عندما شاهدت فيلم إمبراطورية ميم (1972) في التليفزيون المصري، منتصف السبعينيات، كنت في مثل عمر مدحت الذي أداه هشام سليم تقريبًا.
لا أذكر التاريخ بدقة، لكنني أذكر جيدًا الأثر الذي أحدثته فيَّ تلك الشخصية أداها سليم كطفل على أعتاب المراهقة. وحين أتذكر الفيلم اليوم، أكاد أستعيد الشعور نفسه. وعندما أمر بذاكرتي على ما شاهدته من مئات الأفلام المصرية، أفكر في أن الشخصية التي أداها فيه استثنائية ويندر أن تجد لها مثيلًا في السينما المصرية كتابةً واختيارًا للممثل الذي يؤديها وأسلوب الأداء التمثيلي لصبي جميل واثق وهادئ وطبيعي حد الاستفزاز.
عندما أدى هشام ذلك الدور، بدا كما لو كان غادر الطفولة منذ عدة ساعات، يدخن السجائر خلسة في غرفته، ويختلس القبلة الأولى في حياته من خادمة زميل له في المصعد، معلنًا من خلال التدخين والجنس أنه أصبح رجلًا. وبقدر طرافة الموقف، بقدر الشعور بالخطر الذي يثيره؛ ليس فقط خوفًا على ذلك الطفل الذي يدخل إلى المجهول، ولكن أيضًا خوفًا منه، من تلك الرغبة والشهوانية التي تطل من عينيه الناعستين وشفتيه الممتلئتين.
لا أحد مثل المخرج حسين كمال، بإمكانه التعبير عن غواية وقلق الجنس بتلك القوة، من فيلم المستحيل إلى أرجوك أعطني هذا الدواء، مرورًا بـالبوسطجي، وثرثرة فوق النيل، وحتى إمبراطورية ميم.
هشام سليم يتحدث عن مشاهده في فيلم إمبراطورية ميم
يعد إمبراطورية ميم فيلمًا عائليًا خفيفًا، يعالج مشاكل التربية الحديثة من منطلق وسطي محافظ، ويشارك هشام سليم بدور هامشي فيه، وفي حياة الأسرة كذلك. لكن الطبيعية التي يؤدي بها دوره، واللحظة العمرية التي يعبر عنها بكل ما فيها من توتر، تركت تأثيرًا، كما أتصور، لدى جيل كامل من مراهقي السبعينيات والثمانينيات.
بعد عدة سنوات يعود هشام إلى السينما، مراهقًا مكتمل النمو في رائعة يوسف شاهين عودة الابن الضال (1976)، ليلعب شخصيةً أخرى تركت تأثيرًا كبيرًا في حياة ذلك الجيل والأجيال اللاحقة.
لم يحظَ عودة الابن الضال بالتقدير الذي يستحقه في زمنه والسنوات التالية. أذكر أنني شاهدته في المركز الثقافي الروسي في نهاية الثمانينيات، وكان الحاضرون يسخرون من أسلوب ماجدة الرومي في أغنية "مفترق الطرق". وشاهدته مرة أخرى في سينما كريم في التسعينيات، ولقي حينها إعجابًا متحفظًا من المشاهدين.
لكنَّ الفيلم، حين عرض حديثًا ضمن أسبوع لأفلام شاهين عام 2018 كان المشاهدون في حالة انبهار ونشوة دائمة، وكانت القاعة كلها تردد أغاني الفيلم خاصة "مفترق الطرق".
أغنية مفترق الطرق
عودة الابن الضال لؤلؤة فريدة في عقد السينما المصرية تزداد ألقًا بمرور الزمن، ودور هشام سليم، إبراهيم، المراهق المتمرد على سلطة أبيه الديكتاتور، وعلى العفن الذي يضرب بجذوره داخل بيت العائلة، الحالم بالوصول إلى القمر، حبيب ماجدة الرومي، تفيدة، الفتاة القوية الواثقة، التي تنقذ حياته مرتين، مرة من عقرب يلدغه، وأخرى من سجن أبيه.
وكما في إمبراطورية ميم، نشاهد مراهقين بالفعل، لا ممثلين محترفين في الثلاثين يؤدون أدوار مراهقين. إبراهيم وتفيدة من أجمل ثنائيات السينما المصرية، تكاد تلمس "حب" الشباب الذي يفور من جسديهما، وتستشعر خجلهما وعواطفهما المشبوبة التلقائية، وحبهما العابر للزمن، مثل حلم جميل يخطر ببال المستقبل.
مضت السنوات سريعًا، ودار الموت والشيخوخة على من صنعوا الفيلم وشاهدوه، لكنَّ إبراهيم وتفيدة يظلان دائما الخضرة، مثل شباب الجنة الخالد.
على الرغم من النجاح والانتشار اللذين حققهما هشام سليم وقدرته على الاستمرار كممثل، على عكس كثير من الذين يبدؤون أطفالًا، واحتفاظه بوسامته ونضارته ورشاقته إلى النهاية، وتمكنه من لعب ألوان متنوعة من الشخصيات في السينما وفي التليفزيون؛ الشعبي والأرستقراطي، الطيب والشرير، الأخلاقي المحافظ والمستهتر، كما تبرهن أدواره في أعمال مثل ليالي الحلمية، الراية البيضاء، أرابيسك، الأراجوز، يا مهلبية يا، قليل من الحب كثير من العنف، والثنائي الناجح الذي شكله مع شيريهان على المسرح في شارع محمد علي، وامتد إلى السينما في فيلمي كريستال وميت فل؛ رغم ذلك النجاح والاستمرار كان هناك شعور عام بأن هشام سليم لم يتواجد بالشكل الذي يستحقه كمًا وكيفًا.
يصبح السؤال أكثر إلحاحًا حين ننظر إلى القبول الذي حظى به لدى معظم الناس، ويتبدَّى في الإجماع على الحزن والفقد من قبل كل الفئات عقب وفاته، ورغم أنني لا أحب استخدام كلمات مثل "إجماع" و"كل"، فإنني في حالة هشام سليم لم أجد غير الحزن والإشادة به كممثل وإنسان راق، حتى من قبل الذين يدمنون مهاجمة الفن والفنانين.
قليلون من أهل الفن حظوا بمثل نصيبه من المحبة والتعاطف، ربما نذكر أساطير مثل عبد الحليم حافظ، أحمد زكي، فاتن حمامة، لكنَّ سليم لم يحظَ بما حظي به هؤلاء من بطولات ونجومية، وظل أسيرًا للأدوار الثانية والثالثة إلى النهاية، باستثناء عدد قليل من الأفلام التي لعب فيها دور البطولة الأولى.
ويصبح السؤال أكثر إلحاحًا عندما نفكر في أسماء تنال الكثير من الانتقادات والجدل حول إمكانياتها الفنية، ومع ذلك تحظى بالبطولات والنجومية. هذه الظواهر موجودة على الدوام، ويصعب أن نجد لها تفسيرات واضحة، وفي حالة هشام سليم تعرضت الكثير من الآراء على السوشيال ميديا لتلك النقطة.
غالبًا ما تكون الأسباب بالغة التعقيد والتشابك مثل معادلات الكيمياء التي يستعصي فهمها. ربما، رغم القبول الذي كان يحظى به، لكن شيئًا ما يتعلق بشخصيته على الشاشة كان يحول بينه والبطولات.
مشهد من مسلسل الراية البيضا
تميل السينما المصرية دائمًا إلى البطل المثير للعطف، الذي يعبر عن مشاعره بإفراط، لكن في حالة هشام سليم هناك دائمًا حاجز ومسافة بين الشخصية والآخرين، حاجز يصنعه كبرياءه الفطري، وملامحه المعتزة بنفسها، حتى وهو يعاني عاطفيًا في ليالي الحلمية، أو يستشيط غضبًا في أرابيسك، هناك اقتصاد شديد في التعبير وإرهاق مشاعره أمام الكاميرا.
ربما يتعلق الأمر أيضًا بنموذج الرجولة الذي يمثله. ويمكن مقارنته هنا بأحمد رمزي، الذي كان معشوقًا للنساء ومحبوبًا من الرجال، ولكنَّ نوع فحولته لم يكن ذلك الذي تفضله السينما كبطل رئيسي، بل دائمًا ما يكون جوار بطل ضعيف مثير للعطف، قد يكون عبد الحليم حافظ أو حتى إسماعيل يس.
ربما يتعلق الأمر كذلك بالجدية الزائدة التي ترتسم على وجهه، حتى عندما يضحك لثوان، سرعان ما تعود التقطيبة المهمومة إلى جبينه، واحدة من الميراث الثقيل الذي أخذه عن أبيه صالح سليم، راح يزحف إلى ملامحه مع مرور السنوات.
يروي هشام ضاحكًا، في حوار مع الراحل وائل الإبراشي، أنه كان يغيظ والده معلقًا على دوره في فيلم الشموع السوداء بأن تعبيراته لا تتغير طوال الفيلم، حتى عندما يُشفى من العمى، يظل مثلما كان.
بالتأكيد كان هشام ممثلًا أكثر موهبة وتمكنًا من أبيه، ولكنه ورث عنه تلك الملامح القوية الصارمة التي يصعب أن تتشكل كالصلصال مثل ملامح أحمد زكي.
ينتمي هشام سليم إلى ما يطلق عليه "ممثل الشخصية الواحدة"، هؤلاء الذين حكمت عليهم شخصيتهم أن تفرض نفسها على أي دور، مهما كان حجم موهبتهم وقدر اجتهادهم، ومن الأمثلة الأبرز على ذلك كاري جرانت وهاريسون فورد في السينما الأمريكية، ومحمود مرسي في السينما المصرية.
نقطة أخرى تتعلق بوسامته الملحوظة، التي تبدو قادمة من عالم آخر غير الشارع المصري، والبعض أرجع ذلك إلى طبيعة تربيته البرجوازية، وملامحه التي يصعب تحديد جنسيتها، هو هنا مثل عمر الشريف، لكن الأخير كانت لديه رغبة مستعرة في إثبات نفسه وتطوير موهبته، وعاش في حالة تحد دائم.
ربما لم يكن لدى هشام سليم ذلك الدافع الملح لإثبات شيء ما، ولا تلك الرغبة المستعرة في التفوق.
عاش ومات إنسانًا بسيطًا، بساطة وجمال الماء العذب، الممتلئ بسر الحياة، في ثقة وهدوء وتلقائية الطفل المراهق مدحت في إمبراطورية ميم.