على قدر قوة نظام الحكم تكون المعارضة. قلتُ "نظام الحكم" لا "الحاكم"؛ لأن الحاكم الفرد، الواحد الأحد، ينكر المعارضة ويخوّنها، ولا يعي أنَّ في انسحابها أو إبعادها هوانًا لشخصه.
في رواية "الحرافيش"، كلما كان الفتوة نزيهًا مهيبًا زادت مهابة الأهالي. وإذا ارتهن بقاؤه بإتاوة لفتوة أكبر استبد بأهله، وتفنن في الظلم.
ما يجري لحارة شعبية يقع للدول في فترات الأفول. ملك إشبيلية المعتضد بن عباد خضع لملك قشتالة الذي فرض عليه جزيةً سنويةً. وكان للمعتضد وجه آخر، رهيب، مع "الرعية". وما هكذا كان حكام الأندلس الأقوياء، وآخرهم المنصور بن أبي عامر. القبضة البوليسية تعوّض قلة القيمة الملازمة للدكتاتور الصغير أينما يذهب.
المستبد، قليل القيمة، يفضحه وجود أقوياء، لا يحتملونه ولا يحتملهم، ويخشى أن ينقلب عليه الرجل الثاني، فيطبق نظرية شوال الفئران، مقلّدًا الرجل اللئيم مورّد الفئران إلى مركز البحوث في القاهرة. في رحلته بالقطار، يحرص على تقليب الشوال؛ فتتعارك الفئران لفقدان أمانها الغريزي.
وقبل أن تطمئن وتفكر في ثقب الشوال، يعيد التقليب؛ فتنسى آمال التحرر من السجن. وعبر ثغرة في لحظة لا تتكرر، قد تتاح فرصة للرجل الثاني، فيصعد ويحصّن نفسه، بإغلاق الطرق أمام أي رجل ثانٍ قوي، خشية أن تدور عليه الدائرة. تصادف أن كان وزيرا الدفاع في الجزائر ومصر في ستينيات القرن العشرين هما الأقوى. الأول نجح، والثاني انتحروه.
كان أحمد بن بلة رمزًا لثورة المليون ونصف المليون شهيد. وتلقائيًا أصبح الرئيس، بعد انتصار الشعب في واحدة من أعظم الثورات في التاريخ. وفي يونيو/ حزيران 1965 أزاحه وزير الدفاع هواري بومدين، الرجل الثاني.
الدهاء لا يسمح بتكرار الانقلاب في الجزائر، أو سوريا حافظ الأسد. وتعاقبت الأزمنة، وبقيت المرارة في نفس بن بلة الذي وصف بومدين، في شهادته على العصر على قناة الجزيرة عام 2002، بأنه "المجاهد الذي لم يطلق رصاصة واحدة على الاحتلال الفرنسي، ولم يكن مناضلًا يومًا بل كان عدوًا للمجاهدين". أما جمال عبد الناصر فنجا من مصير بن بلة، بفضل الشعب الرافض للتنحي. والجيش لم يسعف المشير عامر.
هل كان الإبقاء على المشير، الرجل الثاني القوي المعتصم بالجيش، خوفًا من انقلاب يخشاه عبد الناصر؟ أم تعلق استمراره، وهو غير كفء، بضعف محكوم بالصداقة والتاريخ الشخصي؟ المحصلة النهائية أن إزاحة الرجل الثاني لم تكن لتنجح إلا بزلزال، فكانت هزيمة يونيو 1967. وبعدها تصاعد الغبار والزوابع، والدخان من الصدور، وتاهت الحقيقة بين النحر والانتحار. والشعب لخّص ذلك التشوّش بأنهم "انتحروه".
وفي الصراع السياسي الأهلي المكتوم لا مجال لإعادة السنة؛ لتحسين الدرجات. الأكروبات لا تسمح بخطأ في تقدير الزمن. لعبٌ احترافي لا مجال فيه للهواة، وإذا بدأ الرجل الثاني لعبة فقد لا يستطيع إنهاءها، نهايتها نهايته، إلا في حالتين، عراقية وفرنسية.
صدام حسين شكّل، في وقت مبكر، مؤسسات موازية لمؤسسات الدولة، لكنها أكثر قوة، وبعيدة عن الواجهة. يسجل زهير الجزائري في كتابه "المستبد: صناعة قائد صناعة شعب" اعتماد صدام "في صعوده الكاسح هذا على قيادته لأجهزة الأمن في دولة اعتبرت الأمن هاجسها الأول".
همّش المؤسسات الرسمية، فأصبح مكتب العلاقات يقابل الأمن والمخابرات، ومكتب الثقافة والإعلام يقابل وزارة الثقافة والإعلام، ولجنة شؤون النفط مقابل وزارة النفط، والمكتب العسكري يقابل وزارة الدفاع، وبدأ تصفية تدريجية وسريعة لكل العناصر التي يشك في ولائها. وكاد عديّ يكرر سيرة أبيه. وفي مصر بارك عليّ الدين هلال ومفيد شهاب ومصطفى الفقي وآخرون جمال مبارك وارثًا.
أما الحالة المثالية للرجل الثاني منزوع الطموح فهي فرنسية بامتياز. جوزيف فوشيه نموذج للقدرة على الاحتفاظ بمنصبه الخلفي في كل العصور. موظف كفء، ابن الدولة، آمنٌ ومأمون، على مقعد لا تهزه ثورة شعبية، ولا انقلاب نابليون على الثورة، ولا ارتداد على الثورة يعيد الملكية.
يبارك ذلك كله من الموقع نفسه. بقراءته للمشهد أدرك أن الأسد، في الفورة الثورية، لا يمكّن أحدًا من الاستقرار، والمقصلة لا ترتوي. ماكسميليان روبسبيير يسوق المشكوك في ولائهم للثورة الفرنسية، ورفاقه التاريخيين، إلى الموت. ثم يلحق بهم مطاردًا باللعنات. في الغضب البركاني لا يحتفظ بعنقه إلا داهية لا يخاطر، ويجيد وزن القوى المتصارعة؛ لتفادي الخسارة. تجسد ذلك في فوشيه.
المنقذ من اكتئاب ما بعد الثورات هو النظر إلى المصائر كدراما
فوشيه صوّت على إعدام الملك لويس السادس عشر، في يناير 1793. وتوالت مراجيح الثورة وهو محتفظ بوزارة الداخلية، وأتيح له أن يحكم فرنسا، فخاف ورفض. وفي عام 1815 أبقوه في منصبه، وزيرًا للملك لويس الثامن عشر، شقيق الملك الذي صوت فوشيه على إعدامه.
وبين إعدام ملك وتنصيب أخيه، جاء ضابط صغير السن، اسمه نابليون بونابرت، من الصفوف الخلفية. ولم يكن ليصبح له ذكرٌ في التاريخ لولا الثورة التي لم يشارك فيها، فيصبح إمبراطورًا، ويحيي ما استهدفت الثورة تدميره، ويمنح نفسه سلطات تفوق سلطات الملك لويس السادس عشر. ويكون فوشيه خادمه الأمين الذي يمهد له الطريق إلى السلطة، ويدعم حكمه المطلق.
فماذا بقي من مراجيح ثورة 25 يناير؟ لا أملك مشروع إجابة. ما يمكن قوله إن الثورة فشلت، إلى الآن على الأقل. والمنقذ من اكتئاب ما بعد الثورات هو النظر إلى المصائر كدراما. تأمُّل المأساة يهوّن من كارثيتها. لعلنا كنا طيبين أكثر من اللازم، بعد السقوط السريع لحسني مبارك.
من كان يتصور أن يُخلع في أسبوعين؟ كتبت يوم السبت 22 يناير 2011 في صفحتي على فيسبوك "من دون مقدمات ولا ترتيب، قطعت اليوم شارع محمد علي، وصولًا إلى جامع السلطان حسن، ثم جامع الرفاعي. وقفت أمام قبر الشاه، ثم قبور فاروق وأبيه الملك فؤاد وجدته. تذكرت مبارك.. سبحان من له الدوام".
الصعود المباشر للرجل الثاني، والصعود الناعم للقادم من الخلف مثل مدافع غير مراقَب في فريق الكرة، الخشن والمسهْوك كلاهما طويل العمر، بسنوات الحكم المطلق، وبالقوانين المزمنة المانعة للانقلابات والإصلاحات أيضًا. كلاهما لا يثق برجل ثانٍ قوي.
لو لم تكن الثورة لحجز هلال وشهاب والفقي مقاعد تلائم كفاءاتهم، كمثقِّفين لجمال مبارك، وربما اقترحوا عليه منح أعضاء مجلس طنطاوي مناصب، رؤساء لأحياء أو محافظين في الوادي الجديد وجنوب سيناء ومرسى مطروح. شهاب رئيس جامعة القاهرة، ووزير عدة وزارات في حكومات متوالية، خصص مبنى معهد التربية، في "حرم" جامعة القاهرة، لجمعية "جيل المستقبل" الأهلية التي كان يرأسها جمال مبارك.
مصر ليست فرنسا والعياذ بالله. لا مصري يقارن بفوشيه. لكني أتأمل مسيرة الدكتور مفيد الجاهز لإعلان بنوّته لأي نظام، بنوّة لا تشيخ منذ بروزه في منظمة "الشباب الاشتراكي" الناصرية، وعبوره جسر انقلاب 15 مايو 1971 الساداتي، وصولًا إلى منصب الأمين العام المساعد للحزب الوطني للشؤون النيابية تحت حكم مبارك الذي أكرمه بأكثر من حقيبة وزارية.
ثم نسيناه، حتى جيء به من كهف ما قبل ثورة 25 يناير، مستدعىً مثل غيره في 13 أبريل/ نيسان 2016، للإنصات إلى محاضرة رئاسية طويلة غير عميقة، تتلخص في كلمتيْ "تيران سعودية". رفعت الأقلام بالسؤال الرئاسي "نستبيح أرضهم؟". سؤال استنكاري يهدر هيبة اللغة.