما يؤدي في النهاية إلى إنقاذ الأرواح.

وتُعتبر الدرونز التي تتعرف على الوجوه drones with facial recognition إحدى أحدث مظاهر هذه التقنية، بعدما تمكن الباحثون من تطوير أنظمة تحكم ذاتية للطائرات بدون طيار جعلتها قادرة على التنقل وتنفيذ المناورات دون تدخل وحدة التحكم البشرية، أي أنها قادرة على التعرف على الوجوه من مسافات تتراوح بين 800 - 1000 متر عن سطح الأرض، ومقارنتها بالقاعدة المخزنة لديها، واتخاذ قرار بشأنها.

وسبق واستخدمتها وكالات أمنية في البحث عن المفقودين قبل الحديث عن إمكانيات دخولها في مجال مكافحة الإرهاب.

وبينما تدارك داعش  في مرحلة وهنه الحالي تلك المخاطر، وبدأ في تفاديها بتمويه العينين والتخفي الكامل، فإن الأبحاث ومحاولات التطوير لا تتوقف هي الأخرى.